الهند أولاً:

لماذا تتجه نيودلهي لموازنة علاقاتها مع الولايات المتحدة؟

08 January 2019


لم يمنع تطابقُ المصالح الهندية والأمريكية حول تحجيم التمدد الصيني في المحيط الهندي وجنوب آسيا، من أن تقوم نيودلهي بإعادة تقييم تحالفها مع واشنطن، وتعزيز التوازن في سياستها الخارجية. ويرتبط التباعد النسبي الذي بات حاكمًا للعلاقات بين الدولتين باستراتيجية رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" -ذي التوجهات القومية- لتحويل الهند من فاعل إقليمي مؤثر في جنوب آسيا إلى قوة عالمية، وسعي نيودلهي لتحقيق مصالحها الوطنية عبر اتباع سياسات واقعية مرنة لا تُقيّدها الالتزامات الأيديولوجية أو التحالفات التقليدية، وهو ما لا ينفصل عن تحديات الاستقرار الداخلي، وتراجع أداء الاقتصاد الهندي، وحسابات "مودي" للانتخابات التشريعية المقبلة في عام 2019.

خريطة القضايا الخلافية:

شهدت العلاقات الهندية - الأمريكية توترات متصاعدة خلال الآونة الأخيرة نتيجة لسعي نيودلهي لتأكيد استقلاليتها عن الولايات المتحدة، وتصاعد المخاوف من تآكل مصداقية الالتزامات الأمريكية تجاه حلفائها مع هيمنة منطق الصفقات وحسابات التكلفة على سياسة إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب". وفي هذا الإطار، تمثلت أهم القضايا المثيرة للتوترات في العلاقات بين الدولتين فيما يلي:

1- الترتيبات الأمنية في أفغانستان: أثارت تصريحات الرئيس "ترامب" عن الدور الهندي في أفغانستان، في 2 يناير 2019، عاصفة انتقادات من جانب المنتمين للنخب السياسية في الهند على اختلاف انتماءاتهم. حيث سخر "ترامب" علانية من تفاخر رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" بتمويل نيودلهي بناء مكتبة عامة في أفغانستان، قائلًا: "شكرًا على المكتبة العامة.. أنا لا أعرف من سيستخدمها في أفغانستان".

وانتقد "ترامب" بحدةٍ عدم مشاركة الهند بقوة في الترتيبات الأمنية في أفغانستان، وعدم تحملها أعباء أكبر في الحرب الدائرة منذ 17 عامًا، مؤكدًا أن حلفاء الولايات المتحدة في جنوب آسيا اكتفوا بإرسال مئات الجنود فقط كدلالة رمزية على انخراطهم في الحرب مقابل تحمل الولايات المتحدة مليارات الدولارات.

وردّت الحكومة الهندية بنشر بيانات تمت نسبتها لمصادر حكومية بحجم إسهام الهند في دعم التنمية في أفغانستان باعتبارها "المانح الأكبر للمساعدات لأفغانستان في جنوب آسيا" بقيمة إجمالية قدرت بحوالي 3 مليارات دولار، تضمنت مشروعات من بينها إنشاء 218 كم من الطرق، وتمويل إنشاء "سد سلما"، وتدريب أكثر من 3500 مواطن أفغاني، وتوريد 1.1 مليون طن من القمح لكابول، وتجهيز عدد كبير من المستشفيات التي تم تدميرها، وتأسيس المقر الجديد للبرلمان الأفغاني. وفي المقابل، انتقدت بعض مراكز التفكير الهندية، ومن بينها مؤسسة أوبزرفر للأبحاث، قرار الرئيس "ترامب" بالانسحاب من أفغانستان دون التشاور مع حلفاء واشنطن في جنوب آسيا وفي صدارتهم الهند.

2- واردات السلاح الروسية: تسبب تعاقد الهند على صفقة سلاح روسية ضخمة خلال زيارة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى نيودلهي، في أكتوبر 2018، في تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الهند، خاصة بسبب واردات الهند من نظام الدفاع الجوي الروسي "إس – 400"، إذ لوحت واشنطن بتطبيق قانون "مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات" المعروف اختصارًا باسم "كاتسا" والذي يقضي بفرض عقوبات على الدول التي تقوم باستيراد أسلحة من موسكو.

وتضمّنت تصريحات الرئيس الأمريكي -تعقيبًا على هذه الصفقة- في أكتوبر الماضي تهديدات مباشرة للهند، بقوله: "إن الهند سترى الرد الأمريكي في وقت أسرع مما تظن"، وهو ما دفع رئيس أركان القوات البرية الهندية "رافات بيبين" للرد في تصريحات لصحيفة "نيو إنديان إكسبرس" بقوله: "قد تفرض الولايات المتحدة علينا عقوبات، ولكن لدينا سياسة مستقلة، ولا أحد يملي علينا أوامره". وندّدت نيودلهي أيضًا بتلميحات مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشئون آسيا والمحيط الهادئ "راندل شرايفر" حول ضرورة امتناعها عن استكمال صفقة "إس - 400" مع روسيا.

وعلى الرغم من توصل الهند إلى صفقة مع الولايات المتحدة تقضي بالسماح لها باستكمال تعاقدات الحصول على صواريخ "إس – 400"، إلا أن "ترامب" ظل على موقفه الناقد لنيودلهي، وأعلن في نهاية أكتوبر 2018 عدم حضوره لاحتفالات يوم الجمهورية بالهند في 26 يناير 2019.

3- سياسات الحمائية التجارية: على الرغم من تناقضات المصالح الجيواستراتيجية الحاكمة للتفاعلات بين الهند والصين، إلا أن مواقف الدولتين تجاه الإجراءات الحمائية الأمريكية تجاه التجارة الدولية تكاد تكون متطابقة بسبب الارتدادات السلبية لهذه السياسات على اقتصاد الدولتين، والتي تزداد حدتها في الهند مقارنة بالصين بسبب عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية بها. فعلى سبيل المثال، تسببت رسوم مكافحة الدعم التي فرضتها واشنطن على وارداتها من الصلب الهندي في خسائر ضخمة لهذا القطاع، وهو ما تسبب في مقاضاة نيودلهي لها في منظمة التجارة العالمية، وتكرار الشكوى للمنظمة في يونيو 2017 من عدم قيام واشنطن بإسقاط هذه الرسوم رغم حصول الهند على حكم سابق لصالحها من المنظمة.

وردّت الهند على الإجراءات الأمريكية في يونيو 2018 بفرض رسوم جمركية مضاعفة على بعض الصادرات الأمريكية إليها، مثل التفاح واللوز والحمص والعدس والجوز، كما قررت الهند زيادة التعريفات على بعض أنواع منتجات الحديد والصلب. ووفقًا لتقرير مؤسسة ستراتفور الصادر في ديسمبر 2018 حول توقعات عام 2019، رفضت الهند على مدار العام كافة الضغوط الأمريكية لرفع هذه الرسوم التي شملت في فترة لاحقة منتجات الألبان والأجهزة الطبية. 

4- واردات النفط الهندية من إيران: أدى إعلان الولايات المتحدة إعادة فرض العقوبات على صادرات النفط الإيرانية، في أغسطس 2018، إلى تصاعد التوترات بين الدولتين بالنظر إلى كون نيودلهي ثاني أكبر مستورد للنفط من إيران في العالم. وتفاوضت الدولتان منذ سبتمبر 2018 للسماح للهند بالاستمرار في استيراد النفط، وهو ما ترتب عليه منح واشنطن إعفاء للهند من العقوبات على الواردات النفطية بشرط دفع مقابل الواردات بالروبية الهندية، وإيداعها في بنك "يو.سي.أو" بنيودلهي كي تستخدمها طهران في تمويل وارداتها من الهند.

وعلى الرغم من التوافق بين الدولتين حول واردات النفط، إلا أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين نيودلهي وطهران تظل ضمن القضايا الأساسية التي تتسبب في توترات متصاعدة بين الهند والولايات المتحدة بسبب سعي واشنطن لتكثيف الضغوط الاقتصادية على إيران عبر العقوبات، وفرض المقاطعة الاقتصادية، وهو ما يتعارض مع مصالح نيودلهي التي تسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية من الاستثمار في إيران رغم العقوبات الاقتصادية.

سياسة "تنويع الشركاء":

تكشف مراجعة السياسة الخارجية الهندية منذ تولي "ناريندرا مودي" السلطة في مايو 2014 عن تطلعات عالمية تستهدف تنويع شركاء نيودلهي، والانخراط في عملية إعادة هيكلة النظام الدولي، وعدم الاكتفاء بعلاقات التحالف مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وهو ما عبّر عنه "مودي" في كلمته أمام "حوار شينجريلا" الذي يُنظّمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في سنغافورة في يونيو 2018 بتركيزه على دور الهند كحلقة وصل بين المحيطين الهندي والهادي ومركز عالمي للتجارة والتكنولوجيا والتنمية. وفي هذا الإطار، تمثّلت أهم دوافع مراجعة الهند لعلاقاتها مع الولايات المتحدة فيما يلي:

1- تصاعد "أزمة الثقة": تسببت سياسات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تجاه الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في تآكل ثقة نيودلهي في قدرتها على الاعتماد على الولايات المتحدة في ظل تمسك "ترامب" بشعار "أمريكا أولًا"، ومنطق تحقيق المكاسب المباشرة، وتقليص التكلفة، وتراجعه عن التزامات واشنطن تجاه حلفائها، وهو ما تسبب في إرباك العلاقات بين الدولتين، وتقييم الهند سلبيًّا لسياسات الولايات المتحدة في جنوب آسيا والمحيط الهندي، وهو ما تجلى في التعليقات الهندية الناقدة للقرار المنفرد من جانب واشنطن بالانسحاب من أفغانستان دون مراعاة التداعيات الأمنية على الهند وحلفاء واشنطن.

2- التقارب مع روسيا: تسعى الهند لاستعادة القدرة على المناورة في علاقاتها الخارجية عبر تعزيز العلاقات مع موسكو لتصل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، بحيث تصبح موسكو الموازن الاستراتيجي لعلاقات الهند مع واشنطن، وهو ما يتسبب في توتر العلاقات بين الهند والولايات المتحدة بسبب سعي الأخيرة لفرض سياسات معاقبة موسكو على حلفائها في القارة الآسيوية.

وكان الاحتفاء الهندي بزيارة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى نيودلهي، في أكتوبر 2018، وتوقيع أكثر من 20 اتفاقية للتعاون العسكري والاقتصادي، بمثابة رسالة إلى واشنطن بعدم قبول فرض الوصاية على سياسات الهند الخارجية. فبالإضافة للتعاقدات العسكرية، توافقت الدولتان على زيادة التبادل التجاري والاستثمارات المتبادلة، وإبرام اتفاق للتجارة الحرة بين الهند والاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا. وفي السياق ذاته، يُعد تباحث كل من رئيس الوزراء الهندي والرئيس الروسي حول تعزيز التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب في يناير 2019، مؤشرًا على وجود مفاوضات بينهما على سياسة مشتركة لشغل الفراغ الأمني الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

3- تعزيز العلاقات مع إيران: تصر نيودلهي على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع إيران رغم العقوبات الأمريكية، بسبب سعيها للاستفادة من فرص الاستثمار والتعاون مع إيران. وتعتبر الهند العقوبات الأمريكية فرصة لن تتكرر لتحقيق مكاسب من التعاون الاقتصادي مع إيران نتيجة لتراجع المنافسة وإحجام الدول الأخرى عن الانخراط في علاقات اقتصادية مع طهران خوفًا من العقوبات الأمريكية، وهو ما يفسر سعي نيودلهي لرفع مستويات التبادل التجاري مع إيران، والاستثمار في ميناء تشابهار الهندي، فضلًا عن التعاون العسكري والأمني بين الدولتين لتحجيم تأثيرات عدم الاستقرار في أفغانستان.

4- سياسة "الهند أولًا": لا تعد سياسة تحقيق المكاسب المطلقة في العلاقات الخارجية حكرًا على الرئيس "ترامب"، فعلى مدار فترة تولي رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" للسلطة في نيودلهي، اتبعت الهند سياسات واقعية مرنة تقوم على تحقيق المصالح مع التحرر من القيود الأيديولوجية والتزامات التحالفات، ويرتبط ذلك بالرؤية القومية المهيمنة على فكر حزب بهارتيا جاناتا الحاكم في نيودلهي التي تنطلق من رؤية قومية للمصالح الهندية تركز على المكاسب المباشرة في العلاقات الخارجية، وتجنب تحمل تكلفة دون تحقيق عوائد، بالتوازي مع التطلع لشغل مكانة "القوة المركزية" في جنوب آسيا، والتحول إلى قوة عالمية كبرى ضمن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. 

5- حسابات "انتخابات 2019": يركز رئيس الوزراء الهندي على كيفية حسم الانتخابات التشريعية وانتخابات الولايات التي تكتمل مراحلها خلال شهري أبريل ومايو 2019 والتي تعد بمثابة "مخاض عسير" لحزب بهارتيا جاناتا الحاكم بسبب تصاعد الانتقادات لتردي أداء الاقتصاد الهندي، وتصاعد معدلات البطالة، بالإضافة إلى انتشار الاضطرابات وعدم الاستقرار في بعض الولايات الهندية، وتنظيم بعض الاتحادات العمالية والمهنية في قطاعات الطاقة والصلب والسيارات والخدمات المالية لإضرابات في مطلع يناير 2019 بسبب سياسات الخصخصة واندماج البنوك ورفع أسعار الوقود وتزايد معدلات البطالة.

وفي مواجهة هذه الضغوط، تسعى حكومة "مودي" لخلق أكثر من 10 ملايين وظيفة خلال العام، وهو ما يدفعه للتركيز على تعزيز التعاون الاقتصادي مع روسيا وإيران، ومحاولة احتواء التصعيد مع الصين، بالإضافة إلى مقاومة الضغوط الأمريكية لرفع الرسوم الجمركية على الصادرات الأمريكية لحماية القطاع الصناعي الهندي، وهو ما يرتبط بالاستمرار في اتباع سياسة "اصنع في الهند" التي اتبعتها حكومة "مودي" لتشجيع الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الصناعة والخدمات بهدف خلق المزيد من فرص العمل.

إجمالًا، على الرغم من التباعد النسبي في العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، إلا أن معادلات المصالح بينهما سوف تدفعهما للحفاظ على علاقات التحالف خوفًا من تهديدات التمدد الإقليمي للصين في المحيط الهندي، وهو ما يتصل بتبني واشنطن سياسة شديدة المرونة تجاه نيودلهي تسمح للأخيرة بتنويع شركائها، والتقارب مع روسيا وإيران دون أن يمتد ذلك لإحداث تحولات جذرية في توجهات الهند تجاه بكين وسياستها التوسعية في جنوب آسيا.