على هامش القمة الأفريقية الصينية في جوهانسبرج، التي عُقدت في ديسمبر 2015، أعلن وزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف، أن الصين ستمتلك قاعدة "بحرية لوجستية" في بلاده قبيل نهاية العام 2017. كما أكدت وزارة الخارجية الصينية في يناير 2016 التوصل إلى اتفاق مع جيبوتي لبناء منشآت لوجستية لمصلحة استخدام الجيش الصيني، ليضع البلدان بذلك حداً للتكهنات التي طالما أحاطت بتوجهات بكين الجديدة نحو إقامة أول قاعدة لها في الخارج، في جيبوتي.
وتؤشر هذه الخطوة إلى تحوّل استراتيجي في السياسة الخارجية الصينية، التي طالما اعتمدت استراتيجية "الشراكة التنموية"، و"عدم عسكرة السياسة الخارجية"، بناءً على فلسفة العقيدة القتالية للجيش الصيني القائمة على أساس دفاعي، وعدم الانتشار العسكري حول العالم. الأمر الذي يثير جملة من التساؤلات بشأن أسباب التوجه الصيني الجديد وحدوده، ومواقف القوى الكبرى التي تتقاطع مصالحها الاستراتيجية مع بكين في منطقة القرن الأفريقي.
جيبوتي.. بلد القواعد العسكرية
خطوة بكين المرتقبة جاءت بمثابة إعلان لمرحلة جديدة من التنافس الصيني مع القوى الاقتصادية الرئيسة ذات النفوذ التقليدي في المنطقة، إذ تعد جيبوتي درة تاج القرن الأفريقي، ومضيق باب المندب هو أحد أهم الممرات المائية في العالم، وأكثرها احتضاناً لحركة السفن، كما يعتبر حلقة الوصل الاستراتيجية بين قناة السويس ومضيق هرمز، الذي يمر من خلاله أكثر من 40% من تجارة النفط العالمية، بحسب إحصائيات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، الأمر الذي جعل جيبوتي محط أنظار القوى الدولية الكبرى، نظراً لموقعها الجيواستراتيجي الفريد.
وتحتضن جيبوتي بالفعل عدة قواعد عسكرية لدول كبرى، وهي فرنسا والولايات المتحدة واليابان. وتأتي القاعدة العسكرية الفرنسية في مقدمة القواعد العسكرية الأجنبية التي توجد في جيبوتي، حيث تعتبر أهم قاعدة عسكرية لباريس في القارة السمراء، ومهمتها المعلنة هي حماية حركة التجارة الفرنسية عبر مضيق باب المندب، وحماية دولة جيبوتي، المستعمرة الفرنسية السابقة، من أي اعتداء خارجي. وقد دشنت باريس هذه القاعدة الاستراتيجية لتضمن نفوذها في مستعمرتها السابقة بموجب اتفاقية دفاعية تعود للعام 1977.
وفي إطار استراتيجية الولايات المتحدة لمحاربة الإرهاب، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، استأجرت واشنطن قاعدة "ليمونيه" التي تبعد عدة كيلومترات عن العاصمة جيبوتي، من حكومة البلاد، حيث بدأت العمل في عام 2002 بقوام 900 عسكري أمريكي، قبل أن تتوسع تلك القاعدة لتضم نحو 4 آلاف من القوات الأمريكية، بعد أن أصبحت مقراً لقوة العمل المشتركة Combined Joint Task Force في إطار القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، والمعروفة باسم قوات "أفريكوم"، ومهمتها اللوجستية مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي، وكينيا، واليمن، ودول الشرق الأوسط.
وخلال عام 2009، دخلت اليابان على خط التنافس الاستراتيجي واللوجستي، مع كل من فرنسا والولايات المتحدة، فأنشأت البحرية اليابانية قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، تتضمن ميناءً دائماً ومطاراً عسكرياً لإقلاع وهبوط طائرات الاستطلاع اليابانية "P-3"، بهدف مكافحة القرصنة البحرية والدفاع عن مصالح اليابان التجارية الحيوية، حيث يمر نحو 90% من الصادرات اليابانية عبر هذا الطريق البحري الحيوي في أفريقيا، بالإضافة إلى استخدام تلك القاعدة منطلقاً في عمليات الإغاثة الإنسانية التي تضطلع اليابان بجهود مهمة بصددها في أفريقيا خلال أوقات الكوارث الطبيعية أو تلك الناجمة عن الحروب والصراعات المسلحة.
المواقف الدولية.. ترقب حذر
كان من الطبيعي أن يثير اعتزام الصين بناء قاعدة بحرية في جيبوتي، هواجس لا تخفى لدى الولايات المتحدة وفرنسا، وذلك بسبب ما قد يثيره الوجود العسكري الصيني في القرن الأفريقي من احتمالية تعارض مع المصالح الأمريكية تحديداً، والغربية بصفة عامة.
لذا، فقد أبدت واشنطن وباريس وطوكيو تحفظات عدة على تنامي العلاقات الاقتصادية والأمنية الصينية مع جيبوتي، باعتبارها مدخلاً لمد ذراع بكين العسكرية في هذه المنطقة الاستراتيجية. كما بدأت الدول الثلاث بالفعل مشاوراتها للضغط على الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله بعدم الترشح لفترة ولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها العام الجاري، أو دعم مرشح آخر لمنافسته وإزاحته عن الحكم، إذا أصر على خوض الانتخابات القادمة، على أن يكون هذا المرشح أكثر قدرة على تحقيق وتدعيم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في جيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي.
واستباقاً لأي تطورات مفاجئة قد يقوم بها الرئيس الجيبوتي، الذي أبدى ميلاً نحو الصينيين لكسر الاحتكار الغربي لبلاده من جهة، واللعب على كافة الأطراف بما يخدم طموحه للبقاء في السلطة التي يحتكرها منذ العام 1999، فقد حرصت واشنطن على تمديد عقد إيجار قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في جيبوتي لمدة عشر سنوات مقبلة، مع مضاعفة قيمتها الإيجارية من 30 مليون دولار إلى 60 مليون دولار، حتى تضمن بقاءها الاستراتيجي في المنطقة لعقد كامل، بما يمكنها من ترتيب أوراقها إزاء التطورات النوعية التي يبديها غريمها الاقتصادي التقليدي، الصين، المتجه بقوة نحو دعم انتشاره الاقتصادي بذراع عسكرية واعدة.
من جانبه، قلل وزير الخارجية الجيبوتي من شأن المخاوف الغربية من احتضان بلاده لأول قاعدة صينية في الخارج، معتبراً أن بكين حليف استراتيجي إلى جانب باريس وواشنطن، مشيراً إلى أن بكين باتت تملأ فراغاً كبيراً في أفريقيا لأن الدول التي كان من مسؤوليتها تعويض هذا النقص لم تقم بذلك، مضيفاً أن "الأفارقة قد انتظروا طويلاً أن يأتي الأوروبيون وآخرون لمساعدتهم في عملية التنمية، لكن الصين هي التي قامت بهذا العمل".
فيما سعت الصين لطمأنة مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها إزاء تلك الخطوة، إذ نزعت وزارة الخارجية الصينية الصفة العسكرية عن قاعدتها المرتقبة في جيبوتي، باعتبارها "نقطة تموين"، تستخدم في سياق عمليات الدعم اللوجستي للسفن التجارية الصينية، إضافة إلى دعم سفنها الحربية المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة في سياق محاربة القرصنة البحرية في خليج عدن، بجانب تأمين الملاحة الصينية، والقيام بعمليات إجلاء رعايا الصين في حالات الطوارئ، نظراً لبعد جيبوتي عن الصين بنحو سبعة آلاف كيلومتر.
كما أكدت الخارجية الصينية أن سياستها في القارة الأفريقية ليست بحاجة إلى مثل هذه النوعية من القواعد ذات الصفة العسكرية، وأن بناء القاعدة اللوجستية الجديدة يأتي في سياق اتفاقية تعاون وتدريب بين القوات المسلحة الصينية والجيبوتية، تم توقيعها مع الرئيس الجيبوتي في فبراير من العام 2014.
أهداف عسكرة الشراكة التنموية الصينية
يبدو التوجه الصيني نحو عسكرة شراكتها التنموية، من خلال بناء قاعدة بحرية في جيبوتي، نقلة نوعية في علاقات بكين الدولية كقطب اقتصادي صاعد، لا يخلو من ملاءة عسكرية، تدعمه وتقوي مركزه العالمي، في نظام دولي بات منفتحاً على كافة الاحتمالات، مع ما يشهده من تغيرات بنيوية في موازين القوى الدولية والإقليمية على مختلف الأصعدة.
وثمة عدة أهداف استراتيجية ترغب الصين في تحقيقها عبر قاعدتها الجديدة في جيبوتي، ولعل أهمها:
1- ترسيخ النفوذ الصيني ومزاحمة القوى الكبرى:
يعد اختيار بكين للقارة الأفريقية مُنطلقاً لهذا التغير الاستراتيجي في سياستها الخارجية، أمراً ذا دلالة، نظراً لأهمية القارة السمراء في استراتيجيات القوى الدولية الكبرى. فوفقاً لتقديرات اقتصادية، تعتبر أفريقيا قارة المستقبل، بما تمتلكه من موارد بشرية وثروات طبيعية وفرص استثمارية واقتصادية واعدة.
ومن ثم، جاء هذا التحول الملموس في السياسة الخارجية الصينية نحو تضافر "العسكري" مع "الاقتصادي"، لإبراز جدارتها بأن تكون قطباً دولياً شاملاً، لا اقتصادياً فقط، كما كانت الحال لعقود خلت.
2- حماية المصالح الاقتصادية الصينية في أفريقيا:
لا شك أن القاعدة الجديدة في جيبوتي ستمكن الصين من الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في القارة الأفريقية، إذ تعد الصين الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا من بين الدول الاقتصادية الكبرى في العالم، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين في العام 2014، نحو 220 مليار دولار، وفقاً لتقديرات وكالة أنباء شينخوا الصينية.
3- تأمين موارد الصين النفطية:
ثمة محدد آخر لسعي بكين نحو عسكرة توجهها الاستراتيجي نحو قارة أفريقيا، يتمثل فيما يمكن وصفه بالتعطش الصيني للموارد النفطية الآمنة والمستمرة، استناداً لحاجة الصناعات الصينية للنفط بشكل مُلح. وتُقدر نسبة واردات بكين النفطية من القارة الأفريقية بنحو 25% إلى 30% من إجمالي وارداتها النفطية من الخارج.
4- تسهيل مهام قوات حفظ السلام الصينية:
تلعب القوات المسلحة الصينية دوراً مهماً في جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام في قارة أفريقيا، ويصل إجمالي عدد الجنود الصينيين المشاركين في قوات حفظ السلام في أفريقيا إلى 1800 جندي، معظمهم يتوزعون في مناطق نفطية تشهد صراعات مسلحة. ومن ثم فإن بناء قاعدة صينية في جيبوتي من شأنه أن يسهل مهام قوات حفظ السلام الصينية في أفريقيا.
5- مجابهة تهديدات التنظيمات الإرهابية:
ثمة تزايد لافت لمساحة التهديدات التي طالت المصالح الصينية في أفريقيا، نتيجة لانتشار الحركات الأصولية والتنظيمات المسلحة، مثل: حركة الشباب المجاهدين، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والجماعة السلفية للدعوة والقتال، وبوكو حرام، الأمر الذي ربما حدا بالصين إلى عدم كفاية الاعتماد على المشاركات "الرمزية" لقواتها المسلحة ضمن بعثات الأمم المتحدة لحفظ وبناء السلم في بعض الدول الأفريقية، والاستعاضة عن ذلك بقاعدة ثابتة تكون منطلقاً للقوات المسلحة الصينية للحفاظ على مصالح بكين الحيوية.
6- مكافحة مخاطر عمليات القرصنة:
ميدانياً، اضطلعت القوات البحرية الصينية منذ نهاية العام 2008 بعدة مهام ذات طبيعة قتالية، قبالة سواحل الصومال وخليج عدن، في إطار جهود بكين لمكافحة القرصنة، لكنها واجهت صعوبات لوجستية كبيرة، فيما يتعلق بمحطات الرسو والتموين، الأمر الذي ربما حفز بكين لبناء قاعدتها الأولى في الخارج بجيبوتي، لتفادي هذه الصعوبات.
7- تدشين طريق حرير بحري:
ثمة رغبة صينية لإنشاء ما يمكن وصفه بـ"طريق حرير بحري"، يربط المحيط الهندي والبحر المتوسط والبحر الأحمر، عبر بوابة باب المندب وقناة السويس، والدول المحيطة بتلك الممرات المائية الحيوية، لتأمين التجارة الصينية العالمية وخطوط إمدادات النفط من أفريقيا والشرق الأوسط، وهو ما يجعل من القاعدة الصينية المزمع إقامتها في جيبوتي هدفاً استراتيجياً للأمن القومي الصيني بمفهومه الشامل في تلك المنطقة الحيوية المهمة من قلب العالم، وربما تستتبعها قواعد أخرى تتم إقامتها في نقاط تماس ممتدة لاحقاً، في إطار الصعود الصيني المتزايد في النظام لدولي.
ختاماً، يمكن القول إن جيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي، بعد التحول الاستراتيجي في السياسة الصينية وجنوحها نحو العسكرة، باتت بصدد مرحلة جديدة من التنافس المحموم بين القوى الدولية الكبرى، الأمر الذي من شأنه أن يدفع المنطقة لحروب نفوذ طويلة الأمد، بين الاستراتيجيات والاستراتيجيات المضادة لتلك الدول، وربما تمد بكين بوصلتها الاستراتيجية لبناء قواعد في مناطق أخرى ذات أهمية حول مناطق تحتضن مصالحها الاقتصادية بشكل لافت، ما يعني أن القوى الغربية، والولايات المتحدة تحديداً، أضحت مصالحها الحيوية على المحك إزاء طموحات غير محدودة للتنين الصيني.