يعيش الاقتصاد الإيراني حالة من العزلة المزمنة منذ عقود، وقد تصاعدت هذه العزلة خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي تبنى سياسة الضغوط القصوى ضد إيران، وفرض عليها حزماً عديدة من العقوبات، والتي بدأت بعقوبات اقتصادية ونفطية، واستمرت إلى أن وصلت إلى عقوبات دقيقة وموجهة ضد مسئولين بعينهم في النظام الإيراني. وقد تسببت هذه العقوبات في حرمان الاقتصاد الإيراني من الوصول إلى الأسواق العالمية بسهولة، سواء تعلق الأمر بتصدير منتجاته وعلى رأسها النفط، أو الوصول إلى أسواق الاستيراد، الأمر الذي حرم الأسواق الإيرانية من الكثير من السلع والمنتجات الضرورية.
وطوال تلك السنوات، فإن الحكومة الإيرانية لم تتوقف عن توعد الإدارة الأمريكية بالرد. وبرغم انتهاء فترة الرئيس السابق ترامب في 20 يناير الجاري، لم يتضح بعد ما إذا كانت السياسة الأمريكية تجاه إيران ستتغير في عهد الرئيس الجديد جو بايدن أم لا، كما أن التوجه الإيراني نحو الولايات المتحدة مازال مستمراً. وفي هذا السياق، عارضت منظمة الجمارك الإيرانية دخول السيارات الأمريكية الفاخرة إلى الأسواق الإيرانية.
عقوبات مضادة؟
تأتي الخطوة التي أقدمت عليها منظمة الجمارك الإيرانية تنفيذاً لقرار اتخذه المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي دأب في عدة خطابات له على انتقاد ركوب بعض الشباب سيارات فاخرة وباهظة الثمن. وبرغم أن هذا الانتقاد يتصف بالعمومية، كونه لم يحدد هوية السيارات الفاخرة المذكورة، لكن القرار جاء لمنع السيارات الفاخرة وكذلك السيارات الأمريكية المنشأ من دخول الأسواق الإيرانية، ولم يقتصر على السيارات الفاخرة بوجه عام، وقد يعني ذلك أن بعض بنود هذا القرار تمثل عقوبات إيرانية بشكل مستتر على الولايات المتحدة، كرد منها على العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها طوال السنوات الماضية.
وقد أعلن مهرداد جمال أرونقي نائب رئيس منظمة الجمارك الإيرانية، أن الجمارك تعارض دخول السيارات الفاخرة والأمريكية إلى إيران، بما يشمل جميع السيارات التي تحمل علامات لامبورغيني وفيراري وبورش وهمر ومازيراتي وبوجاتي، بالإضافة إلى السيارات التي تحمل علامات تجارية أمريكية، سواء مصنعة أو أمريكية المنشأ. وتجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف إيران فيها السيارات الأمريكية، فقد ذكر المسئول الإيراني قراراً وصل إلى الجمارك في فبراير 2017، أعلن فيه النائب القانوني للرئيس حسن روحاني "منع استيراد سيارات أمريكية الصنع، وكذلك سيارات تحمل علامات تجارية أمريكية، مصنوعة للاستهلاك في الولايات المتحدة ومباشرة من التجار والموزعين الأجانب".
ضغوط مستمرة:
عانى الاقتصاد الإيراني طوال السنوات الماضية من ضوائق مالية كبيرة بسبب العقوبات الأمريكية، حيث تشير التقديرات إلى أنه حُرِم من دخول استثمارات أجنبية مباشرة تقدر بنحو 120 مليار دولار، كما أنه حُرِم من أكثر من 80% من إيراداته النفطية، لاسيما بعد أن استأنفت الولايات المتحدة عقوباتها النفطية، وبالتحديد في أغسطس من عام 2018، فبعد أن كانت إيران تُصدِّر نحو 2.2 مليون برميل يومياً قبل العقوبات، فإن صادراتها تهاوت في بعض الفترات إلى أقل كثيراً من مليون برميل، وتزامن ذلك مع تراجع أسعار النفط العالمية، ما فرض ضغطاً مضاعفاً على إيراداتها التصديرية.
وبينما كانت الإيرادات النفطية الإيرانية تصل إلى نحو 67 مليار دولار سنوياً قبل العقوبات، فإنها تراجعت إلى ما يزيد قليلاُ عن 11 مليار دولار خلال عام 2020. وليس التراجع الكمي فقط هو الذي طرأ على الإيرادات النفطية الإيرانية، بل إن قدرة إيران على الوصول لتلك الإيرادات بات أمراً صعب المنال في آخر سنوات الإدارة الأمريكية السابقة، التي فرضت قيوداً كثيرة على جميع التعاملات المالية مع إيران، بما في ذلك التعاملات المرتبطة بتسديد الدول المستوردة للنفط الإيراني لمقابل هذا النفط، وقد أدى ذلك إلى تراكم تلك الإيرادات في الخارج، وهناك تقديرات تشير إلى أنها تصل إلى نحو 70 مليار دولار.
وقد تسبب تراكم تلك الإيرادات أيضاً في مشاكل أخرى لإيران مع الدول المستوردة لنفطها، وقد شهدت الأسابيع الأخيرة توتراً في العلاقات بين إيران وكوريا الجنوبية لهذا السبب نفسه، ووصل الأمر إلى احتجاز إيران لناقلة نفط كورية، من أجل الضغط على الحكومة الكورية لتسديد تلك المستحقات.
ليس القطاع النفطي الإيراني فقط هو الذي يعاني من العقوبات الأمريكية، لكنه القطاع الأبرز، والأكثر تأثيراً على الاقتصاد الإيراني، لاسيما أن إيرادات تصدير النفط تمثل نحو 80% من الإيرادات التصديرية الكلية لإيران، كما أنها تمثل نحو 60% من الإيرادات العامة للدولة، وهو ما يشير إلى أى مدى يعني تراجع تلك الإيرادات بأكثر من 80% خلال السنوات الماضية، بسبب العقوبات الأمريكية، والتراجع الحادث في أسعار النفط، سواءً قبل أزمة كورونا أو خلالها.
مستقبل غامض:
لم يبد الرئيس الأمريكي جو بايدن –حتى الآن- إشارات إلى أنه سيغير توجهه نحو إيران، ولاسيما بشأن العقوبات، وحتى إن عادت إدارته للاتفاق النووي، ضمن مجموعة "5+1"، فإن تلك العودة ستستغرق الكثير من الوقت، كما أنها ستكون بناءً على قواعد ومعطيات جديدة، ستكون من دون أدنى شك مختلفة عن القواعد والمعطيات التي قام عليها الاتفاق في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. فضلاً عن أن هناك العديد من المعطيات التي تشير إلى أن التغييرات التي يمكن إدخالها على الاتفاق لن تكون مرتبطة –ولاسيما في البداية- بالعقوبات الأمريكية على إيران، بل من المرجح أن يُبقِي الرئيس الأمريكي الجديد على العقوبات، طوال فترة تفاوضه مع إيران بشأن الاتفاق، هذا بافتراض حدوث هذا التفاوض من الأساس.
كما أن التركة الثقيلة التي تركتها إدارة ترامب، على إيران، ضمن سياسة الضغوط القصوى، جعلت من مهمة بايدن صعبة للغاية، في حال أراد التخلص من تلك العقوبات، لاسيما أن هذه العقوبات فرضت واقعاً جديداً ليس من السهل تغييره، سواء على المستوى الداخلي الأمريكي، بمختلف ملفاته السياسية أو الاقتصادية أو غيرها، أو على المستوى الدولي، وخاصة فيما يتعلق بتأثير وجود أو إزالة تلك العقوبات على العديد من الأسواق الدولية، وعلى رأسها أسواق النفط. وفي حال أقدمت إيران على فرض عقوبات على الولايات المتحدة بالفعل، فإن ذلك سيغير موقف الإدارة الأمريكية بشكل كبير، على نحو يضفي مزيداً من الغموض على مسار العلاقات الاقتصادية بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.