أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

كتلة الإرهاب الحرجة:

ردود الفعل الفرنسية على هجمات باريس

01 ديسمبر، 2015


بعد أن تعرضت فرنسا لحوادث إرهابية وصفت بأنها الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو السؤال المطروح: كيف سترد فرنسا، ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي المهددة، على هذه العمليات الإرهابية؟

من الناحية الواقعية يدرك الخبراء الأمنيون الأوروبيون أن هدف القضاء على الإرهاب من المستحيل تحقيقه بأية سياسات، سواء أمنية أو اجتماعية، ولذا فالهدف الأكثر واقعية هو تقليل الإرهاب الذي تتعرض له القارة، بحيث يغدو حجمه أقل ما يمكن، وفي الحدود التي يمكن للرأي العام والأجهزة الأمنية تقبلها، كأعمال لا يمكن منعها كلية؛ ومن ثم يتولد عن ذلك سؤال آخر يرتبط بحجم العمليات الإرهابية التي يمكن أن يبقى عندها رد الفعل في حدود الإجراءات المنخفضة المستوى وشبه التقليدية (تعزيز الإجراءات الأمنية، وتشديد الرقابة على العناصر التي يشك في تبنيها الأفكار الإرهابية)، ومتى يصل رد الفعل نفسه إلى مستوى أكبر وأكثر اتساعاً (شن الحرب خارج الحدود)؟!

ردود الفعل في التجربة الأمريكية

تظهر التجربة الأمريكية بوضوح أن حجم بعض العمليات التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية هو الذي حدد ردود الفعل الأمريكية في ثلاثة حوادث إرهابية كبرى جرى اثنان منها داخل الأراضي الأمريكية، وجرى الثالث ضد مصالحها في الخارج، وهي:ـ

1 ـ الحادث الأول كان تفجير مبني حكومي في أوكلاهوما سيتي في أبريل عام ١٩٩٥، وأسفر عن مصرع ١٦٨ شخصاً إلى جانب مئات الجرحى. وفي حينها وصف هذا الهجوم بأنه أسوأ عمل إرهابي واجهته الولايات المتحدة في تاريخها، وترتب عليه تشديد الإجراءات الأمنية حول المواقع المرشحة للاستهداف، وإعطاء الأجهزة الأمنية صلاحيات وحريات أوسع لمراقبة وتوقيف كل شخص يظهر أفكاراً مؤيدة للعنف والإرهاب.

ولم يكن من المتوقع أن تزيد الإجراءات عن ذلك، خاصة بعد الكشف عن أن مخططي ومنفذي الهجوم لم يكونوا من المنتمين للتيارات الجهادية الإسلامية التي تتبنى استراتيجية الانتقام من الغرب لأسباب تاريخية ومعاصرة حسب رأيها، بل كانوا من اليمين الديني المسيحي، الذي يرى أن السياسات الحكومية في الولايات المتحدة تتسبب في إبعاد المجتمع الأمريكي عن طريق الصواب الذي يمر عبر الالتزام الحرفي بالكتاب المقدس.

2 ـ الحادث الثاني وقع في أغسطس عام ١٩٩٨، وأسفر عن تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي ودار السلام، ومصرع قرابة ٢٥٠ شخصاً أغلبهم مواطنون من كينيا، واتهمت الولايات المتحدة تنظيم القاعدة بتدبير الحادث.

وجاء رد الفعل الأمريكي في صورة بضعة غارات ضد عدة أهداف في السودان وأفغانستان (كان زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لأدن على علاقة وثيقة بالنظام الحاكم في السودان قبل توجهه إلى أفغانستان) بصواريخ كروز في 20 أغسطس 1998، وقد دمرت هذه الصواريخ في السودان مصنع الشفاء للأدوية، والذي كانت تصنع  به 50٪ من الأدوية في السودان، وأعلنت إدارة الرئيس بيل كلينتون أنه توجد أدلة كافية لإثبات أن المصنع ينتج أسلحة كيميائية، ولكن أثبت تحقيق بعد القصف أن هذه المعلومات كانت غير دقيقة.

3 ـ الحادث الثالث والأخطر بما لا يقاس أبداً بالحادثين السابقين، كان تفجير برجي التجارة العالمي ومبنى البنتاجون المعروف بهجمات 11 سبتمبر، والتي وقعت في هذا اليوم من عام ٢٠٠١، وحصدت أرواح أكثر من ثلاثة آلاف شخص، ولكن التأثير الأخطر كان فقدان الرأي العام الأمريكي بعد الحادث لثقته في مؤسسات الأمن كون العملية جرت على الأراضي الأمريكية من دون أن تتمكن هذه الأجهزة من منع وقوع الهجمات، وهو الدور الأساسي المنوط بها، وليس فقط مطاردة مرتكبي هذه العمليات بعد تنفيذها.

وترتب على ذلك كما هو معروف تحرك إدارة الرئيس جورج بوش الابن لأبعد من مجرد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، أو توجيه ضربات محدودة للدول التي وقعت في دائرة الاتهام بتدبير الهجوم، إلى توجيه الجيش الأمريكي لاحتلال أفغانستان، والعراق لاحقاً.

والملحوظ أن رد الفعل في الحالات الثلاث قد اختلف وفقاً للاعتبارات التالية:

1- حجم الضرر الذي لحق بمصداقية الردع وبثقة المجتمع الأمريكي في قيادته ومؤسساته.

2- حجم الضحايا الذي خلفته العمليات الإرهابية.

3- الجهة التي قامت بتنفيذ الحادث.

كان حادث ١١ سبتمبر قد جمع بين العناصر الثلاثة سابقة الذكر، وكان من الطبيعي أن يصل رد الفعل الأمريكي إلى حد توجيه جيشها في حرب حددتها بكونها حرب تطول الإرهاب في كل مكان في العالم.

أما الحادثان الآخران فلم يصل رد الفعل إلا إلى مستوى منخفض (حادث أوكلاهوما سيتي)، والذي تمثل في تشديد المراقبة الأمنية للجماعات المسيحية المتطرفة. وفي حادث السفارتين كان رد الفعل هو توجيه ضربات جوية لمواقع في دول واقعة في دائرة الاتهام دون تحريك الجيش إلى خارج الحدود، ربما لأن حجم الأضرار التي لحقت بمفهوم الردع كان أقل في الحادثتين، كما أن أعداد الضحايا من الأمريكيين كانت محدودة.

من جانب آخر كانت العلاقات العدائية بين الولايات المتحدة الأمريكية وكلِ من أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، والعراق تحت حكم صدام حسين، سبباً في زيادة فرص توجيه الجيش الأمريكي للحرب في هاتين الدولتين بزعم أنهما ترعيان الإرهاب (كانت أفغانستان تستضيف تنظيم القاعدة في أراضيها، وكان صدام حسين متهماً بامتلاك أسلحة دمار شامل يمكن أن ينقلها إلى الجماعات الإرهابية بسبب الحصار الذي فرضه العالم ضده منذ عام 1990).

الكتلة الحرجة للإرهاب

يمكن تشبيه الوضع الذي تختلف فيه ردود الفعل على العمليات الإرهابية للنتائج التي تسفر عنها التفاعلات التي تجري داخل المفاعلات النووية وفي القنابل النووية لحظة استخدامها، فقد تستمر عمليات التفاعل المتسلسل في كلتا الحالتين قائمة دون أن تتحول إلى تفجير نووي طالما أن هناك مهدئاً moderator  يمنع الوصول إلى الكتلة الحرجة في الأولى، فيما لا تحتوي القنبلة على مثل هذا المهدئ في الحالة الثانية لأنها تستهدف بالأساس تنشيط التفاعل المتسلسل، وصولاً لتحقيق الكتلة الحرجة، ومن ثم التفجير.

على غرار ذلك يمكن القول إن الكتلة الحرجة للعمليات الإرهابية تتحدد من خلال تجمع العناصر الثلاثة (الإضرار الشديد بمصداقية الردع، وحجم الضحايا، والجهة المتهمة بالتدبير)، والتي تم ذكرها سابقاً، وتؤدي الي وصول رد الفعل عليها إلى مستوى تحريك الجيوش خارج الحدود.. فهل سيكون رد الفعل الفرنسي بعد العمليات الإرهابية الأخيرة في باريس مشابهاً لرد الفعل الأمريكي في حادث ١١ سبتمبر؟

غموض مستوى الرد الفرنسي المتوقع

حصدت العمليات الإرهابية في باريس أكثر من 130 قتيلاً وقرابة مائتي جريح، ومثلما كان حادث ١١ سبتمبر في الولايات المتحدة مضراً بمصداقية الردع الأمريكي، وتسبب أيضاً في فقدان ثقة الأمريكيين بمؤسساتهم الأمنية، فإن أحداث باريس ربما تؤدي إلى نتائج مشابهة، غير أن فرنسا يبدو أنها لن تكون قادرة على رفع مستوى الرد إلى ما قامت به الولايات المتحدة بعد ١١ سبتمبر ، لأسباب عديدة، من أهمها:ـ

1 ـ إن  الإجراءات وسياسة العقاب التي اتبعتها واشنطن بعد الحادث لم تنه إلى الأبد فرصة تكراره - من وجهة نظر جورج تينت رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق -، إذ يمكن أن تتعرض الولايات المتحدة لحادث شبيه لـ ١١ سبتمبر في أي وقت. كما أن احتلال الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان زاد من حدة العداء بين المسلمين والغرب، وليس تنظيم "داعش" سوى أحد نتائج هذه الحروب، وما خلفته من احتقان عنيف في علاقة الإسلام والمسلمين بالغرب.

2 ـ إن الولايات المتحدة في عهد أوباما تدير سياستها الخارجية على أساس عدم التدخل العسكري الشامل في أي مكان في العالم مهما كانت الأسباب، سواء لرفض الشعب الأمريكي التضحية بجنوده في الخارج، أو لأن سياسة التدخل العسكري نفسها برهنت على فشلها في معالجة مشكلات الإرهاب الذي تتعرض له المصالح الأمريكية.

3 ـ إن فرنسا تشارك في التحالف المواجه لـ"داعش" منذ تأسيسه في سبتمبر 2014، ويقوم سلاحها الجوي بعمليات مستمرة ضد التنظيم في سوريا، وبدلاً من أن تردع هذه المشاركة "داعش" عن استهداف فرنسا وأراضيها ومصالحها، تسببت على العكس من ذلك في زيادة الدافعية لدى التنظيم لمهاجمة فرنسا.

4 ـ إن السياق الزمني والجيواستراتيجي لاحتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق وأفغانستان يختلف عن السياق الذي يحكم الحالة السورية في الوقت الراهن، ولا يدعم على الإطلاق أية مغامرة لإنزال قوات فرنسية في الأراضي السورية لاستهداف "داعش".

في إطار هذه المحددات اقتصرت تصريحات الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" في أعقاب الحادث على اتخاذ إجراءات داخلية (إغلاق الحدود، وتكليف الجيش بمطاردة المشتبه بهم، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد) مع وعد باستمرار فرنسا في المشاركة في الحرب ضد الإرهاب من دون أن يشير إلى إمكانية زيادة العمليات الجوية ضد "داعش" في سوريا.

والواقع أن العمليات الإرهابية في باريس قد دفعت فرنسا دفعاً إلى التركيز على مواجهة الأخطار التي يمثلها "داعش" في الداخل الفرنسي، خاصة أن قضية الفرنسيين العائدين من الجهاد في سوريا باتت تؤرق الأمن الفرنسي بشكل كبير؛ فوفقاً لمجلس الشيوخ الفرنسي، فإن حوالي 1500 فرنسي قد غادروا منذ عام 2012 إلى سوريا للمشاركة في القتال، حوالي 200 منهم قد عادوا لاحقاً إلى بلادهم. كما أن إحدى أهم القضايا التي ثارت خلال السنة الماضية تتعلق بكيفية تقديم هؤلاء للعدالة، خصوصاً أن أغلبهم ليس لدى السلطات الفرنسية اتهامات ثابتة ضده، فأجهزة الاستخبارات يتوقف عملها رغماً عنها في مناطق "داعش"، وقد لا تمتلك أية أدلة أو تحقيقات في الداخل السوري.

ولكن على الرغم من ذلك، فإن فرنسا التي لا يتوقع أن تقوم بما يشبه الحرب الشاملة ضد "داعش" على الأراضي السورية، يمكن أن تركز على عمليات استخبارية نوعية تستهدف قتل العناصر المتطرفة التي يصعب السيطرة عليها أو تقديمها للمحاكمات، كما أن الدور الاستخباراتي لفرنسا في سوريا قد يتسع ليشمل مهمة تصفية قيادات "داعش" هناك كجزء من عملية الرد على عمليات باريس، هذا إلى جانب القيام بمزيد من العمليات الجوية ضد مواقع التنظيم خاصة في سوريا.