نظم مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" حلقة نقاشية، استضاف خلالها وفداً من "معهد شنغهاي للدراسات الدولية"، وذلك للحديث عن رؤية الجانب الصيني لتطورات النظام العالمي، ومبادرة طريق الحرير الجديد، إلى جانب السياسة الصينية في منطقة الشرق الأوسط.
وتأتي هذه الحلقة النقاشية في إطار سعي "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" للتواصل وتبادل الخبرات والآراء مع مراكز الفكر في المنطقة والعالم. وترأس وفد "معهد شنغهاي للدراسات الدولية"، د. "يي تشينج"، مساعد رئيس معهد شنغهاي ومدير معهد دراسات الحكم العالمي. كما ضم الوفد عدداً من خبراء معهد دراسات السياسة الخارجية، ومركز دراسات غرب آسيا وأفريقيا، ومركز دراسات آسيا والباسيفيك؛ التابعين لمعهد شنغهاي.
أولاً: تطورات النظام العالمي
في خضم التطورات التي يشهدها النظام العالمي خلال المرحلة الراهنة، تطرح الصين نفسها كقوة دولية قادرة على إعادة التوازن للنظام العالمي، مقارنةً بالنهج الثابت الذي كانت تتبعه بكين خلال العقود الماضية. وفي هذا الإطار، تطرق النقاش إلى عدة قضايا رئيسية شملت الجوانب التالية:
1- عدالة النظام الدولي: أثار الحضور عدة تساؤلات حول التغيرات التي يشهدها النظام العالمي، والدور الذي تتصوره الصين لنفسها في هذا النظام. ومن جانبهم، أشار خبراء "معهد شنغهاي للدراسات الدولية" إلى أن الصين تسعى لجعل النظام الدولي أكثر عدالة وتمثيلاً للمصالح المشتركة لدول العالم، مؤكدين أن ذلك يأتي ضمن أولويات السياسة الصينية خلال المرحلة المقبلة، لا سيما إصلاح النظام الاقتصادي العالمي، وإعادة هيكلة مؤسساته الأساسية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
2- مبادرة الحزام والطريق: أكد الخبراء الصينيون أن مبادرة الحزام والطريق "حزام واحد - طريق واحد"، ليست مجرد مشروع اقتصادي وتنموي تتبناه الصين، وتدعو دول العالم إلى المشاركة فيه، لكنها مبادرة تمثل رؤية استراتيجية لدور بكين في النظام العالمي. وتقوم هذه المبادرة على عدة أسس، منها تطوير دبلوماسية جديدة للصين ذات طابع عالمي تتناسب مع مكانتها كقوة كبرى في العالم، وتقديم الصين نفسها كبديل في مجال التنمية الاقتصادية في ظل تركيز الولايات المتحدة والدول الأوروبية على الأمن، ومراعاة المصالح المشتركة لدول العالم.
وأكد الحضور في الحلقة النقاشية أن الصين لديها فوائض مالية غير مستغلة يمكن استثمارها في مشروعات البنية التحتية حول العالم، ولديها كذلك الخبرات والتكنولوجيا والشركات القادرة على تنفيذ هذه المشروعات، وفي نفس الوقت هناك حاجات كبيرة ومتزايدة لدى الدول النامية حول العالم إلى مشروعات التنمية. وأشار أعضاء الوفد الصيني إلى التعاون بين الدول النامية والصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، حيث إنه من المخطط والمستهدف تنفيذ مشروعات تنموية ضخمة في مختلف أرجاء العالم، تستفيد منها الدول النامية، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة باعتبارها الأكثر ملاءمة لتعزيز التنمية واستيعاب البطالة المرتفعة في هذه الدول.
3- سياسات "الحمائية" الاقتصادية: تطرق الوفد الصيني إلى السياسات الاقتصادية التي يتبناها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، والتي تتضمن الكثير من البنود ذات التأثير السلبي على التجارة العالمية، في ظل النزعة "الحمائية" الكبيرة التي تبدو على التوجه الاقتصادي الأمريكي في عهد "ترامب"، والذي يستهدف عدداً من الدول الأخرى وعلى رأسها الصين.
وأكد الخبراء الصينيون أن بلادهم تلتزم بقواعد التجارة الدولية، وليست لديها رغبة في الدخول في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، لكنها قادرة في الوقت نفسه على حماية مصالحها التجارية، ولديها من الأدوات والسياسات ما يمكنها من فعل ذلك.
ثانياً: العلاقات الخليجية – الصينية
تطرقت الحلقة النقاشية إلى العلاقات بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والصين، والاتجاهات الحاكمة لها. وفي هذا الإطار، أوضح وفد "معهد شنغهاي" أن الصين تركز على التعاون الاقتصادي مع دول مجلس التعاون، من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف؛ وهي تلبية احتياجات الصين المتزايدة من إمدادات الطاقة، والاستفادة من عوائد التعاون الاقتصادي مع دول المجلس في مجالات البنية التحتية، والتصنيع، ونقل التكنولوجيا الإنتاجية، والطاقة، والطاقة النووية، والزراعة، والتكنولوجيا الدقيقة، بجانب فرص التعاون المالي والاستثماري بين الجانبين، وهو ما يؤكد استمرار أولوية الاقتصاد في السياسة الخارجية الصينية تجاه منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
كما أشار أعضاء الوفد الصيني إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي لديها فرص كبيرة للنمو والتوسع الاقتصادي خلال السنوات المقبلة، كما أنها تمثل شريكاً مهماً في مبادرة الحزام والطريق، بخلاف ما يتوافر لديها من موارد مالية، وكل ذلك يجعلها في المراتب الأولى بين الوجهات الواعدة للتعاون الاقتصادي بالنسبة للحكومة الصينية، وذلك بما يخدم مصالح الطرفين.
كما تطرق الحضور إلى عدد من القضايا الشائكة في المنطقة، والتي تحتاج إلى موقف صيني واضح تجاهها، مثل الملف النووي الإيراني، والحرب في اليمن، والصراع السوري، بالإضافة إلى الأزمة القطرية. وفي هذا الصدد، أشار خبراء "معهد شنغهاي" إلى توسع الصين في المشاركة في عمليات حفظ السلام داخل الإقليم، وتمويل عمليات إعادة الإعمار في مناطق الصراعات، بالإضافة إلى دعمها جهود الوساطة بين الفرقاء، وتبنيها سياسات تقوم على دعم الاستقرار والأمن في المنطقة، وتجنب التدخل في الشؤون الخارجية للدول.
وإجمالاً، أكد المشاركون أن العلاقات الخليجية – الصينية، يمكن أن تصبح حجز زاوية في إحلال الاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في ظل العلاقات الجيدة للصين مع معظم دول الإقليم، وكذلك القدرات التي تمتلكها دول المجلس، ورغبتها في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
ثالثاً: تحديات الدور الصيني
تعد الصين من الدول التي يمكن أن يكون لها ثقل في حلحلة أزمات منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا الدور يواجه عدة تحديات أثارتها الحلقة النقاشية، ويتمثل أهمها فيما يلي:
1- قلق بعض الدول من أهداف مبادرة الحزام والطريق: تطرق النقاش إلى وجود اتجاه يرى أن مبادرة الحزام والطريق لم تتمتع بالوضوح اللازم، ويغلب عليها الأبعاد الرمزية التاريخية، الأمر الذي يجعلها أقرب للدعاية السياسية منه إلى مشروع واقعي قابل للتطبيق، لاسيما أن هذا الأمر يمتزج مع تحد يتعلق باتساع نطاق المبادرة الجغرافي والاقتصادي ليشمل قارات العالم أجمع. كما أن هناك بعض الآراء التي تثير الشكوك حول الأهداف الحقيقية للمبادرة، والتي ترى أن الصين ترغب من خلال المبادرة في استثمار فوائضها المالية وفتح أسواق دول العالم أمام منتجاتها، بما يصب في مصلحتها فقط.
2- صعوبة تحقيق التوازن الصيني بين المحاور المتعارضة: تسعى الصين لتطوير علاقاتها مع مختلف الأطراف ضمن المحاور الإقليمية ذات المصالح المتعارضة، الأمر الذي يعيق قدرتها على اتخاذ مواقف واضحة إزاء بعض القضايا في المنطقة. ويبدو ذلك بوضوح في العلاقات الوثيقة بين الصين وكل من إيران وتركيا وإسرائيل، والتي تؤثر على آفاق تطور العلاقات الصينية – العربية، في ظل تباين المصالح بين هذه الأطراف من ناحية ومعظم الدول العربية من ناحية أخرى. كما أن مصالح الصين مع القوى الدولية تؤثر على مواقفها كثيراً من بعض قضايا منطقة الشرق الأوسط، مثل علاقاتها مع روسيا، والتي يتجلى تأثيرها في اتجاه تصويت الصين داخل مجلس الأمن الدولي على القرارات الخاصة بالأزمة السورية، والذي توافق في مجمله مع توجهات موسكو.
ختاماً، تواجه العلاقات العربية – الصينية بصفة عامة، عدة تحديات في الوقت الراهن، أهمها ضرورة العمل على إحداث توازن في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، بما في ذلك بنود مبادرة الحزام والطريق، وخشية بعض الدول من احتمالات الإغراق التجاري، لاسيما في ظل المخاوف من أن تكون أهداف الصين الكامنة وراء علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة متمثلة في فتح أسواق هذه الدول لمنتجاتها فقط. كما تواجه هذه العلاقات تحدياً يتعلق بسعي بكين للحفاظ على التوازن في علاقاتها مع المحاور الإقليمية المتعارضة، وهو ما يكون له تأثير سلبي واضح على موقف الصين من بعض قضايا المنطقة.