المد الوردي:

حدود تنامي النفوذ الإيراني في امريكا اللاتينية

25 November 2020


عرض: هدير أبو زيد - معيدة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية 

تمكنت إيران لأكثر من عقدين من توسيع نفوذها في أمريكا اللاتينية، بمساعدة ما يُسمى بـ"المد الوردي" (التحول إلى اليسار السياسي الراديكالي في المنطقة) والذي بدأ في التسعينيات. فبالرغم من الانتكاسات العنيفة التي واجهتها تلك الحركة، لا سيما بعد وفاة الرئيس الفنزويلي "هوغو شافيز" (المهندس الرئيسي لهذه الحركة) في 2013؛ إلا أن القوى اليسارية تمكنت من التعافي وخلقت لطهران فرصًا جديدة لاختراق المنطقة، بهدف نهائي يتمثل في تهديد أمن الولايات المتحدة من خلال تحدي هيمنتها في فنائها الخلفي.

انطلاقًا من هذا، يؤكد "غابرييل أندرادي" في مقاله المعنون "تقدم إيران في أمريكا اللاتينية"، على تنامي النفوذ الإيراني بأمريكا اللاتينية، مستعينًا ببعض المؤشرات والمظاهر الدالة على هذا النفوذ، وأخيرًا وضع تصور مستقبلي للدور الإيراني بأمريكا اللاتينية.

معاداة السامية والثيوقراطية الإسلامية

يشير الكاتب إلى أن الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية كانت قد تبنت نهج الماركسية التقليدي الذي يقوم على معاداة الدين باعتباره أفيون الجماهير، وذلك خلال فترة الحرب الباردة، وهو ما تجلى في كوبا، على سبيل المثال، حينما تعرضت الديانات الكوبية والأفرو-كوبية للاضطهاد إلى جانب الكاثوليكية. لكن مع بداية الثمانينيات، تغير كل شيء لا سيما مع تأييد الثورة الإيرانية من قبل شخصيات يسارية مثل المنظر الاجتماعي الفرنسي "ميشيل فوكو"، وهو ما أدى إلى تحوّل الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية نحو تأييد الثورة الإسلامية والقبول بمبادئها.

وعليه، بدأ اليسار في أمريكا اللاتينية ينظر إلى النظام الإسلامي في طهران على أنه قوة سياسية يمكن العمل معها، لا سيما بعد إطلاق طهران لقب "الشيطان الأكبر" على الولايات المتحدة، وهو ما تلاقى مع أفكار تلك الحركات التي لطالما كافحت بشدة في معاداة أمريكا ومبادئ السامية.

وتعد الأرجنتين، أبرز مثال على هذا، فخلال سبعينيات القرن الماضي وقعت الأرجنتين تحت حكم المجالس العسكرية اليمينية التي اشتهرت بمعاداتها للسامية، وهو ما تزامن مع قيام "والتر بيفيرجي" بنشر كتاب لا يختلف عن بروتوكولات حكماء صهيون سيئة السمعة – على حد قول الكاتب-، شرح فيه بالتفصيل ما يسمى بخطة أندينا، التي لم تكن سوى مؤامرة نظمها اليهود للاستيلاء على منطقة باتاغونيا في الأرجنتين وضمها إلى إسرائيل.

ومن هنا، استمرت معاداة السامية في الانتشار في جميع أنحاء البلاد، حتى بعدما قاتلت الحركات الثورية الأرجنتينية ضد الديكتاتوريات وتمكنت في النهاية من استعادة الديمقراطية، وهو ما تزامن مع تكثيف النظام الإيراني لخطابه المعادي للسامية. وعليه، تقاربت أيديولوجيات اليسار الأمريكي اللاتيني مع الثيوقراطية الإسلامية.

إنجازات إيران

ذكر الكاتب مجموعة من المؤشرات والظواهر الدالة على تنامي النفوذ الإيراني بأمريكا اللاتينية، بدايةً من عام 1994، حينما فجر إرهابيون مدعومون من إيران سيارة مفخخة خارج المركز اليهودي (AMIA) في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل خمسة وثمانين شخصًا، وعلى الرغم من ضغوط الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة بعدما تبين أن الحادث مسؤولية طهران، رفضت إيران التعاون أو تسليم من وردت أسماؤهم من قبل المحققين، وبالتالي لم يتم تقديم أي شخص للمحاكمة.

لذا عندما تم انتخاب "نيستور كيرشنر" رئيسًا في عام 2004، وضع استراتيجية جديدة وكان يأمل في التوصل إلى اتفاق مع طهران لكي يتمكن المحققون الأرجنتينيون من استجواب المشتبه بهم، لكنه فشل، وبعدها أوكل "كيرشنر" التحقيق إلى المدعي العام "ألبرتو نيسمان" حتى يتمكن من إحالة القضية إلى الإنتربول، وبالفعل تمكن "نيسمان" في عام 2007، من وضع خمسة إخطارات حمراء من الإنتربول على كبار المسؤولين الإيرانيين الذين شاركوا في الهجوم، ومع ذلك لم توافق طهران على استجواب مسؤوليها في الأرجنتين.

لكن في عام 2015، اهتم "نيسمان" مرة أخرى بالقضية، وتوصل إلى أن "كريستينا فرنانديز" -التي تولت السلطة بعد وفاة زوجها "كيرشنر"- نفسها ربما تكون قد تواطأت مع الإيرانيين، بموجب صفقة يتم بموجبها تبرئة المسؤولين الإيرانيين مقابل الحصول على صفقات نفطية، وكان من المقرر أن يقدم "نيسمان" أدلة حول ذلك، لكنه توفي بعد العثور على جثته مصابًا بعيار ناري في الرأس.

ومع ذلك، لم يكن الهجوم خارج المركز اليهودي أول هجوم إرهابي مرتبط بإيران في المنطقة، فقد قصف "حزب الله" (أحد أشهر أذرع إيران) السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، وهو ما أسفر عن مقتل تسعة وعشرين مدنيًا. ليس هذا فحسب، فقد سعت طهران لنشر الأيديولوجيا الجهادية الشيعية من خلال مراكز متخصصة تم إنشاؤها عبر أمريكا اللاتينية، بداية من مارس 1992، وكان رجل الدين الإيراني "محسن رباني" هو المهندس الرئيسي لهذه التحركات. 

ففي وقت مبكر من عام 1983، أي قبل وقت طويل من القصف، قام "رباني" بتدريب التلاميذ في الأرجنتين، وساعد في إنشاء خلايا وربما معسكرات تدريب في منطقة الحدود الثلاثية غير الخاضعة للسيطرة، حيث تتلاقى البرازيل والأرجنتين وباراغواي. وأخيرًا، اهتم "رباني" بعمليات إصدار شهادات الحلال في صناعة الأغذية التي كانت بمثابة غطاء لتجنيد الجهاديين. 

وبمجرد انتخاب "هوغو شافيز" رئيسًا لفنزويلا عام 1998 والذي اشتهر بمناهضته للولايات المتحدة، تسارع نفوذ إيران في المنطقة بشكل كبير، لا سيما مع قيام عالم الاجتماع الأرجنتيني "نوربرتو سيريسول" المشهور بمعاداته للسامية والتطرف الأيديولوجي، بإقناع "تشافيز" بالانحياز إلى التوسعية الإيرانية، وكان أول من اقترح إنشاء مكتب استخبارات استراتيجية يموله "حزب الله".

وعليه، بدأ "شافيز" في إظهار بعض التعاطف الأولي تجاه الحركات الجهادية، بغض النظر عن انتماءاتها الطائفية. فعلى سبيل المثال، تعاطف مع الإرهابي الفنزويلي سيئ السمعة "إليش راميريز" المعروف أيضًا باسم "كارلوس ابن آوى"، والذي اختبأ في السودان في عهد "عمر البشير" واعتنق الإسلام في النهاية.

على الجانب الآخر، أدى صعود "محمود أحمدي نجاد" كرئيس لإيران عام 2005، إلى تسهيل التعاون بين إيران وفنزويلا، والذي بلغ ذروته في أكثر من مائتي اتفاقية ثنائية، وأسفر عن بعض المشاريع المالية التي سمحت بالتهرب من العقوبات الدولية على إيران، وكان أشهرها مشروع بنك التنمية الدولي الذي يعمل خارج نطاق العقوبات. ناهيك عن إنشاء رحلات جوية مباشرة بين كراكاس وطهران، والتي توقفت لبعض الوقت لكنها استؤنفت فيما بعد، وكانت تثير شكوك المحللين، لا سيما وأن الطريق ليست له أي جدوى اقتصادية على الإطلاق، ولم تقم سلطات الجمارك في كاراكاس بفحص الركاب عند الوصول، مما أوضح أن الغرض الحقيقي من الرحلة الأسبوعية هو استيراد معدات عسكرية إلى فنزويلا، فضلًا عن إرسال نظام كاراكاس معدات صاروخية إلى حلفاء إيران في سوريا استخدمها لاحقًا نظام "الأسد" لمهاجمة خصومه في الحرب الأهلية السورية.

وبمجرد وفاة "تشافيز" بسبب السرطان في عام 2013، سعى النظام الإيراني لتوسيع نفوذه خارج فنزويلا، وكان "تشافيز" أول من ساعد إيران في تلك المهمة قبل وفاته مباشرة، حيث برز كرئيس بلا منازع لليسار الراديكالي في أمريكا اللاتينية والزعيم الرئيسي للمد الوردي، كما استخدم نفوذه للتوسط في التحالفات التي كانت طهران تأمل في إقامتها مع دول أخرى في المنطقة، وهو ما تجلى في تشكيل ما يسمى بـ"تحالف الألبا" الذي يضم كلًّا من فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وبوليفيا، إضافة إلى إيران في وضع المراقب. ومن ثم بات هذا التحالف المنصة التي استخدمتها الجمهورية الإسلامية لتوسيع نفوذها إلى ما وراء فنزويلا.

انطلاقًا من هذا، بدأت طهران الاهتمام ببوليفيا بشكل خاص، فقامت بتأسيس مدرسة ألبا للدفاع الإقليمي خارج مدينة سانتا كروز مع مستشارين إيرانيين، كما قامت بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع الرئيس "إيفو موراليس"، والتي شملت مشاريع للتبادل الثقافي (ربما غطاء لأنشطة التوظيف والتعدين)، والتي اتضحت أهميتها في عهد إدارة "باراك أوباما" عندما كانت تتفاوض بشأن اتفاقها النووي مع طهران، حيث كان يشتبه في أن بوليفيا تستخرج اليورانيوم وتسلمه إلى إيران لتسريع برنامجها النووي.

وفي نهاية المطاف، انتقل التوسع الإيراني في أمريكا اللاتينية إلى مرحلة الإعداد لهجمات نشطة ضد الأهداف الأمريكية، ففي عام 2007 تم القيام بمحاولة فاشلة لتفجير خزانات الوقود تحت مطار "جون إف كينيدي" الدولي في نيويورك من قبل شخص يُدعى "عبدالقادر"، والذي تدرب وعمل تحت إشراف "رباني". 

على الرغم من عدم نجاح أي من هذه الهجمات، فإنها تعد مؤشرا على أن نفوذ إيران في أمريكا اللاتينية قد نما بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين، وأن الجمهورية الإسلامية لديها اهتمام كبير بالمنطقة، كوسيلة للتدخل في الفناء الخلفي لواشنطن والاستعداد للهجمات المستقبلية.

ملامح مستقبلية

مثلت وفاة "شافيز" في عام 2013 بداية لانحسار المد الوردي، ومن ثم تقلص النفوذ الإيراني بأمريكا اللاتينية، وهو ما تجلّى في البرازيل على سبيل المثال، فعلى الرغم من رغبة حكومة "لولا دي سيلفا" في إقامة علاقات أوثق مع إيران، إلا أن خليفته "ديلما روسيف" تراجعت عن مثل هذه الترتيبات على الرغم من كونها يسارية راديكالية. ومع تولي "جاير بولسونارو" أصبحت الحكومة أكثر انصياعًا للمصالح الأمريكية، ومن ثم أغلقت الباب أمام النفوذ الإيراني. وبالمثل، في أعقاب المظاهرات الحاشدة نتيجة لتزوير الانتخابات، أُجبر رئيس بوليفيا "إيفو موراليس" على الاستقالة، وبالتالي لم يعد لطهران نفس الدرجة من النفوذ هناك.

لكن على خلاف ما يتوقعه البعض، يؤكد الكاتب أن هذه التغييرات لا تعني أن النفوذ الإيراني لم يعد نشطًا، فلا تزال طهران تعمل من خلال شبكات بالوكالة، بما في ذلك الدعم المالي للمشاريع الثقافية التي تحافظ على الأنشطة التخريبية في تلك البلدان.

فهنالك علامات مقلقة تشير لعودة المد الوردي مرة أخرى، أبرزها عودة "كريستينا فرنانديز" إلى السلطة في الأرجنتين كنائبة للرئيس، وهي تصر على أن طهران ليست مسؤولة عن هجمات 1994، فضلًا عن انتشار الموجات اليسارية في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية كالإكوادور وكولومبيا وتشيلي في الآونة الأخيرة، وهو ما سيسمح بوصول المتطرفين إلى السلطة في تلك البلدان. وعليه، يمكن لإيران أن تنتهز الفرصة وتحاول إنشاء مراكز عمليات جديدة للإرهاب.

 ختامًا، ساهمت تصريحات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بشأن المهاجرين من أصل إسباني بشكل كبير في تفاقم العداء ضد الولايات المتحدة من جانب دول أمريكا اللاتينية، وهو ما استفادت منه إيران لتغذية السرد الثوري المعادي للسامية والولايات المتحدة، وبالتالي نجحت طهران -إلى حد ما- في كسب بعض القلوب والعقول في المنطقة. وعليه، ينبغي على واشنطن أن تزيد من قوتها الناعمة من خلال الاتفاقيات التجارية والتبادلات الثقافية والمبادرات التعليمية من أجل استعادة تأثيرها الثقافي في المنطقة، التي تشكل أحد أهم مجالاتها الحيوية. 

المصدر:

 Gabriel Andrade, “Iran's Advances in Latin America”, Middle East Quarterly,  Volume 27, Number 4, 2020.