نظم مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يوم 7 يونيو 2015، حلقة نقاشية تحت عنوان: "من التجديد إلى الثورة.. إصلاح الخطاب الديني وصلته بالإرهاب".
وقد أعد ورقة النقاش الرئيسية للحلقة، وكان المتحدث الرئيسي فيها الأستاذ ممدوح الشيخ، الباحث المتخصص في الفكر السياسي الإسلامي، ومدير المركز الدولي للأبحاث والاستشارات والتوثيق بالقاهرة. وعقب على الورقة كل من الأستاذ علي بكر، الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، والأستاذ إبراهيم غالي رئيس تحرير الموقع الإلكتروني لمركز المستقبل.
وقد خلصت حلقة النقاش إلى عدد من الاتجاهات الأساسية، والتي من أبرزها:
أولاً: إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني يجب أن تكون بمنزلة تحويل للفكر بدءاً من أصول الفقه، مروراً ببقية الفروع الدينية، وذلك قبل أن تصل في شكل رسائل إلى المواطن العادي، سواء في شكل فتاوى أو في شكل ظواهر سياسية واجتماعية معينة.
وأوضح الحضور أن الخطاب الديني يختلف عن الوعظ، لأن صورة رجل الدين لها تأثير عميق على العامة، وذلك في وقت تنتشر فيه ثقافة الكراهية، سواء في الخطاب الثقافي أو الخطاب الدعوي، ولهذا فالتجديد يبدأ من ترك هذا الخطاب الذي يعود لفترة ما قبل نهاية الاستعمار وما بعده أيضاً، وهو خطاب جماهيري غائي يختلط فيه الإحساس بأن الأمة تقود العالم، وأنها مظلومة من العالم كله، من مبدأ نحن سادة ولكننا مضطهدون.
ثانياً: إن إشكالية تجديد الخطاب الديني، والتي حالت دون التجديد والتنقية والتطوير، أن ثمة خلطاً بين الديني والسياسي، وعلى سبيل المثال، فقد ظهر ذلك جلياً في مصر في عهد الرئيس السادات، حينما تحول الإسلاميون للحياة السياسية وللمجتمع، وبالتالي أنتجت السلطة والمعارضة خطاباً استهدف تحقيق أهدافهم، أي أنه خطاب دار حول السلطة ذاتها، وليس حول تجديد الفكر، وهو ما أعاق التقدم في العديد من البلدان العربية.
ويرتبط بما سبق أن مسار التجديد الديني كان منذ عشرينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، موضع سجال وصراع فكري بين التيارات الإسلامية والعلمانية، وانتهى الأمر في مصر باغتيال فرج فودة، ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ، وغيرها من الحوادث التي تشير إلى أن العنف طغى على السجالات الفكرية بين التيارات المختلفة، في وقت كانت تغيب فيه الدولة عن مسألة تجديد الخطاب الديني.
ثالثاً: إن أحد التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني في العالم العربي هو غموض النطاق والأهداف والمدلول؛ خاصة بالنسبة للجماهير غير المسيسة، حيث أضحت القضية وكأنها إرشاد اجتماعي أكثر من كونها ترشيداً دينياً (السجال بين الاجتماعي والديني)، ليتسع بذلك النطاق إلى الدعاة ورواد الفضائيات والمنابر المختلفة، والذين تدخلوا في كافة المسائل الحياتية وليس الدينية فقط.
من جانب آخر فإنه مع كل أزمة كبيرة يتم استخدام "الديباجات الدينية" لتبرير صراع مسلح أو صراع جذري بين الإسلاميين وخصومهم وبينهم وبين الدولة. وبعد ظهور "داعش" أصبحت المصيبة عابرة لحدود الدولة ليتجاوز نطاق التفاعل "الخارج الجغرافي" بصورة غير مسبوقة؛ وهو ما بات يستدعي تجديداً جماعياً وليس فردياً للخطاب الديني، ومواجهة الفكر المتطرف بالفكر الوسطي المعتدل، وهي مهمة ليست باليسيرة، لأنها تقتضي أيضاً تضييق الفجوة بين كافة من يعملون على تجديد الخطاب الديني.
رابعاً: إن قضية تجديد الخطاب الديني تواجه أيضاً تحدي التطرف والتطرف المضاد، فثمة تصورات معدة سلفاً من بعض الشرائح الأكثر تطرفاً من العلمانيين، وثمة خطاب ديني موازٍ ومتطرف أيضاً من قبل بعض الإسلاميين، وبالتالي فإن ثمة تعدداً في الأهداف والمخرجات؛ فهناك فئة ترى الموضوع أمنياً وأخرى تراه داعماً لقيم سياسية معينة، وثالثة لا تسلك إلا الاتجاه الخطي الجامد؛ وهو ما يعني أننا يجب أن نتخلص من تلك الصور النمطية التي تسود بين الإسلاميين والعلمانيين حتى نتجنب مثل هذا المسار الثابت الذي لم يطور الخطاب الديني لعقود خلت.
خامساً: تطغى الشخصنة والاعتبارات الخاصة لدى معظم من يتداولون قضية تجديد الخطاب الديني، بحيث تحول الأمر إلى زاوية للمعارك لا القضايا المجددة، في ظل غياب رؤية من قبل غالبية القوى في الدولة والمجتمع لإيجاد صيغة تحد من الصدام وتنتقل إلى الحوار البناء الذي يجري على أساسه تجديد الخطاب الديني وفق رؤية تأخذ بعين الاعتبار شكل الدولة المنشودة وطبيعتها وتوجد دوراً لقادة الرأي العام والعامة من الناس.
سادساً: خلصت الحلقة النقاشية فيما يتعلق بالحلول الممكنة لعلاج أزمات الخطاب الديني إلى أنه قد يكون مشروعاً البحث عن نقطة بداية يمكن الاتكاء عليها، من خلال وضع قيم محددة سلفاً يرتكز عليها الخطاب الديني، ويمكن أن يستند هذا المسار على عدة مرتكزات من أهمها:
1 ـ التفرقة الصارمة بين "الإعلام الديني" و"الإفتاء" و"الدعوة"، فهي ما يحدد بشكل واضح "نطاق الخطاب". فالأول يكون بما هو مجمع عليه من الحقائق كالغيبيات والأمور المستندة إلى أحكام قطعية الثبوت والدلالة. أما الإفتاء فليس إلا رداً على سؤال سائل، ولا يجوز أن يتخذه البعض سنداً لما يعتبره هو أو غيره "حكماً شرعياً"، فليس لأحد كائناً من كان أن "يُنشئ" أحكاماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك الإجماع لا يُنشئ حكماً بالتحليل أو التحريم. أما الدعوة فتكون إلى الفضائل (وليست ملزمة)، ولا يجوز فيها التمذهب أو التحزب.
2 ـ الفصل التام بين "الدعوي" و"السياسي"، فالأول يدور حول الفضائل، والثاني مداره المصالح، ومن ثمّ (وهذا اجتهاد حاول الأستاذ ممدوح الشيخ الإسهام به في وضع قاعدة لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة) فقد يكون المقبول "تأسيس السياسة على الدين" ويكون المحظور بالتالي "إدارة السياسة بالدين"، فعندئذ تختفي خطابات المساندة (أو المناوأة) السياسية للأفراد والجماعات بالفتاوى، ودعوات الحشد للتصويت كوسيلة للصراع الأيديولوجي والديني، بينما التصويت وسيلة للتنافس السياسي.
3 ـ يبقى أن القناعةَ بالحاجة الدائمة للاجتهاد لا تعني أبداً فتح الباب للتعامل باستخفاف وبمنطق دعائي تشنيعي مع قضايا تتم دراستها وفقاً لـ"مناهج علمية" منذ قرون، فالتجديد لا يعني أبداً الرد على "تقديس صحيح البخاري" بتدنيسه! و"الشغب الأيديولوجي" في النهاية ليس طريقاً للتجديد.
4 ـ تدقيق معنى الأحكام الشرعية، وهنا يجب التفريق بين الإطار القانوني والإطار الشرعي، لأن الأدق أنه توجد أحكام شرعية وليس شريعة إسلامية، فالشريعة ملزمة كلها، أما الأحكام والفتاوى الشرعية فهي تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان.
5 ـ اعتماد مبدأ التجريد من قبل علماء الدين، ويعني ذلك أن من يقولون بأن الصواب لا يتعدد فهم مخطئون، لأن الأصل أن الأخلاق تقوم على الامتناع وليس المنع، وأن الخطاب الديني يقدم قوالب للحياة وليس معايير للحياة.
6 ـ ضرورة العمل على إحياء معيار الفطرة، فهي المقياس وليس الغرائز، أي نريد خطاباً يحدث الفطرة البشرية، ونريد خطاباً يعتمد العقل والنقل معاً، ويستند إلى ما تمليه الضرورات ومصالح الناس والعباد.
7 ـ الانطلاق من بعض المبادئ والأسس الدينية السليمة، ومنها: أن القرآن وحده هو وحي المساء، وما دونه تم استخدامه لتبرير صراعات مذهبية وسياسية، وأن العقل حكم على النص، وليس وسيلة لفهم النص؛ فالنص منتج تاريخي يجب فهمه في ضوء "السياق" لا في ضوء معناه اللغوي فقط.