أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

درس "كاراكاس":

كيف تحول نفط فنزويلا إلى مدخل للاضطراب السياسي؟

19 سبتمبر، 2016


إعداد: جلال الدين عز الدين علي


هبط إنتاج النفط في فنزويلا من ذروته البالغة نحو 3,2 ملايين برميل يوميًّا عام 1997 إلى ما لا يزيد على 2,5 مليون برميل يوميًّا في الوقت الحالي. وفي غياب إيرادات تصدير منتجات الطاقة التي تُمثل أكثر من 95% من عائدات الصادرات الفنزويلية، تُكافح فنزويلا من أجل استيراد السلع اللازمة لإشباع حاجات شعبها الذي يُعاني نقصًا حادًّا في الغذاء والدواء وغيرهما من المواد الأساسية، حتى إن القوات العسكرية استُنفرت لمراقبة إنتاج الطعام وتوزيعه. ولا يرى الفنزويليون الذين صار أكثر من ثلاثة أرباعهم فقراء أملًا في المستقبل المنظور، مع التوقعات بانكماش الاقتصاد في نهاية العام الجاري بنسبة 8%، وارتفاع معدل التضخم إلى 720%.

ويعترض الاضطراب السياسي جهود الإصلاح الاقتصادي. فالرئيس نيكولاس مادورو الذي تسلم السلطة عام 2013، لا يتمتع بالولاء الذي حازه هوجو شافيز من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى الدنيا، ويقاتل الآن من أجل بقائه السياسي، واضطر في مواجهة الاحتجاجات التي زلزلت المدن الفنزويلية على مدار العامين الماضيين إلى اتباع إجراءات قمعية، وأعاد في يوليو الماضي تنظيم بيروقراطية الدولة، محملًا وزير الدفاع مسئولية الشئون الاقتصادية. ويناور مادورو في إطار تمسكه بالسلطة من أجل منع المعارضة من إجراء استفتاء شعبي بسحب الثقة، والذي من شأنه أن يزيحه عن منصبه.

بعد تقديمها لهذا العرض الموجز لواقع الهاوية التي تقف فنزويلا على حافتها، تُفصِّل ليسا فيسيدي، مدير برنامج الطاقة والتغير المناخي والصناعات الاستخراجية في منتدى الحوار بين الدول الأمريكية، في مقالتها المنشورة في العدد الأخير من مجلة "الشئون الخارجية"، واقع قطاع الطاقة في فنزويلا، والتشابك بين جانبي الأزمة الراهنة: الاقتصادي والسياسي، وتقترح الإصلاحات اللازمة من وجهة نظرها لجذب البلد بعيدًا عن الهاوية.

إدارة خام النفط

ظل إنتاج فنزويلا النفطي يتراجع بانتظام على مدى أعوام، وتبلغ صادراتها اليوم مستويات تاريخية في انخفاضها. ولا تنبع هذه المشكلات من انخفاض أسعار النفط العالمية فقط، ولكن أيضًا من السياسات المعيبة. فعلى مدى سنوات، اعتمدت الحكومات الفنزويلية على شركة النفط المملوكة للدولة "بتروليوس دوفنزويلا" لتمويل البرامج الاجتماعية من قبيل الإسكان المجاني والرعاية الصحية التي أنهكت موارد الشركة المالية. وفي عام 2014 أنفقت "بتروليوس دوفنزويلا" 26 مليار دولار على البرامج الاجتماعية، على نحو تجاوز ضعف ما حققته من عوائدها المقدرة بـ12 مليار دولار. وفي عام 2015 حينما بدأت آثار الانهيار المتواصل في أسعار النفط تستحكم، انخفض الإنفاق الاجتماعي، لكنه ظل يفوق عائدات "بتروليوس دوفنزويلا" بـ5,8 مليارات دولار، حسب وزارة النفط في فنزويلا.

وعلى امتداد سنوات العقد الماضي، باستثناء عامي 2009 و2010، أنفقت الشركة على البرامج الاجتماعية أكثر مما أنفقته على التنقيب والإنتاج. ولهذا تقادمت حقول فنزويلا التي تُنتج الخام الخفيف، ولو بكميات قليلة، وزاد الاعتماد على حقول تنتج نوعيات النفط الثقيل قليلة القيمة، واضطرت فنزويلا إلى استيراد الخام الخفيف اللازم للمزج مع الناتج الأثقل لجعله قابلًا للنقل عبر خطوط الأنابيب والوصول إلى السوق.

ومما زاد الطين بلة سياسة الحكومة التي جمدت أسعار الجازولين المحلية عند سنت واحد تقريبًا للتر، على مدى عقدين تقريبًا، مكبدة "بتروليوس دوفنزويلا" المليارات سنويًّا. واضطر انخفاض سعر النفط الشركة إلى تشغيل بعض الحقول بالخسارة، على نحو أسهم في الافتقار الحاد إلى التدفقات النقدية، وعجز الشركة عن الاستثمار في الصيانة الأساسية لمعداتها ومنشآتها، مثل خطوط الأنابيب والمصافي.

وبسبب مراكمتها ديونًا ضخمة خلال فترة الطفرة النفطية (2010-2014)، تواجه حكومة فنزويلا وشركة "بتروليوس دوفنزويلا" جداول مدفوعات صعبة، إلى جانب الدفعات المستحقة في الربع الرابع من هذا العام التي يبلغ مجملها 4,3 مليارات دولار، ولن تنجو البلاد من الخطر في عام 2017، حيث يجب عليها دفع 7,3 مليارات دولار في الربع الثاني. وظلت الحكومة المفتقرة إلى النقد تُصدر سندات عبر شركة النفط للحصول على قروض جديدة بأسعار فائدة أقل، أو تقترض من دول كالصين بضمان النفط، لكن "بتروليوس دوفنزويلا" لم يعد لديها نقود لسداد ديونها.

وعلى الرغم من أن الحكومة تبدو مصممة على سداد أقساط الديون المستحقة هذا العام من خلال السحب الجائر من احتياطياتها من العملة الأجنبية، وتأخير الاستثمارات الضرورية في صناعة الطاقة، وفرض قيود على الواردات، حتى مع بقاء أرفف المخازن والمتاجر خالية. ففي حال تخلفت "بتروليوس دوفنزويلا" عن السداد، فلن تتمكن من الاقتراض، وسيكون بإمكان الدائنين الحجز على أصولها العالمية، ولن تتمكن الشركة من بيع النفط إلى الولايات المتحدة، كبرى أسواقها التصديرية بسهولة؛ لأن حَمَلَة الأسهم سينتزعون ملكية الشحنات عوضًا عن الدفع، وستكافح فنزويلا لبيع بقايا النفط لمشترين آخرين لأن المصدرين الآخرين يحمون أسواقهم بضراوة، ويزيدون إنتاجهم، ويقدمون خصومات لتشجيع المشترين.

ولا يستطيع منتجو النفط الفنزويليون من القطاع الخاص أو المشغلون الأجانب سد الفجوة، بسبب القيود المفروضة عليهم. فالشركة المملوكة للدولة احتفظت بأغلبية الأسهم في معظم مشروعات النفط منذ تأميم الصناعة عام 2007. ولا تدفع "بتروليوس دوفنزويلا" لشركائها أو مزوديها من القطاع الخاص بسبب أزمتها المالية. وتمثل الضوابط المفروضة على الصرف الأجنبي في البلد عقبة كئودًا أمام المشغِّلين الأجانب، مع إصرار الحكومة على إلزامهم بسعر الصرف الرسمي البالغ عشرة بوليفارات فنزويلية مقابل الدولار الأمريكي، بينما يبلغ السعر غير الرسمي للدولار ألف بوليفار.

مخاوف من الأزمة الفنزويلية

تثير الأزمة الفنزويلية مخاوف كبيرة في نصف الكرة الأرضية الغربي، وخصوصًا لدى شركاء فنزويلا التجاريين الرئيسيين مثل كولومبيا، والكثير من دول المنطقة التي تلقت مساعدات نفطية وراكمت ديونًا لفنزويلا منذ عام 2005 في إطار التحالف البتروكاريبي، الذي منح فنزويلا قوة إقليمية ملموسة. ومع تراجع هذه التدفقات وتوقفها المحتمل ستفقد فنزويلا قسمًا كبيرًا من القوة السياسية التي بنتها خلال العقد الماضي، مثلما قوضت أزماتها الاقتصادية تعاونها الإقليمي عبر منظمة الدول الأمريكية وغيرها من المؤسسات الدولية.

أما خارج النصف الغربي من العالم، فتراقب أسواق النفط المتقلبة بشدة تداعيات الأزمة الفنزويلية بقلق، فقد أدى تراجع الإنتاج النفطي لفنزويلا وكندا ونيجيريا في السنوات الماضية إلى تعافي أسعار النفط من الانخفاضات المتطرفة التي بلغتها من قبل خلال العام الجاري، وإن ظل العرض يفوق الطلب، واتجهت السوق نحو توازن العرض والطلب. ومن شأن مزيد من الانخفاض في إنتاج فنزويلا النفطي أن يجذب السوق إلى عجز العرض بما يؤدي إلى مزيدٍ من ارتفاع الأسعار.

الاضطراب السياسي

انهيار فنزويلا الاقتصادي مرتبط مباشرة باضطربها السياسي، ويغذي التطوران بعضهما بعضًا، ويتفاعلان في دوامة لا نهائية. ويبدو من المستبعد أن يتمكن مادورو من الاستمرار في تعلقه بالسلطة ما لم يلجأ إلى تدابير غير عادية. فقد فاز تحالف المعارضة المجتمعة في طاولة الوحدة الديمقراطية بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية في الانتخابات الوطنية التي عقدت في ديسمبر الماضي، ووعد التحالف بمكافحة التضخم، وتشجيع الاستثمار الخاص، وتفكيك مركزية الاقتصاد برفع القيود المفروضة على الأسعار، والتحرك التدريجي نحو تعويم سعر الصرف. ولم تتناول المعارضة كثيرًا من سياسات الطاقة، لكن زعماءها تعهدوا بزيادة الشفافية في قطاع النفط، وإنهاء برنامج المساعدة البتروكاريبي الذي يدَّعون أن فنزويلا لم تعد تتحمله.

كما وعد تحالف المعارضة بالإطاحة بمادورو خلال ستة أشهر، عبر استفتاء شعبي بسحب الثقة. وجمعت المعارضة نحو عشرة أضعاف عدد التوقيعات اللازم لإجراء الاستفتاء، وتظهر الاستطلاعات الأخيرة أن 75% من الفنزويليين سيصوتون لإسقاط مادورو. لكن المجلس الانتخابي الوطني الذي يُسيطر عليه حلفاء مادورو أخّر التصديق على التوقيعات، على أمل تأخير الاستفتاء حتى العام المقبل. وفي ظل هذا السيناريو، حتى لو نجح الاستفتاء في إسقاط مادورو، فسيُستبدَل به نائبه المعتدل الموالي له، أريستوبولو إيستوريز، ولن تُجرَى انتخابات جديدة بعد انتهاء عامين من المدة الرئاسية بموجب القانون.

وإذ تعمقت الأزمة الاقتصادية وهددت قبضة مادورو على السلطة، لا تبدو لدى الرئيس رغبة أو قدرة لاتخاذ التدابير الضرورية للجم التدهور في إنتاج النفط. وتنقسم الدائرة الضيقة من المستشارين المحيطين بمادورو بين من يدعو إلى اتباع نهج أكثر براجماتية، ومن يدعو إلى نهج قومي أكثر تشددًا.

إصلاح قطاع النفط

مأزق فنزويلا الاقتصادي ليس عصيًّا على العلاج. ويمكن جلب الاستقرار لقطاع النفط خلال سنتين باتباع مجموعة من الإصلاحات التنظيمية والاقتصادية الكلية البسيطة نسبيًّا. فلتحفيز الاستثمار الخاص في قطاع الطاقة، يمكن أن تسمح الحكومة لشركات النفط والغاز بالوصول إلى سعر صرف أكثر تنافسية، وحتى إن لم تستطع تعويم سعر الصرف، فسيساعد سعر الصرف شبه المعوم الذي يبلغ حاليًّا نحو 600 بوليفار مقابل الدولار شركات الطاقة مساعدة ملموسة.

ويمكن للدولة -أيضا- أن تخفض الضرائب والرسوم التي تبلغ نحو 90% من إجمالي عائدات شركات الطاقة، وتعد من أعلى معدلات الضرائب في العالم، بحيث يكون ما تأخذه الحكومة قريبًا من نظيره في معظم الدول المنتجة للطاقة، حيث تجمع الدولة عادة ما بين 50% و80% من عائدات الطاقة. وقد تختار أي إدارة جديدة أن تمنح مزيدًا من السيطرة المالية والتشغيلية لشركاء "بتروليوس دوفنزويلا" من القطاع الخاص، في مجازفات مشتركة مع ضمان تسلم الشركاء نصيبهم المستحق من المكاسب.

تستطيع الحكومة أيضًا أن تزيد بالتدريج أسعار الجازولين المحلية لدعم الموارد المالية لشركة "بتروليوس دوفنزويلا". وحتى مادورو أظهر رغبة في ذلك، وأعلنت إدارته في فبراير الماضي عن أولى زيادات أسعار الجازولين خلال 17 عامًا، من نحو سنت واحد للتر إلى عشرة سنتات للتر الوقود من الدرجات المتدنية، و60 سنتًا للتر الوقود المميز. ووفرت هذه الحركة على "بتروليوس دوفنزويلا" نحو 800 مليون دولار، ولكن ذلك يمثل نسبة صغيرة من التكلفة السنوية للاستمرار في دعم الوقود.

وبالنظر إلى ما بعد الأزمة الراهنة، سوف تحتاج فنزويلا في نهاية الأمر إلى إعادة تشكيل قطاع طاقتها إذا كانت تأمل في تجنب تكرار الكارثة الحالية. وتشتمل الإصلاحات الضرورية على إنشاء جهة تنظيمية مستقلة للإشراف على القطاع، والفصل بين وزارة النفط و"بتروليوس دوفنزويلا"، والتوقف عن الاعتماد على عائدات "بتروليوس دوفنزويلا" لتمويل البرامج الاجتماعية الهائلة. كما سيكون على "بتروليوس دوفنزويلا" أن تحسن رأسمالها البشري. وعلى المدى الطويل، ينبغي على الحكومة الفنزويلية أن تنظر إلى تنويع اقتصادها لتنهي اعتمادها العليل على النفط والغاز. 

وفي نهاية مقالتها تربط الباحثة إصلاح قطاع النفط الفنزويلي بضرورة إجراء تغيير سياسي جذري على المدى القصير. فطالما ظل مادورو أو حلفاؤه في السلطة، فلن يتحقق سوى القليل من التقدم.


* عرض موجز لمقالة بدورية الشئون الخارجية، عدد سبتمبر/ أكتوبر 2016 تحت عنوان "فنزويلا على شفير الهاوية: كيف خربت الدولة قطاع النفط؟ وما العمل لإنقاذه؟". 

المصدر:

Lisa Viscidi, "Venezuela on the Brink: How the State Wrecked the Oil Sector—and How to Save It?”, Foreign Affairs, Volume 95, Number 5, September/October 2016, pp. 133–140