"لا يمكن التنبؤ بما يُمكن أن تؤدي إليه احتجاجات إيران"، هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصلت إليه التحليلات المنشورة في المراكز البحثية الغربية؛ إذ إن استدعاء خبرة احتجاجات "الحركة الخضراء" التي شهدتها إيران في ديسمبر 2009، لم يساعد الخبراء والمحللين في توقع مسار وتطورات الاحتجاجات التي تفجرت في إيران في نهاية عام 2017، وهو ما يرجع إلى ارتباطها بدوافع اقتصادية واجتماعية، وافتقادها لقيادات سياسية واضحة، بالإضافة إلى التوسع التدريجي لنطاقها الجغرافي مع تزايد القطاعات الداعمة للاحتجاجات، والانتقال من التركيز على المطالب الاقتصادية لرفع شعارات سياسية تدعو لتغيير أسس ودعائم نظام الحكم.
دلالات احتجاجات إيران:
اتفقت غالبية التحليلات الغربية على أن احتجاجات إيران الحالية تُعد الحركة الاحتجاجية الأوسع التي تشهدها الدولة منذ قمع انتفاضة "الحركة الخضراء" في عام 2009، وذلك بسبب امتدادها الجغرافي من جهة أولى، والتطور السريع لمطالبها من جهة ثانية، وانضمام فئات وطوائف متعددة من المواطنين الإيرانيين إليها.
وفي هذا الصدد، ركزت "هاليه إسفندياري" (Haleh Esfandiari) على التطور الجغرافي والديمغرافي السريع للاحتجاجات، ففي تحليلها المنشورة على موقع "مركز ويلسون" (Wilson Center) في 3 يناير 2018 تحت عنوان: "القليل سيتغير في إيران رغم الاحتجاجات"؛ ذكرت أن المظاهرات بدأت من مدينة مشهد التي تعد ثاني أكبر المدن الإيرانية، وما لبثت أن امتدت إلى باقي المدن الإيرانية، وذلك على النقيض من تظاهرات 2009 التي تركزت في طهران وبعض المدن الحضرية الكبرى واشترك فيها أبناء الطبقة المتوسطة.
واتفق مع هذا الاستنتاج "جيسو نيا" (Gissou Nia) في مقال له منشور بموقع "بولتيكو" (Politico) في 2 يناير 2018 بعنوان: "لماذا اتجه البعض في إيران إلى الشارع؟"، إذ أشار إلى أن البعد الجديد للتظاهرات الأخيرة في إيران تَمثّل في أن المواطنين في المقاطعات الريفية النائية هم من بدءوا الاحتجاجات، وذلك على الرغم من تصنيفهم لفترات طويلة كمؤيدين للنظام.
وناقشت بعض التحليلات أسباب نشوب الاحتجاجات، مثل التحليل المعنون: "كشف أهمية احتجاجات إيران" والمنشور على موقع "ستراتفور" (Stratfor) في 28 ديسمبر 2017، حيث ذكر أنه على الرغم من أن طهران قد نجحت في تخفيف العقوبات على الصادرات الإيرانية، ورفعت الحواجز أمام الاستثمار الأجنبي بعد الاتفاق النووي مع الغرب في عام 2015، إلا أن الاقتصاد الإيراني لا يزال يعاني من ارتفاع معدلات البطالة، علاوة على أن الكثير من الوعود الاقتصادية التي تعهّد بها روحاني لناخبيه لم تتحقق بعد، ومن المتوقع أن يواجه النظام تعثّرًا اقتصاديًّا أكبر بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أكتوبر 2017 بعدم التصديق على الاتفاق النووي، وطرحه استراتيجية شاملة لمواجهة الطموحات التوسعية الإيرانية في الشرق الأوسط.
يُضاف إلى هذا ما ناقشه تحليل "القليل سيتغير في إيران رغم الاحتجاجات"، من رغبة المواطنين في الحد من الفساد المستشري في كافة قطاعات الدولة، لا سيما مع هيمنة نخبة ضيقة على مقاليد السلطة، فيما رأت "جينيف أبدو" (Geneive Abdo) في مقالها المنشور بمجلة "ناشيونال إنترست" (The National Interest) في 2 يناير 2018، بعنوان "هل ستصل الحركة الاحتجاجية الأخيرة في إيران لأهدافها؟"، أن المظاهرات بدأت بمطالب اقتصادية ثم تدرجت حتى وصلت إلى مطالب سياسية وصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام.
كما رفعت التظاهرات شعارات أخرى مثل: "ليس غزة ولا لبنان.. أعطي حياتي لإيران"، و"اخرجوا من سوريا"، خاصة مع حرص النظام الإيراني على دعم "حزب الله" اللبناني، وتعزيز دعمه لجماعة الحوثي باليمن بعد التحولات الأخيرة التي شهدتها الأزمة اليمنية عقب مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، ويترتب على هذا الدور الخارجي تكلفة اقتصادية ضخمة يتحمّلها المواطن الإيراني بتقليل نسبة الدعم المخصص له في موازنة الحكومة الأخيرة، وهو ما أكده "دينيس روس" (Dennis Ross) في مقاله في "فورين بوليسي" (Foreign Policy) في 2 يناير 2018، والذي جاء بعنوان: "الإيرانيون يتجهون للجنون بسبب سياستهم الخارجية".
وبصفة عامة، هناك صعوبة في نقل تغطية حقيقية لما يحدث في إيران، خاصة أن طهران تُضيّق على المراسلين الأجانب، ولا تسمح لهم بنقل صورة سيئة عن الأوضاع في الدولة، وهو ما أوضحه المقال المعنون: "لماذا لا يمكن للإعلام الأمريكي تغطية التظاهرات في إيران؟"، وقد قام بكتابة هذا المقال "لي سميث" (Lee Smith) في 30 ديسمبر 2017، وتم نشره بموقع "معهد هدسون" (Hudson Institute)، حيث أكد "سميث" أن طهران تقوم بملاحقة المراسلين الأجانب، وتتبع سياسة ممنهجة للتضييق على الإعلام. وأشار في هذا الصدد إلى قيام طهران باعتقال عدد من المراسلين الأجانب خلال الأعوام الماضية، منهم مراسل لصحيفة "واشنطن بوست".
تقييم الموقف الأمريكي:
ركزت مراكز الأبحاث الغربية على تقييم موقف الولايات المتحدة من الاحتجاجات، وقدمت مجموعة من التوصيات لكيفية تعامل الولايات المتحدة معها، وقد اتخذت الولايات المتحدة موقفًا مؤيدًا للتظاهرات منذ بدايتها، حيث صرح الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في 1 يناير 2018 "أن إيران تفشل على كل المستويات، على الرغم من الاتفاق المريع الذي أبرمته معها إدارة أوباما".
وفي هذا الإطار، رأت "سوزان مالوني" في مقالها المنشور في "فورين بوليسي" في 3 يناير 2018، والمعنون: "ترامب يستطيع مساعدة المتظاهرين عبر معارضة سياساته تجاه إيران"، أن الاحتجاجات الأخيرة ستجبر العديد من الناشطين على اللجوء إلى دول أخرى على رأسها الولايات المتحدة، ومن ثم يجب على ترامب إلغاء قرار حظر السفر للإيرانيين الذي سيمنع العديد من النشطاء الإيرانيين من اللجوء إليها، وإلا فسيكون متناقضًا مع ما يدعيه من تأييد تظاهرات إيران.
وأشار "فيليب جوردون" عضو مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ومنسق شئون الشرق الأوسط في إدارة أوباما، في مقاله: "كيف يُمكن لترامب مساعدة المحتجين الإيرانيين؟.. كن هادئًا"، والمنشور في "نيويورك تايمز" بتاريخ 3 ديسمبر 2017، إلى أنه يجب على الإدارة الأمريكية التزام الهدوء "علنًا" تجاه التطورات الجارية في إيران، حيث إن أي دعم أمريكي معلن للحركة الاحتجاجية في إيران، سيجعل النظام الإيراني يدعي أن المتظاهرين يخدمون أجندة غربية ليست في صالح الدولة، وهو الأمر الذي سيُفقد الاحتجاجات أي تأييد شعبي لها تدريجيًّا، بل وقد تستخدمها الأجهزة الأمنية كذريعة لاستخدام العنف ضد المتظاهرين، خاصة أن الشعب الإيراني يُحمِّل واشنطن -إلى حد كبير- المسئولية عن استمرار معاناته الاقتصادية في ظل السياسات التي تتبناها إزاء طهران بالرغم من التوقيع على الاتفاق النووي في عام 2015، وفرضها حظر السفر على الإيرانيين.
واتفقت "سوزان مالوني" في جزء من تحليلها مع هذا الرأي، وأكدت وجود تحفظ شعبي تجاه التدخل الصريح من واشنطن، وهو ما يعود إلى خمسينيات القرن الماضي عندما تمت الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني "محمد مصدق" بدعم من الولايات المتحدة.
وفي المقابل، رأى "مايكل سينج" في تحليله المعنون: "المتظاهرون في إيران بحاجة ماسة إلى مساعدة حقيقية من واشنطن" والمنشور على موقع "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" في 2 يناير 2018، ضرورة تقديم الدعم للمتظاهرين، وإصدار الولايات المتحدة وحلفائها باستمرار للبيانات العامة التي تؤكد دعمهم للمتظاهرين، واستصدار قرارات من الأمم المتحدة تهدف لحماية هؤلاء المتظاهرين، مع توجيه تحذيرات صريحة للنظام تحذره من مغبة استخدام العنف تجاههم، مع ضرورة فرض عزلة دبلوماسية على طهران، بخفض العلاقات الدبلوماسية معها ومنعها من المشاركة في المحافل الدولية، مع عدم إغفال أهمية فرض عقوبات دولية عليها على أن يكون توجيهها بالأساس تجاه مسئولين محددين في إيران حتى لا يتضرر المواطن الإيراني.
إيران "ما بعد الاحتجاجات":
على الرغم من اتفاق التحليلات الغربية في مجملها على اعتبار التظاهرات الأخيرة في إيران الحراك الأهم الذي تشهده الدولة منذ أحداث "الحركة الخضراء"؛ إلا أنهم اختلفوا حول السيناريوهات التي يمكن أن تقود إليها هذه الاحتجاجات، حيث ذهب البعض إلى أنها ستكون نقطة البداية لتقويض شرعية النظام، فيما رأى البعض أن النظام الإيراني لا يزال لديه قدر من المرونة ستمكّنه من إجراء مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي ستؤدي إلى هدوء الأوضاع بعض الشيء، واتجه فريق آخر إلى أن هذه الاحتجاجات ستؤدي لتصاعد دور المؤسسات الأمنية، وتتمثل أهم التأثيرات المتوقعة لاحتجاجات إيران فيما يلي:
1- تراجع شرعية النظام: أكد تحليل "رجا موهان" (Raja Mohan) المنشور على موقع مؤسسة "كارنيجي" (Carnegie Institute) في 31 ديسمبر 2017، تحت عنوان: "احتجاجات إيران: إنه عام 1979 مرة أخرى"، إلى أن هذه الاحتجاجات سيكون لها تأثير كبير على النظام الإيراني مقارنة باحتجاجات عام 2009، خاصة أن الاحتجاجات الأخيرة قد طالبت بشكل صريح بالإطاحة بالنظام، وهو الأمر الذي يُعد مستبعدًا، إلا أنها تؤكد أن شرعية النظام الإيراني تشهد تراجعًا ملحوظًا نتيجة للانتقادات الحادة لرموز النظام الإيراني الدينية والسياسية والعسكرية.
2- تبني إصلاحات اقتصادية: رأت بعض التحليلات الأخرى أن النظام الإيراني لا يزال يُسيطر على مقاليد الأمور، وهو ما أكده "أنتوني كوردسمان" (Anthony H. Cordesman)، في تحليله: "منظور أوسع للأزمة في إيران" والمنشور على موقع "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" (CSIS) في 2 يناير 2018، حيث شكك -في مقاله- في الخطورة الفعلية التي تُمثّلها الاحتجاجات الأخيرة في إيران، ومقدار الدعم الفعلي الذي تحظى به، وربما تعود المبالغة في تقدير تأثير التظاهرات إلى نمط "التفكير بالتمني"، حيث يقوم بعض المحللين بتقدير الأمور وفقًا لما يرغبون في أن يروه في الواقع، بيد أن النظام لا يزال يسيطر على المؤسسات الرئيسية في الدولة، كما أن هناك مبالغة في تقدير حجم الاحتجاجات الحالية، فعلى الرغم من انتشارها الجغرافي الواسع، إلا أنه لا يمكن مقارنتها بالاحتجاجات التي أطاحت بنظام الشاه وأجبرته على مغادرة البلاد في عام 1979، أو حتى مقارنتها باحتجاجات عام 2009.
وفي هذا الإطار، أكد صعوبة التنبؤ بتطورات الأوضاع في إيران بعد انتهاء هذه الاحتجاجات، فليست هناك استطلاعات رأي موثوق فيها يمكن الاعتماد عليها لمعرفة آراء المواطنين، كما أن تضييق إيران على وسائل التواصل الاجتماعي يمنع الباحثين من التعرف على هذه الآراء بوضوح، وربما يستطيع النظام الإيراني أن يسيطر على الأوضاع إذا قام بإصلاحات اقتصادية تلبي مطالب الشعب وتوصيات صندوق النقد والبنك الدولي، وقد يؤدي تصاعد الضغوط الأمريكية على إيران وفرض مزيد من العقوبات عليها إلى توحيد المواطنين ضد "القوة الخارجية المتدخلة".
3- توسيع الصلاحيات الأمنية: لا تبدي النخبة داخل المعسكر الإصلاحي ارتياحًا كبيرًا لدعوات تغيير النظام، وصحيح أن البعض قد اعتبر عدم وجود قائد بعينه لهذه التظاهرات ميزة إيجابية لصعوبة القبض على شخص بعينه ومن ثم إحباط التظاهرات، إلا أنه -في المقابل- يؤدي لعدم وجود استراتيجية محددة للتظاهرات، وهو ما ناقشه "كريم سادادبور" في مقاله على موقع "كارنيجي" في 31 ديسمبر 2017 تحت عنوان: "المعركة من أجل إيران"، حيث ركز على التحديات التي تواجهها الحركات الاحتجاجية في الشرق الأوسط، والتي نادرًا ما تحقق ما تطمح إليه، بل إنها غالبًا ما تنتهي بنتيجة عكسية، وهو السيناريو المُرجَّح لهذه الاحتجاجات، حيث من المتوقع أن تؤدي إلى تصاعد القمع الأمني، وقد يسمح الحرس الثوري الإيراني للمظاهرات بالتزايد والتمدد لكي يقوم بتوسيع صلاحياته تحت مبرر "الأمن القومي".
وفي المُجمل، تتفق التحليلات الغربية على أنه من المُبكر للغاية التنبؤ بمسار الحركة الاحتجاجية الأخيرة في إيران، وإلى أي مدى تُمثل تهديدًا حقيقيًّا للنظام الحاكم، فضلًا عن توقع التحولات التي يمكن أن تشهدها إيران إثر هذه الاحتجاجات، إلا أنها تُعد مؤشرًا واضحًا على تنامي حالة الغضب الشعبي بسبب سياسات النظام الداخلية وتوسعاته الخارجية غير المحسوبة التي تُسبب تكلفة ضخمة يتحملها الشعب الإيراني، ولا يعني ذلك قبول المحتجين بالدعم الأجنبي للحراك الشعبي لما يتسبب فيه من تأثيرات سلبية قد تُضعف مصداقية الاحتجاجات.