لا شك أن للديمقراطية صور مختلفة، وهي تتباين في قدرتها على تحقيق أهدافها المثالية، والقول بأنها أفضل نظم الحكم لا يعني أنها بلا عيوب في التطبيق، وعندما نتحدث عن العيوب فليس لإسقاطها من قمة نظم الحكم، وإنما سعياً لعلاج هذه العيوب. وتُعَد «الديمقراطية البرلمانية» من أشهر صور الحكم الديمقراطي حيث يتولى الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية تشكيل الوزارة، فيكون مركز الثقل في النظام بحكم هيمنته على السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً. وقد لا تتوفر الأغلبية المطلقة أصلاً لحزب بمفرده، مما يفتح الطريق للحديث عن «ائتلافات حزبية» تحقق الأغلبية قد لا يتمكن من تكوينها الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان. ومع أن هذه الائتلافات تحل مشكلة الأغلبية فإنها تكون عرضة لانقسامات قد تقضي عليها وتفضي إلى أزمات سياسية كما حدث مؤخراً في إيطاليا، وفي بعض الحالات تتعثر عملية تكوين الائتلافات بسبب صعوبة المواءمة بين توجهات الأحزاب المشاركة فيها ومصالحها كما هو الحال في لبنان عادة وفي إسرائيل الآن، وفي حالات أخرى قد تطرأ قضايا تسبب انقساماً سياسياً حاداً يصيب العملية السياسية بالشلل كما يجري في الساحة السياسية البريطانية حالياً، ما يطرح قضية «عجز الديمقراطية» وفقدان فاعليتها. ففي بريطانيا وافق الشعب بأغلبية ضئيلة (52%)، في يونيو 2016، على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأدى توازن القوى في البرلمان إلى عدم الاتفاق على ترتيبات هذا الخروج حتى الآن، فالاتفاق الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء السابقة مع الاتحاد الأوروبي تم فرضه من مجلس العموم ثلاث مرات، وكذلك مختلف البدائل التي قدمتها المعارضة، الأمر الذي انتهى باستقالة رئيسة الوزراء واختيار بوريس جونسون ليحل محلها، وهو صاحب نهج متشدد في تنفيذ الخروج حتى ولو بدون اتفاق مع الاتحاد، مع أن ثمة توافقاً عريضاً على كارثية هذا النهج، والأهم أن الأغلبية تعارضه، وهو ما دفعه إلى ذلك الخطأ القاتل بطلب تعليق عمل البرلمان من الملكة لمدة غير مسبوقة. ومع أن الأمر لم ينطوِ بالضرورة على مخالفة دستورية، فإن الخطأ السياسي كان صارخاً، كون قرار التعليق يحرم الجسد التشريعي من ممارسة دوره الطبيعي في قرار مصيري كهذا، وهو ما أيده القضاء البريطاني في النهاية مفضياً إلى حالة من الارتباك قد لا تكون ثمة مبالغة في وصفها بأنها الأشد من نوعها منذ نهاية الحرب الثانية، وحتى كارثة السويس عام 1956 كانت خطأً فردياً لرئيس الوزراء آنذاك انتهى باستقالة أنتوني إيدن بعد افتضاح مؤامرة العدوان، أما الآن فإن الأزمة مجتمعية وسياسية بامتياز.
والمثال الثاني على عجز الديمقراطية البرلمانية نشاهده الآن في إسرائيل التي شهدت انتخابات تشريعية مرتين في عام واحد بسبب عجز نتنياهو في المرة الأولى عن تكوين ائتلاف للأغلبية، مما دعاه لمطالبة الكنيست بحل نفسه خشية أن توكل مهمة تشكيل الائتلاف إلى غريمه زعيم حزب «أزرق أبيض»، لكن الانتخابات الثانية أفرزت النتيجة ذاتها بمعنى عجز أي من القطبين الكبيرين في السياسة الإسرائيلية عن تكوين ائتلاف للأغلبية ما لم يقدم أحدهما أو كلاهما تنازلات حقيقية.
والسبب الواضح لهذا «العجز الديمقراطي» هو الانقسام المجتمعي والسياسي الحاد حول قضايا رئيسية، كالانتماء للاتحاد الأوروبي من عدمه بالنسبة لبريطانيا أو علمانية الدولة كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل. ولا شك أن المصالح الضيقة للساسة تلعب دوراً في هذا الصدد، فساسة بريطانيا يبنون مواقفهم من أزمة الخروج على مصالحهم الشخصية أساساً، ويرفضون فكرة الانتخابات المبكرة لأنها قد تفقدهم مقاعدهم في مجلس العموم، وكذلك فكرة إجراء استفتاء جديد من الذين يخشون أن تؤدي نتائجه إلى البقاء في الاتحاد. ونتنياهو يرفض الحكومة الائتلافية ما لم يكن رئيسها خشية أن يفقد الحصانة من المساءلة القانونية بتهمة الفساد.. وكلها مواقف تضع الديمقراطية البرلمانية على محك يجب أن تحذره في زمن يشهد صعوداً متزايداً لليمين المتطرف الذي يمثل تهديداً حقيقياً لها.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد