التهجير الطائفي ودلالاته

19 April 2017


عشنا قروناً مع التمايزات الطائفية التي كانت تثير من حين لآخر مشكلات هنا وهناك بدرجات متفاوتة من الحدة، ولكننا لم نصل يوماً إلى هذا الوضع المقلق الذي يهدد فيه المتغير الطائفي وحدة المجتمعات وسلامة الأمة العربية، ويمس هويتها الواحدة، ويحاول أن يُحِل محلها اصطفافات طائفية بغيضة. بدأت هذه الظاهرة تلفت الأنظار بعد أن اتبعت الإدارة الأميركية في العراق سياسة طائفية واضحة لا يهمنا الآن إن كانت مقصودة أم ناجمة عن قصر نظر فادح، ثم جاء ما سُمي بالربيع العربي لكي يسكب الزيت على النار المشتعلة، فتحولت صراعات كان يُفترض فيها أن تكون سياسية إلى اصطفافات طائفية تتناقض مع معنى الدولة أصلاً التي يمثل الشعب أول عناصرها وأهم صفاته الرغبة في العيش المشترك، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء العرقي أو أي انتماء آخر. وعندما تطورت الأمور على النحو الذي نعرفه جميعاً في بلدان كالعراق وسوريا واليمن وليبيا بدأت أسمع في ملتقيات فكرية عديدة عربية، وغير عربية، نغمة مفادها أن هذه البلدان لن تعود كما كانت، وأننا يجب أن نهيئ أنفسنا لواقع جديد يسمح بأن يكون كل من هذه البلدان كيانين أو ثلاثة وربما أكثر! وكنت أرفض هذا المنطق بحزم وأقول إنه بداية التسليم بهزيمتنا أمام المخططات التي تستهدف وحدتنا لحساب مصالح خارجية أنانية، وأننا على العكس ينبغي أن نقاوم هذه المخططات بكل ما نستطيعه من وسائل للمقاومة. غير أن مؤشرات مقلقة بدأت تظهر تباعاً تشير إلى أن مخطط إعادة الفرز على أساس طائفي ماضٍ في طريقه بدأب، وإن يكن ببطء، دون أن ترتفع أصوات مخلصة هادرة تنبه إلى كارثة قادمة.

وعندما بدأت أسمع عن عراقيين يغيرون محل سكنهم سعياً إلى العيش في أماكن تحقق لهم التجانس الطائفي، ظننت أن المسألة لا تعدو أن تكون نوعاً من الاحترازات الأمنية المؤقتة. وعندما تابعت عمليات تبادل السكان بين بعض المدن السورية توهمت أن ذلك يتم استناداً إلى أسس سياسية، ولكن الحقيقة الُمرة بدأت تتأكد شيئاً فشيئاً وهي أن الفرز الطائفي أصبح حقيقة واقعة، وأن خطوات متتابعة تُتخذ بشأنه. وما يثير التشاؤم أن هذه العملية مرشحة للاستمرار في ظل تجمد الصراعات القائمة، وعدم قدرة أي من أطرافها على الحسم بسبب الاستقطابات العربية والإقليمية والعالمية. والمؤلم أن يحدث هذا بعد أن بدأنا نتأكد من إفلاس الحل الطائفي كما تشير التجربة العراقية، وبعد أن بدا بصيص أمل في إمكان رعاية بذور صالحة يمكن أن تثمر اصطفافاً وطنياً يجنبنا مهالك الطائفية. والمؤلم أكثر أن أحداً لا ينبه إلى المعنى الحقيقي لما يحدث، وهو ببساطة للأسف، أن تقسيم دول عربية قائمة الآن يمكن أن يصبح بسهولة أمراً واقعاً بعد أن بدأت الأطراف المعنية تسلم بعجزها عن العيش المشترك أول الشروط المطلوبة للحديث عن شعب في دولة واحدة. والمؤسف أن يتم هذا برضا، بل بوساطة أطراف عربية وإقليمية وعالمية! والمؤسف أكثر أن ما يحدث يفتح الباب لتهجير عرقي مقبل يمكن أن يهدد العراق بعد أن يتمكن من هزيمة الإرهاب على أرضه، وتبدأ عملية اقتسام الغنائم وما تثيره من خلافات متوقعة بين عرب العراق وأكراده، ولن تنجو سوريا من احتمال مشابه.

يحدث هذا مع أننا نعلم تمام العلم أن الفرز الطائفي أو العرقي ليس هو الحل، وإنما هو بالتأكيد بؤرة لصراعات جديدة، ولكن أحداً لا يريد أن يتعلم. ألم تتصور أطراف الصراع في السودان مثلاً في يوم من الأيام أن حل مشكلة الجنوب يكمن في الانفصال، فما الذي حدث بعده؟ ألم يولّد الانفصال أساساً صراعات جديدة؟ ألا يختلف أكراد العراق فيما بينهم، وتختلف توجهاتهم عن توجهات أكراد سوريا؟ لا يكمن حل معضلات الدولة الوطنية العربية بالتأكيد في «الفرز» أيّاً كانت أسسه، وإنما في بناء دولة مدنية حديثة تستند إلى القانون والمساواة والمواطنة الحقة وتكفل لأبنائها العيش الكريم، وتقوى بهم على صد أي مخطط للنيل من وحدتها، فهل ننتبه إلى الخطر الماثل أمام أعيننا؟

*نقلا عن صحيفة الاتحاد