أجرى رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، زيارة رسمية إلى واشنطن، خلال الفترة من 21 وحتى 24 يونيو 2023، حيث أجرى محادثات مع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالبيت الأبيض، ناقشت سُبل تعزيز علاقات الشراكة بين البلدين في العديد من المجالات، وتعزيز الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والحرب الروسية الأوكرانية، فضلاً عن مواجهة التحدي الصيني.
الصين الهاجس المشترك:
جاءت زيارة مودي في ظل أجواء مثلت فيها بكين القاسم المشترك الأكبر بالنسبة لنيودلهي وواشنطن، وهو ما يمكن توضيحه في النقاط التالية:
1- صعود متنامٍ للهند: برزت في الفترة الماضية عدة مؤشرات على تنامي قوة ومكانة الهند الدولية، ومنها: احتلالها المرتبة الخامسة عالمياً من حيث حجم الاقتصاد، والذي يُقدر بنحو 3,202 تريليون دولار، طبقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، وهي أحد الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم، ومن المتوقع أن يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي اليابان وألمانيا بحلول عام 2028.
كما نجحت خلال العام الجاري في تجاوز الصين لتصبح أكبر دول العالم من حيث عدد السكان، علاوة على أهميتها المتزايدة بالنسبة للولايات المتحدة التي تصف علاقاتها مع الهند بأنها أهم علاقة ثنائية للولايات المتحدة على المسرح العالمي في القرن الحادي والعشرين.
2- تنامي النفوذ الصيني: جاءت الزيارة في ظل تنامٍ ملحوظ في دور ونفوذ الصين في آسيا والعديد من المناطق الجيوستراتيجية في العالم أخيراً، وهو ما تجلى في استضافتها قمة الصين – آسيا الوسطى للمرة الأولى. كذلك، سعت بكين إلى زيادة نفوذها في منطقة أمريكا الوسطى، التي تُعد الفناء الخلفي لواشنطن، وهو ما عكسته الزيارة الأخيرة لرئيسة هندوراس، زيومارا كاسترو، لبكين خلال الفترة من 9 وحتى 14 يونيو 2023. ومن هنا، فإن أحد أهداف زيارة مودي لواشنطن يتجلى في سعي البلدين لحشد إمكاناتهما معاً لمواجهة النفوذ المتزايد للصين.
3- هواجس مشتركة تجاه بكين: هناك العديد من الأسباب التي تدفع كلاً من الولايات المتحدة والهند إلى تعزيز علاقاتهما في الوقت الراهن. ولعل من أهمها القلق المشترك للبلدين بشأن تزايد نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والقلق من التوسع البحري للقوات الصينية في المحيط الهندي، فضلاً عن وجود مشاكل حدودية بين الصين والهند. أما الولايات المتحدة، فتتعاون مع حلفائها لإعادة توجيه سلاسل توريد التكنولوجيا العالمية بعيداً عن الصين لتقليل الاعتماد عليها، علاوة على تنامي تحركاتها الأمنية والعسكرية بالتعاون مع حلفائها الإقليميين في آسيا لتطويق واحتواء الصين.
مصالح مشتركة:
جاءت زيارة مودي لواشنطن في ظل وجود توافق واضح بين البلدين بشأن ضرورة تعزيز التعاون لتحقيق مصالحهما المشتركة، ويمكن رصد أبرز مجالات التعاون في النقاط التالية:
1- إمداد الهند بالتكنولوجيا الدفاعية الأمريكية: أبدت الهند اهتماماً ملحوظاً بإبرام صفقات عسكرية مع الولايات المتحدة، وذلك في محاولة من الهند لتنويع مصادر الحصول على السلاح وتقليل الاعتماد الزائد على روسيا بهذا الصدد. كذلك، تسعى نيودلهي لامتلاك تكنولوجيات عسكرية أمريكية متطورة لمساعدتها على ضبط حدودها البرية والبحرية مع الصين.
وفي ذات السياق، صرحت مصادر مطلعة بأن إدارة بايدن تُعول على الزيارة الرسمية لمودي إلى واشنطن لدفع نيودلهي إلى تقليص الإجراءات الروتينية بها والمساعدة في إتمام صفقة شراء عشرات المسيرات المسلحة الأمريكية الصنع.
2- التعاون في مجال التكنولوجيا المتقدمة: تسعى الولايات المتحدة إلى الاستفادة من اليد العاملة الهندية الماهرة، وخاصة في مجال التكنولوجيا، حيث وقعت وزيرة التجارة الأمريكية، جينا رايموندو، مع نظيرها الهندي، بيوش غويال، شراكة في مجال سلسلة توريد أشباه الموصلات.
كما عقدت الولايات المتحدة والهند الاجتماع الأول للحوار التجاري الاستراتيجي بين البلدين في واشنطن في أوائل يونيو 2023، قبيل زيارة مودي لواشنطن، حيث ركز الحوار على مناقشة تسهيل تطوير وتجارة التقنيات في مجالات مثل أشباه الموصلات والفضاء والاتصالات والذكاء الاصطناعي والدفاع والتكنولوجيا الحيوية وغيرها.
3- تطوير الهند كبديل صناعي للصين: يرغب رئيس الوزراء الهندي في تطوير اقتصاد بلاده بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة عن طريق جذب الاستثمارات الغربية ونقل التقنية، وجعل بلاده الوجهة الجديدة للشركات الأمريكية الراغبة في الخروج من السوق الصيني، وهو ما يعني أن مودي يطرح بلاده كبديل تجاري وصناعي للشركات الأمريكية الموجودة في الصين. كما تسعى الهند لجذب التقنية والاستثمارات الأمريكية لتقوية قطاع الصناعات التحويلية لديها.
وفي هذا السياق، أعلن إيلون ماسك، مالك "تويتر" والرئيس التنفيذي لشركة "تسلا" في 21 يونيو 2023، بعد لقائه مع مودي، اعتزام شركته ضخ استثمارات كبيرة محتملة في الهند.
4- الحد من العلاقات الهندية الروسية: اتجهت الهند أخيراً إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا، حتى بعد قيام الأخيرة بغزو جارتها أوكرانيا، حيث لم تقم نيودلهي بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وزادت من كميات النفط المستوردة من روسيا، بجانب تنامي اعتمادها على إمدادات الأسلحة الروسية.
ومن المعلوم أن الهند تعتمد بدرجة كبيرة على روسيا في الحصول على النفط والأسلحة، إذ تُعد الهند أكبر مشترٍ للأسلحة الروسية في العالم، حيث يتجه نحو 20% من الأسلحة الروسية المصدرة إلى بلدان آسيا للهند.
توافقات استراتيجية:
أعلن بايدن ومودي عن "حقبة جديدة" في العلاقات الأمريكية الهندية، حيث شهدت الزيارة التوقيع على اتفاقيات كبرى في العديد من المجالات، فيما تراهن واشنطن على نيودلهي كقوة موازية للصين، وهو ما يتضح في التالي:
1- نقل التكنولوجيا الأمريكية للهند: وافقت الولايات المتحدة على نقل تكنولوجيا إنتاج المحركات النفاثة للهند لاستخدامها في إنتاج الطائرات الهندية، حيث اتفقت شركة جنرال إلكتريك الأمريكية مع شركة هندوستان إيرونوتيكس للصناعات الجوية الهندية، على الإنتاج المشترك لمحرك الشركة الأمريكية من طراز "أف 414" في الهند. كما وقع الجانبان على صفقة لبيع 30 طائرة أمريكية من دون طيار من طراز "أم كيو – 9 بي سي غارديان" (MQ – 9B Sea Guardian) إلى الهند.
ومن شأن هاتين الخطوتين مساعدة واشنطن في تحقيق هدفها بالتخفيف من اعتماد الهند على روسيا كمصدر للأسلحة، فضلاً عن تعميق تعاونها مع الولايات المتحدة في مجال الصناعات العسكرية والدفاعية.
2- التعاون في أشباه الموصلات: تم الاتفاق بين الجانبين على قيام شركة تصنيع أشباه الموصلات الأمريكية العملاقة "ميكرون" باستثمار 800 مليون دولار في بناء مجمع لصناعة أشباه الموصلات والشرائح الإلكترونية في الهند، باستثمارات إجمالية تصل إلى 2.75 مليار دولار، وتقوم الهند بتمويل بقية المبلغ، وهو ما يشير إلى وجود رغبة لدى الولايات المتحدة إلى وقف تدفق الرقائق الحساسة إلى الصين، وتنويع سلاسل الإمداد لتقليل الاعتماد على بكين، وذلك على الرغم من إعلان "ميكرون" أخيراً عن استثمار 600 مليون دولار هناك.
3- تسوية النزاعات التجارية: اتفقت الولايات المتحدة والهند على إنهاء ستة نزاعات بينهما أمام منظمة التجارة العالمية، حيث ذكر مكتب التمثيل التجاري الأمريكي في بيان أن هذه النزاعات تشمل إجراءات بشأن خلايا الطاقة الشمسية ووحدات الطاقة الشمسية في قطاع الطاقة المتجددة، فضلاً عن إجراءات بشأن منتجات الصلب والألومنيوم.
4- جهود تسوية الأزمة الأوكرانية: أوضح بايدن خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع مودي يوم 22 يونيو 2023، أن النقاشات تطرقت إلى تنسيق الجهود لتقديم المساعدات الإنسانية لأوكرانيا بعد الخسائر التي نجمت عن الغزو الروسي. وفي المقابل، أكد مودي أن بلاده تبنت أسلوباً يدعو إلى الحل السلمي منذ اليوم الأول للغزو الروسي لأوكرانيا، وأنها دفعت لتحقيق حلول في إطار الدبلوماسية، مشدداً على استعداد بلاده للمشاركة في أي جهود لاستعادة السلام.
5- تعزيز الشراكة الأمنية: تم الاتفاق بين البلدين على العمل في إطار التحالف الرباعي "كواد"، والذي يضم أستراليا واليابان والولايات المتحدة والهند، لضمان أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ واستقرارها، حيث تسعى إدارة بايدن إلى تعميق الشراكة الأمنية مع الهند من خلال "كواد"، كجزء من جهودها لمواجهة النفوذ العالمي للصين.
6- تجاهل مسائل حقوق الإنسان: طالب 75 مشرعاً بالكونغرس الأمريكي الرئيس بايدن بأن يناقش مع مودي الموضوعات المثيرة للقلق، مثل تقليص المساحة السياسية في الهند، وملاحقة المعارضة، والقيود المتزايدة على حرية الصحافة، غير أن إدارة بايدن تجاهلت هذه الدعوات، وهو ما وضح من تصريح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، بأن بايدن لن يعطي دروساً لمودي في حقوق الإنسان.
دلالات متعددة:
عكست زيارة مودي إلى واشنطن، العديد من الدلالات السياسية، يمكن رصد أبرزها في النقاط التالية:
1- الحفاوة الكبيرة بمودي: يلاحظ أن مودي قوبل بحفاوة استثنائية خلال زيارته، وهو ما وضح في إقامة مراسم استقبال عسكرية، كما أقام الرئيس بايدن وزوجته جيل عشاءً رسمياً اقتصر على عدد قليل من الأشخاص في البيت الأبيض. وربط البعض الحفاوة الكبيرة بمودي في واشنطن بالموقع الجغرافي لبلاده، حيث لا توجد دولة أخرى لديها الحجم أو القدرة على العمل كقوة موازنة للصين سوى الهند.
2- تبني الهند سياسة مستقلة: يلاحظ أن الهند أحجمت عن تبني مواقف مؤيدة لتوجهات واشنطن بشكل يجعلها تنحاز للمعسكر الأمريكي ضد الصين أو روسيا، وهو ما يكشف عن حرص نيودلهي على تبني سياسة خارجية مفادها الحفاظ على استقلاليتها انطلاقاً من مصالحها الوطنية. وفي هذا الإطار، أحجمت الهند عن انتقاد التدخل الروسي في أوكرانيا مكتفية بتأكيد موقفها الداعم للتسوية السلمية.
3- استمرار التصعيد الأمريكي ضد الصين: جاءت الزيارة بعد زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، إلى الصين يومي 18 و19 يونيو 2023، وهي الزيارة التي لم تنجح بشكل كامل في ضبط التوتر بين بكين وواشنطن، وهو ما وضح في تصريحات بايدن في أعقاب الزيارة، والذي هاجم في 21 يونيو 2023، نظيره الصيني، شي جين بينغ، ووصفه بأنه "ديكتاتور"، وهو التصريح الذي أثار استياء وغضب بكين.
ويلاحظ أن هجوم بايدن على شي، جاء قبل ساعات من استقباله مودي في البيت الأبيض، وهو ما قد يشير إلى محاولة بايدن التقليل من شأن ومكانة الرئيس الصيني في الوقت الذي يحتفي فيه بشكل استثنائي برئيس الوزراء الهندي، وهو الأمر الذي ربما يجعل بكين أكثر حدة في التعامل مع بايدن مستقبلاً، ولاسيما أنها وصفت تصريحاته بأنها استفزاز سياسي وانتهاك للبروتوكول الدبلوماسي.
وفي التقدير، يمكن القول إن رهان الولايات المتحدة على استقطاب الهند إلى صفها في إطار محاولاتها المستمرة لتطويق واحتواء الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لن يكتب له النجاح على الأرجح، إذ إنه على الرغم من المصالح المشتركة العديدة بين الولايات المتحدة والهند، وما حققته زيارة مودي لواشنطن أخيراً من مكاسب مهمة للطرفين، فإن نيودلهي تحرص على تبني سياسة خارجية تتسم بالاستقلالية والموازنة في علاقاتها بين الولايات المتحدة والصين، مما يجعل من رهان واشنطن على استقطابها في المواجهة ضد الصين احتمالاً مستبعداً.