أخبار المركز
  • فعاليات وإصدارات متنوعة لمركز "المستقبل" في معرض "القاهرة الدولي للكتاب" 2025
  • مركز المستقبل يطلق برنامج جديد لدراسات الذكاء الاصطناعي
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الإبداع أم الكفاءة.. هل تفقد الكتابة جوهرها في عصر الذكاء الاصطناعي؟)
  • د. أيمن سمير يكتب: (تحول تاريخي: المبادئ العشرة لـ"الترامبية الجديدة" في السياسة العالمية)
  • د. محمد بوشيخي يكتب: (سيناريوهان متعارضان: مستقبل داعش في سوريا بين التراجع أو المواجهة)

الإبداع أم الكفاءة.. هل تفقد الكتابة جوهرها في عصر الذكاء الاصطناعي؟

31 يناير، 2025


لطالما افتخر الإنسان بكونه الكائن الوحيد القادر على الإبداع، فهو المنتج للحضارة، والمبتكر للفنون، والمطور للثقافة، وصاحب القدرة الفريدة على التعبير وصياغة الأفكار. غير أن هذه السمة الفريدة التي تميز بها الإنسان لم تعد حكراً عليه، فقد استيقظ العالم منذ نحو عامين وتحديداً في مطلع 2023 على ثورة جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث ظهر تطبيق مبتكر قادر على إنتاج محتوى نصي لا نهائي يضاهي كفاءة البشر؛ بل ويتفوق عليهم في بعض الجوانب، وهو "تشات جي بي تي" من شركة "أوبن أيه آي"، الذي أصبح حديث الجميع. والذي لم يتوقف عند حد إنتاج النصوص، ولم تمضِ سوى أسابيع قليلة على إطلاقه حتى دخلت "جوجل" المنافسة عبر نموذجها "جيميني"، ثم تبعتها "مايكروسوفت" بإطلاق "كوبايلوت"، إلا أن الغلبة بقيت لصالح "تشات جي بي تي"، الذي أثبت تفوقه على جميع هذه النماذج، ومن بعدها دخل الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجالات إبداعية مثل تأليف الموسيقى والرسم والغناء وكتابة الأعمال الأدبية.

ولم يكد العالم يهضم ما أنتجه "تشات جي بي تي" من محتوى نصي حتى تفاجأ العالم مرة أخرى بظهور تطبيق صيني جديد، استطاع، على الأقل من ناحية التكلفة، أن يتفوق على "تشات جي بي تي"، وهو نموذج "ديب سيك"، ولم يكد يمر وقت على إطلاقه حتى أعلنت شركة "علي بابا" الصينية هي الأخرى عن نموذجها "كوين"، مؤكدة تفوقه على "ديب سيك"، ولا شك أن شركات أخرى مثل "هواوي" و"أمازون" ستلحق بهذا السباق المحموم قريباً، وكأننا أمام حرب مفتوحة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، هذه الحرب ليست ضد الذكاء الاصطناعي وبعضه؛ بقدر ما أنها تتنافس لكي تخرج البشر تدريجياً من هذا المجال؛ أي مجال الإبداع والثقافة والفنون.

وقد تتبادر إلى الذهن أسئلة مهمة: هل العالم فعلاً بحاجة إلى كل هذه التطبيقات التي تتمحور وظيفتها الأساسية حول إنتاج النصوص الكتابية؟ وهل نحن بصدد إنشاء آلة ضخمة لا تتوقف عن إنتاج المقالات والقصص والنصوص بلا نهاية؟ وإن كان الأمر كذلك، فمن سيقرأ كل ذلك المحتوى؟ الأمر بات يحتاج إلى آلة ضخمة جديدة تقوم بقراءة ما كتبته الآلة الأولى، وكأن الذكاء الاصطناعي بات يكلم بعضه في تجاهل متعمد لدور البشر.

في الحقيقة، ليس المهم من سيقرأ، الآلة أم الإنسان؛ بل الأهم أن هناك تطوراً جوهرياً قد حدث بالفعل في طبيعة الكتابة نفسها، واللغة أيضاً. فالكتابة مرت عبر التاريخ بمراحل عديدة، حيث بدأت بالرموز البدائية التي ظهرت منذ نحو خمسين ألف عام، وكانت تُنقش على ألواح الطين لتسجيل الممتلكات أو العمليات التجارية. ثم تطورت بعد ذلك قبل أكثر من خمسة آلاف عام إلى الكتابات التصويرية، مثل الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين، والهيروغليفية في مصر القديمة، والكتابة الصينية، وكلها أنظمة تعتمد على الرموز والصور المستوحاة من الواقع. ومع مرور الزمن، ظهرت الأبجديات التقليدية الأولية، مثل الفينيقية واليونانية واللاتينية والعربية، التي شكلت الأساس للأنظمة الكتابية الحديثة.

أما اللغات، فقد يخلق الذكاء الاصطناعي التوليدي لغة جديدة يتشاركها جميع البشر دون الحاجة إلى تعلم لغات بعضهم بعضاً، فأنت تتحدث إلى "تشات جي بي تي" بلغتك الوطنية ولهجتك المحلية، ومثلك يفعل جميع البشر، وهو يفهمهم جميعاً ويتجاوب معهم، فالتطور الذي يشهده مجال الكتابة واللغة بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي يحمل في طياته تحولات جذرية قد تؤثر بشكل عميق في التواصل البشري، وتبادل الثقافات بين الشعوب من خلال نظم الذكاء الاصطناعي القادرة على الترجمة الفورية وتحليل اللغات المختلفة دون الحاجة إلى تعلمها؛ لذا قد يتجه العالم نحو نموذج جديد من التواصل حيث لا يكون تعلم اللغات الأجنبية ضرورة؛ بل مجرد خيار متاح عند الحاجة.

مخاطر مستقبلية

هذا التطور في مجال الكتابة واللغة، رغم إيجابياته، إلا أنه يحمل في طياته عناصر خطورة. فاللغة لا تقتصر فقط على كونها أداة تواصل؛ بل تحمل في طياتها رؤية ثقافية وأسلوب تفكير يعكس تاريخ الأمة وهويتها. غير أن الذكاء الاصطناعي التوليدي، بقدرته على الترجمة الفورية والتواصل السلس بين البشر بمختلف لغاتهم، قد يجعل تعلم اللغات الأجنبية أمراً غير ضروري؛ مما يحد من التفاعل المباشر مع الثقافات الأخرى ويضعف فرص الانغماس في تفاصيلها.

إذا استمرت تقنيات الذكاء الاصطناعي في التطور إلى درجة إنشاء لغة موحدة يمكن لجميع البشر استخدامها دون الحاجة إلى تعلم لغات متعددة؛ فقد يؤدي ذلك إلى تقليص التنوع اللغوي في العالم، ومنه إلى طمس الهوية الوطنية والتراث والتاريخ الإنساني.

فالإنسان، الذي ظل لآلاف السنين الكائن الوحيد القادر على الكتابة، بات اليوم يواجه واقعاً جديداً، فهل ما تنتجه هذه النماذج يُعد فناً وإبداعاً حقيقياً؟ أم أنه إعادة إنتاج لما كتبه البشر؟ هل يمكن أن نعادل القصة التي يبدعها روائي مر بتجارب شخصية وثقافات متنوعة وصاغها من خلال مشاعره وانطباعاته الذاتية بتلك التي كتبها نظام ليس لديه أي مشاعر أو تجارب لكي يشاركها؟ هل ينبغي لنا أن نولي اهتماماً أكبر للأصالة والإبداع، أم أننا بحاجة إلى الدقة والكفاءة بغض النظر عن المصدر؟

إن هذا الجدل لن يتوقف عند حدود إنتاج النصوص والصور فقط؛ بل من المؤكد أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيواصل تطوره ليشمل استخدامات أخرى قد تتجاوز ما نعرفه اليوم، فاتحاً الباب أمام مستقبل لا تزال ملامحه غير واضحة، لكنه بلا شك سيعيد تشكيل علاقتنا بالإبداع والمعرفة.