• Login

تركيا الكبرى:

النفوذ الديني لتركيا في آسيا الوسطى والقوقاز

26 August 2014


إعداد: شروق عبدالغفار


تسعى الجمهورية التركية إلى تحقيق حلم "تركيا الكبرى Turkic World" عن طريق بسط نفوذها على الدول الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا والقوقاز. وفي سبيل ذلك، لجأت الحكومات التركية المتعاقبة إلى استخدام القوة الناعمة Soft power، التي اعتمدت في الأساس على المبادرات الفردية وجهود المنظمات غير الحكومية التي عملت على نشر الثقافة التركية وتوطيد العلاقات مع الشعوب في هذه الدول.

لقد مثل الدين الإسلامي الأداة الأكثر تأثيراً في السياسة الخارجية التركية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتعطش المجتمعات الإسلامية التي كانت ضمن الكتلة الشيوعية إلى فاعل مسلم تنهل منه ثقافتها التي طالما حرمت منها في ظل الاتحاد السوفييتي. وكانت الخيارات المتاحة لهذه الدول هي: إيران، والمملكة العربية السعودية، وتركيا.

في ضوء ذلك حاولت تركيا تقديم نفسها كبديل علماني مناسب للقيام بذلك الدور، لكن الوضع تأزم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حيث فُرضِت المزيد من القيود على الجماعات الدينية – ومن ضمنها الجماعات التركية - خوفاً من ظهور جماعات دينية متطرفة، وتفاقمت الأزمة مع تنامي الاتجاه الإسلامي لحزب العدالة والتنمية التركي، مما أثار حفيظة دول وسط آسيا والقوقاز.

يناقش هذه الإشكالية الدكتور بايرام بالسي Bayram Balci، الباحث التركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، والحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والحضارة الإسلامية في فرنسا، وعمل باحثاً زائراً بمركز كارنيجي للسلام الدولي بالولايات المتحدة؛ من خلال دراسة تحت عنوان (النفوذ الديني التركي في آسيا الوسطى والقوقاز)، نشرت في دورية "اتجاهات معاصرة في الأيديولوجيا الإسلامية Current Trends in Islamist Ideology" الصادرة عن معهد هدسون الأمريكي، إذ يناقض الكاتب كيف استخدمت تركيا الدين بهدف تحقيق نفوذ ثقافي ملحوظ داخل هذه الدول بعد الصحوة الإسلامية التي انتشرت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، ودور المنظمات والحركات غير الحكومية مثل "حركة النورسي وحركة حزمت/خدمة" في تحقيق الهدف التركي، وأخيراً يناقش التحديات والشكوك التي تواجه تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز، ورؤية مستقبلية حول العلاقة بين تركيا ودول وسط آسيا والقوقاز.

النفوذ التركي داخل دول وسط أسيا والقوقاز

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عملت حكومات دول آسيا الوسطى والقوقاز على دمج الدين الإسلامي بالهوية الوطنية للدولة، وذلك لاحتواء الصحوة الإسلامية للمواطنين. في الوقت ذاته قامت بمراقبة الأنشطة الدينية والشخصيات ذات الثقل الديني والروحي عن كثب لمنع ظهور الجماعات المتطرفة على غرار طالبان والقاعدة؛ وذلك من خلال "مديرية الشؤون الروحية والدينية" و"لجنة الدولة للشؤون الدينية"، فكانت هاتان المؤسستان بمنزلة أدوات الدولة للمراقبة والتحكم في الشؤون الدينية وأنشطة الجماعات والمنظمات الدينية، لكن مع استمرار الممارسات القمعية للدولة، زاد التطرف الفكري؛ فظهرت "الحركة الإسلامية في أوزبكستان" في عام 1993، والتي كانت بمنزلة بداية الحركات الإسلامية المتطرفة بدول وسط آسيا والقوقاز.

وأمام هذه التطورات رحبت تلك الدول بالنموذج التركي كنموذج علماني قابل للتطبيق بعد عقود من اعتناقها للفكر الشيوعي. واستندت الجهود التركية على محركين أساسيين ساعدا في توطيد العلاقة بين تركيا وهذه الدول.

يتمثل المحرك الأول في سعي الحكومة التركية لتوطيد العلاقة مع (جمهوريات الترك المستقلة) – وفق التعبير التركي ــ عن الاتحاد السوفييتي، ورغبة أنقرة في بناء اتحاد سياسي إقليمي يضم الدول المتحدثة باللغة التركية تقوده تركيا. أما المحرك الثاني فهو الاتجاه العلماني للجمهورية التركية الذي أكسب تركيا تأييد الغرب، خوفاً من انتشار الأيديولوجيات المتطرفة والتنظيمات الإسلامية المتشددة، لذلك كان النموذج التركي هو البديل الوسطي الوحيد الذي نجح في دمج الإسلام والعلمانية، بما لا يتعارض مع الفكر الغربي ولا مع مصالحه.

أدوات تركيا لتوسيع نفوذها في وسط آسيا والقوقاز

اعتمد النفوذ الثقافي التركي على جهود الحكومة والجماعات والحركات غير الحكومية. فتمثلت الجهود الحكومية في المؤسسات الرسمية للدولة المختصة بتنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ونشر تعاليم الدين الإسلامي وخدمة مبادئه داخل دول وسط آسيا والقوقاز. فقد أسست الحكومة التركية "مديرية الشؤون الدينية – الديانت Diyanet-" وكانت مهمتها الأساسية هي تنظيم العلاقة بين الكماليين – المنتمين لفكر مصطفى كمال أتاتورك - والفكر الإسلامي.

وقد توسع نفوذ مديرية الشؤون الدينية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ليشمل العلاقة بين تركيا ودول القوقاز الإسلامية، حيث أصبحت "الديانت Diyanet" هي الأداة الاساسية للنفوذ التركي الرسمي في دول الاتحاد السوفييتي سابقاً. بالإضافة إلى ذلك، أسست الحكومة التركية "المجلس الإسلامي بأوراسيا" في عام 1994، وكانت مهمته الأساسية التمهيد للحوار حول العلاقة بين الإسلام والدولة، ودور الإسلام في المجتمع، وقد نجح المجلس في الوصول لبعض الإنجازات منها توحيد الإجازات الإسلامية الأساسية ووضع الإطار والمنهج العام للتعليم الديني. ومنحت إنجازات المجلس الإسلامي لتركيا الوسيلة المناسبة لفرض رؤيتها للإسلام والحصول على درجة عالية من النفوذ الثقافي داخل دول تلك المنطقة.

على الجانب الآخر تمثلت الجهود غير الحكومية في حركتين أساسيتين، هما حركة "النورسيين"، نسبة إلى سعيد النورسي، وحركة "حزمت/Hizmet– خدمة"، التي أسسها فتح الله كولن.

وقد أسس سعيد النورسي حركته في بدايات القرن الماضي، وهي حركة إسلامية وسطية تهدف إلى تعليم الإسلام بشكل حضاري علماني يتماشى مع العصر، وركزت في الأساس على عدم تعارض الإسلام مع العلم. وباستثناء أوزبكستان، فإن حركة النورسيين لها مكانة واضحة في كل دول "الترك" التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي.

لم يتبن فتح الله كولن منهجاً مغايراً، فقد تبنى النهج ذاته الذي يعتمد على العلمانية في تعليم الدين، وأسس حركة "خدمة" التي امتلكت فيما بعد نفوذاً اقتصادياً وثقافياً. وقد وضعت الحركة لنفسها هدفاً أساسياً هو نشر أفكار الإسلام المدني والسلم الاجتماعي على المستوى العالمي. واعتمدت الحركة على المدارس كأداة قوية وفعالة لتعميق التأثير الثقافي؛ فأسست الحركة مدارس على درجة عالية من الجودة والمستوى. ومعظم من تخرج من هذه المدارس التي أنشأتها الحركة في دول القوقاز ووسط آسيا تولى مناصب عليا في دولته، وتحلى بمكانة اجتماعية مرموقة؛ مما عضد من ثبات الحركة الاجتماعي داخل تلك البلاد.  كما تبنت الحركة سياسات اقتصادية أدت إلى تزايد نفوذها الاقتصادي وقوتها الاقتصادية في المنطقة.

واستخدمت حركة "خدمة" أدوات أخرى لكسب التأييد المجتمعي، فقد أنشأت صحيفة "The Daily Zaman" وقنوات تليفزيونية عدة لنشر أفكارها، كما اهتم كولن بالحوار بين المسلمين لتقليل المسافات الفكرية بينهم.

شكوك دول وسط آسيا والقوقاز في أجندة تركيا

وعلى الرغم من هذه الجهود، فقد تصاعدت حدة الرفض للجماعات ذات النفوذ الديني منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، فزادت مخاوف دول وسط آسيا والقوقاز من وجود أجندات سياسية خفية وراء أنشطة حركة "خدمة"، فاشتدت وتيرة الرفض لحركة كولن في باشكورتوستان وتتارستان، حيث أغلقت الحكومة الروسية كل المدارس التابعة لحركة كولن، معللةً ذلك بأنها تدعو إلى الأممية التركية Pan Turkism، وتعمل على نشر "الإسلاموية". على الجانب الآخر، فإن العديد من التفسيرات تؤول إلى أن هذه السياسات المناهضة للحركة هي في الأساس رد فعل على السياسات الرسمية للحكومة التركية، وليست رفضاً لفكر الحركة نفسه، خاصة بعد صعود الفكر الإسلامي لحزب العدالة والتنمية التركي، والذي اضطرت معه بعض دول القوقاز ووسط آسيا إلى انتهاج سياسات وقائية لحماية نفسها. ففي أوزبكستان، تم غلق مدارس حركة خدمة كافة، وقررت حكومة تركمانستان في عام 2011 إغلاق بعض مدارس الحركة، وفرضت الحكومة في أذربيجان المزيد من القيود على أنشطة الحركة.

وعلى الرغم من تزايد الشكوك حول النفوذ التركي، خاصة تجاه حركة خدمة، فإن الحركة استطاعت أن تستمر في تأثيرها في منطقة وسط آسيا والقوقاز. ويرجع ذلك لثلاثة أسباب رئيسية، حيث ساعدت مدارس فتح الله كولن على انتشار اللغة التركية في المنطقة بعد أن كانت تعاني الهجران، واستمر العامل الاقتصادي كالحلقة القوية التي تربط تركيا بدول وسط آسيا والقوقاز، وأخيراً فإن نجاح الحركة في كسب هوية "عابرة للوطنية transnational" أضاف بعداً إقليمياً قوياً للحركة ساعد في ترسيخها وتعميق جذورها.

رؤية مستقبلية

نظراً لما ينتاب السياسة التركية في الوقت الحالي من التشوش وعدم الوضوح، بالإضافة إلى ظهور الأيديولوجية الإسلامية بشكل واضح ومؤثر في سياسات حزب العدالة والتنمية، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان (أصبح رئيساً للجمهورية التركية بعد الانتخابات التي أجريت يوم 10 أغسطس الجاري)، من المتوقع أن يقل التأثير التركي الرسمي على دول وسط آسيا والقوقاز، ولكن في الوقت ذاته سيستمر تأثير المنظمات غير حكومية مثل حركة خدمة، وذلك لعدة أسباب أهمها: الثقل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي حققته هذه الحركة، ففي الوقت الذي لم تحقق فيه تركيا الرسمية نفوذاً وتأثيراً سياسياً داخل دول وسط آسيا والقوقاز، استطاعت أن توطد نفوذها الثقافي والاقتصادي، لكن عن طريق حركة فتح الله كولن.

ويرى "بايرام بالسي" في النهاية أن حركة "خدمة" استطاعت التسلل إلى الطبقة الوسطى في بلاد القوقاز ووسط آسيا عن طريق المدارس والخدمات التعليمية والثقافية والدينية. وقد حملت هذه بدورها مسؤولية التقارب الثقافي بين الشعب التركي وشعوب تلك الدول، وسوف يكون لهذا النوع من التقارب أثره الكبير في الاقتراب من فكرة "تركيا الكبرى" التي تبدو حلماً لايزال يداعب مخيلة الإسلاميين داخل تركيا.


** موجز لدراسة نشرت تحت عنوان: "النفوذ الديني التركي في آسيا الوسطى والقوقاز"، في دورية اتجاهات معاصرة في الأيديولوجيا الإسلامية Current Trends in Islamist Ideology الصادرة عن معهد هدسون، عدد 16، مارس 2014، ص 65 ـ 85.

المصدر:

Bayram Balci, Turkey’s Religious Outreach in Central Asia and the Caucasus, Current Trends in Islamist Ideology, Vol 16, March 2014. pp 65 -85.