يمثل تكليف الرئيس العراقي برهم صالح، في 9 إبريل الجاري، رئيس الاستخبارات مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة، بعد اعتذار المُكلَّف السابق عدنان الزرفي تحت ضغط الميليشيات التي كانت حذرته في بيان من استكمال عملية التشكيل، مؤشراً مهماً لطبيعة التحولات السياسية التي تشهدها العراق كساحة للتصعيد الإيراني– الأمريكي. فبعد ساعات من تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أبدى فيها دعمه للزرفي، أصدرت 9 قوى شيعية بياناً، في 4 من الشهر نفسه، وصفت فيه الأخير بـ"العميل" و"مرشح الاستخبارات الأمريكية"، لكن اتجاهات عديدة ترى أن الزيارة التي قام بها إسماعيل قاآني قائد "فيلق القدس" الجديد إلى العراق كانت وراء كل تلك التطورات التي حسمت الموقف الخاص بالزرفي.
اشتباك مركب:
لم يكن وقع تلك التطورات مستقلاً عن المشهد الأمني الأكثر تصعيداً بالتزامن مع الأزمة السياسية، في ظل استمرار استهداف القواعد العسكرية التي توجد بها القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي وقوات عراقية يتم تدريبها تحت إشراف أمريكي، حيث تصر أغلب القوى الشيعية على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي وتتمسك بطلب البرلمان في هذا الإطار، بينما تعتبر الولايات المتحدة أن إيران هى من يقف خلف هذه التطورات، وأن قادة الحرس الثوري وبعض القوى العراقية يستكملون المسار الذي بدأه قائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني قبل مقتله في 3 يناير الماضي.
ويعكس الربط المباشر في بيان القوى الشيعية العراقية بين رفض ترشيح الزرفي لتشكيل الحكومة وتمسكها بموقف البرلمان الخاص بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي، مدى التشابك المتنامي بين التصعيد السياسي والعسكري المتبادل على الجانبين. وعلى ما يبدو، فإن واشنطن تتبنى المقاربة نفسها لكن في الاتجاه المضاد.
فعلى المستوى السياسي، يراهن الطرفان على الحكومة الانتقالية التي سيجرى تشكيلها، ويفترض أن تعيد صياغة المشهد السياسي في العراق بعد الحراك الذي شهدته البلاد وتسبب في الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدى. وفي ضوء البيان المشار إليه من القوى الشيعية كان من المرجح أن سيناريو تشكيل حكومة الزرفي لن يكتمل، في ظل عدد من التطورات المتسارعة في الفترة الأخيرة، منها زيارة قاآني، والتي أعيد في أعقابها طرح اسم رئيس الاستخبارات مصطفى الكاظمي مجدداً، حيث حظى بدرجة من التوافق داخل "البيت الشيعي"، إلا أن هذا التوافق اصطدم بتحدي رفض الزرفي طلب الاعتذار عن الترشيح في البداية، وهو ما يفسر البيان والتحذير الذي وجه إليه من خلاله، لكن يبدو أن الزرفي عدّل قراره في ظل استمرار وتيرة الضغط.
أما على الصعيد العسكري، فلا تزال القوى الشيعية المسلحة تواصل استهداف القواعد العسكرية العراقية التي توجد بها القوات الأمريكية، فى الوقت الذي سربت فيه مصادر أمنية عراقية معلومات عن بدء العمل على تركيب منظومات "باتريوت" الأمريكية في قاعدتى عين الأسد في الأنبار وحرير في إقليم كردستان، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من قاعدتى القائم والحبانية.
لكن الخطوة الاستراتيجية في هذا الصدد بدت في إعلان عبد المهدي، في 8 إبريل الحالي، تسلمه مذكرة أمريكية تتعلق بعملية "إعادة انتشار" وإجراء حوار ثنائي، وكشف عبد المهدي عن أن عملية الانسحاب تتم في إطار رسمي وقانوني، في تلميح إلى أنه ليس تحت ضغط التحرك العسكري للميليشيات. ويبدو أن ذلك يمثل خطوة تكتيكية للتمهيد لإجراء حوار يعتقد أنه سيغير من اتفاق "الشراكة الاستراتيجية" الموقَّع بين الطرفين، ومن المتصور أن أحد التحديات التي أثارت الجدل بشأن هذا الاتفاق هو عملية نشر منظومات دفاعية، والتي ترى فيها بعض القوى العراقية أنها تتجاوز حسابات الدفاع عن الوجود الأمريكي في العراق وفقاً لما تعلنه القيادة العسكرية هناك.
مسار غامض:
ربما ينزع ترشيح الكاظمي لرئاسة الحكومة العراقية فتيل التوتر حول قضية تشكيل الحكومة الانتقالية مؤقتاً، لاسيما داخل "البيت الشيعي"، خاصة أنه يحظى أيضاً بتوافق القوى الكردية والسنية في البرلمان، لكنه لن ينه هذا التوتر بشكل عام في إطار تداعيات التصعيد الأمريكي– الإيراني، فكل طرف لا يزال يقوم بترتيب أوراقه استعداداً للخطوة التالية.
ومن المتصور أن المذكرة التي دعت الولايات المتحدة إلى إجراء حوار مع العراق حولها ستكون أول الملفات التي سيدور حولها النقاش في الأيام المقبلة، لاسيما وأن الموقف الأمريكي تجاه ترشيح الكاظمي لم يسجل بعد – حتى الآن-، في حين نُقل عن قاآني القول بأن "طهران لم تكن تعارض الزرفي وإنما تعارض من يعارض إيران في العراق".
ومن المرجح، على الأقل حتى إعلان تشكيل الحكومة رسمياً في غضون شهر، أن تستمر الفصائل الشيعية المسلحة في استهداف المواقع العسكرية الأمريكية وفقاً لتقديرات أمريكية، مستغلة عملية إعادة الانتشار الأمريكي دعائياً حتى تظهر أنها من يقف بالأساس وراء عملية تقليص حجم الوجود العسكري الأمريكي في البلاد.
وفي المقابل، تقول الولايات المتحدة أنها تقلص وجودها تحت ضغط جائحة "كورونا" مستندة إلى أن خطة إعادة الانتشار كانت مرتبة من قبل، لكن نقطة التحول المرتقبة في هذا المسار ستتوقف على الدور الذي ستضطلع به حكومة الكاظمي حال تشكلها وتسلمها السلطة، وما إذا كانت ستتمكن من إعادة ولو قدر من التوازن في التعامل مع الطرفين الأمريكي والإيراني على الساحة العراقية كما كانت عليه الأوضاع من قبل ولو نسبياً، إذ لا يزال من الصعب تصور أن إيران ستقدم تنازلات ملموسة في مرحلة ما بعد مقتل سليماني.
ومن جهة أخرى، فإن احتمالات التغيير في الموقف الأمريكي تبدو بدورها أكثر صعوبة، ولا بوادر على ذلك، إذ أن "التوصية" التي قدمها العديد من الخبراء الأمريكيين لإدارة الرئيس دونالد ترامب بشأن تعليق سياسة "الضغوط القصوى" الأمريكية تجاه إيران مؤقتاً لإفساح المجال أمام تقليص تداعيات جائحة "كورونا" لم تلق استجابة، وهو ما سيزيد من حدة التوتر بين واشنطن وطهران.
في المحصلة الأخيرة، وعلى الرغم من أن العلاقات الأمريكية- العراقية لديها رصيد طويل من الخبرة، يمكن عبرها الحكم على مآلاتها في المدى المنظور، إلا أن ما يحدث حالياً يمثل نقطة تحول مفصلية ستلقي بتداعياتها على الأطراف الثلاثة: إيران والولايات المتحدة والعراق، ومن المرجح أن مرحلة السيولة الحالية قد تنتهي بتشكيل حكومة الكاظمي الذي يتمتع بخبرة كبيرة لاسيما أن لديه رصيد ما يقرب من 4 سنوات تقريباً كرئيس لجهاز الاستخبارات العراقية وبالتالي يتوقع أنه يمتلك القدرة على التواصل مع الطرفين الأمريكي والإيراني، لكن المعطيات التي سيفرضها هذا التواصل هى ما ستشكل نتائج اختبار هذه الحكومة وما إذا كانت ستتمكن من استعادة الدور في إدارة توازنات العلاقات الأمريكية– الإيرانية في العراق أم لا.