لم تأتِ نتائج الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية التي أُعلنت مساء الأحد (7 مايو 2017)، بأي مفاجأة لأي متابع لمجريات تلك الانتخابات، كما أنها لا تعني أن اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان قد خسر خسارة مطلقة، وكذلك لا تعني بداية مرحلة سلسة يواجه فيها الرئيس الجديد "إيمانويل ماكرون" اصطفافًا كبيرًا خلفه من الشارع الفرنسي. بل على العكس، يدرك ماكرون جيدًا أن نسبة كبيرة من المصوتين قد منحته صوتها لقطع الطريق على اليمين المتطرف، ومنعه من الوصول إلى قصر الإليزيه.
وفيما يلي عرض لأهم ملامح فوز ماكرون (رئيس حزب "إلى الأمام") بمقعد الرئاسة في فرنسا، وأهم السياسات المستقبلية المنتهجة حيال الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط خلال فترة حكمه.
دلالات النتائج
أعلنت النتائج النهائية فوز ماكرون بنسة كبيرة نسبيًّا تصل إلى 66,1%، مقابل حصول لوبان على 33,9% من إجمالي عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم. وتوصف تلك النسبة بالكبيرة نسبيًّا، لأن أنصار لوبان كانوا يعتقدون أن ماكرون إن فاز في الجولة الثانية فسيكون نصرًا صعبًا.
ولم تكن النسبة التي حصل عليها ماكرون في الجولة الثانية هي الأعلى على مستوى انتخابات الرئاسة الفرنسية؛ حيث فاز الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بنسبة 82,21% من إجمالي الأصوات في الجولة الثانية، بينما حصل غريمه جان ماري لوبان على نسبة 17,79% في انتخابات 2002.
لكن الرقم القياسي الأكيد الذي حققته الانتخابات الحالية هو أن نسبة المشاركة في الجولة الثانية تُعد الأضعف منذ انتخابات عام 1969، حيث صوت 74,56% من إجمالي المسجلين بالقوائم الانتخابية في الجولة الثانية، بينما بلغت تلك النسبة 80,35% في انتخابات 2012 و83,97% في انتخابات عام 2007 على سبيل المثال. هذا بخلاف المواطنين الذين أبطلوا أصواتهم في الانتخابات (2,98% من المصوتين)، والذين تركوا الاستمارة الانتخابية فارغة فيما يُعرف بـ"التصويت الأبيض" (8,49% من المصوتين).
في المقابل، ترى لوبان خسارتها الجولة الثانية من الانتخابات بأنها خسارة "مشرفة"؛ حيث حقق اليمين المتطرف أعلى نسبة له على الإطلاق في الانتخابات الرئاسية بنسبة تصل إلى 33,9% من إجمالي الأصوات، معبرين عن حوالي 10,5 ملايين مواطن فرنسي.
وكان من الممكن أن تكون هذه النسبة أعلى مما هي عليه لو كان أداء لوبان في المناظرة الرئاسية الأخيرة أفضل مما كان، فقد كان أداؤها في المناظرة غير مقنع لأنصارها.
وبعد خسارتها، أعلنت لوبان في خطابها أن تلك الانتخابات أظهرت الصراع الخفي بين الوطنيين "تقصد أنصار الدولة القومية" وأنصار العولمة، وأن تغييرات هيكلية في "حزب الجبهة الوطنية" من شأنها مساعدة مرشحي الحزب على الفوز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان.
ومن المرجح -كذلك- حصول حزبي الحكومة التقليديين "الحزب الاشتراكي، وحزب الجمهوريين" على نسبة هامة من مقاعد البرلمان نظرًا لحداثة عهد كوادر حزب "إلى الأمام"، وحصول مرشحيهما مجتمعين على نسبة تقارب 25% في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وفي حال دخول حزب الجبهة الوطنية في تحالفات مع الأحزاب اليمينية التقليدية فقد يخصم ذلك بلا شك من رصيد الجمهوريين، ويُعلي أسهم اليمين المتطرف.
إرث معقد وقوى متربصة
ركز البرنامج الانتخابي للرئيس الجديد على معالجة مشكلات متفاقمة عجز سلفه فرنسوا هولاند عن حلها بعد أن تطورت في عهده. ولذا، يُتوقع أن يركز الرئيس الجديد خلال أول عام له على الإصلاحات الاقتصادية العاجلة من قبيل: تخفيض الإنفاق الحكومي بإلغاء 120 ألف وظيفة حكومية، وضبط الإيرادات والنفقات العامة ليصل فائض الموازنة إلى 60 بليون يورو بحلول عام 2022، وتخفيض نسبة البطالة إلى أقل من 7%.
وتُعد هذه الإصلاحات ضرورية وعاجلة، وتصب في مصلحة كتلة تصويتية مهمة لماكرون تتمثل في الشباب؛ حيث إن صغر سنه (39 عامًا) قد يجعله مقبولا عند كثير من الحركات الطلابية والشبابية النشطة في فرنسا، مما يُنبئ باهتمام مستقبلي خاص بقضاياهم.
على مستوى التوافق الاجتماعي، يعلم ماكرون جيدًا أن نسبة لا بأس بها لم تصوت له عن اقتناع، بل صوتت له معارضة للوبان. وتقف تلك الفئة من الناخبين موقف المتربص إلى جانب أحزاب الحكومة التقليدية التي تنتظر خطأ ما من الرئيس الجديد يعيد لها قواعدها الشعبية المفقودة.
وقد عبّر ماكرون عن ذلك الانقسام المجتمعي بوضوح في الخطاب الذي ألقاه عقب فوزه مباشرة، مشيرًا إلى تقديره لمشاعر القلق والخوف التي دفعت مجموعة من الناخبين لتفضيل الاختيار المتطرف. لذا، يتوقع أن يحتل الحراك الثقافي والتعليمي مكانة حيوية في الأيام القادمة تحت شعار رفعه ماكرون بعنوان "تهذيب الحياة العامة"، حيث يكون كل من التعليم والثقافة عنصر حسم في مواجهة الإرهاب والتطرف.
ويُعد إعلان ماكرون عن نيته تقليص عدد الأشهر التي يمارس فيها مجلس النواب مهام التشريع وتعديل قانون المساءلة الرئاسية أمام البرلمان لتصبح مرة واحدة خلال السنة، دليلا على علمه بتربص الأحزاب به، والتي تحشد كافة الوسائل الممكنة ليكون لها صوت حاسم في البرلمان.
وغني عن الذكر أن الإصلاح الإداري الذي يُخطط له ماكرون من شـأنه توسيع دائرة المتربصين بعد إعلانه رغبته في إلغاء تراكم مدد الوظائف الحكومية، والجمع بين الوظيفة الاستشارية والوظيفة التشريعية لأعضاء البرلمان، وذلك من أجل خلق فرص عمل جديدة دون زيادة في مخصصات الرواتب.
السياسة الخارجية المتوقعة
يطمح ماكرون في طرح ما يُسمى "الاتفاقات الديمقراطية" على مستوى الاتحاد الأوروبي بداية من العام الحالي، رغبة منه في تشجيع دول الاتحاد على مزيد من الشفافية ودمقرطة العملية السياسية. إلا أن اهتمامه الأكبر ينصب على الجانب الاقتصادي ومعالجة مشاكله، والتي دفعت المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد.
ويرى ماكرون ضرورة وجود ميزانية موحدة لمنطقة اليورو، وخلق منصب وزير الاقتصاد والمالية الأوروبي الذي ينسق بين اقتصاديات الدول الأعضاء. ويمارس هذا الأخير عمله تحت رقابة البرلمان الأوروبي الذي يضم ممثلين من كل الدول الأعضاء للحفاظ على الطابع الديمقراطي والتشاركي لصنع القرار على المستوى القاري.
وفيما يتعلق بمستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة، فإنها ستقوى خلال حكم ماكرون بسبب تقارب رؤيته تجاه قضايا السياسة الخارجية مع تلك التي تتبناها الإدارة الأمريكية الحالية، لا سيما تجاه الأزمة السورية والحرب على الإرهاب. ومن المتوقع ألا تبتعد رؤيته لقضايا الشرق الأوسط كثيرًا عن الرؤية الأمريكية التي تضع ملف الإرهاب على رأس أولوياتها.
فقد وعد ماكرون باتخاذ إجراءات استثنائية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن طريق إنشاء خلية استخباراتية دائمة تختص بأمور التنظيم والتحري عن كوادره وتتبع مباشرة رئيس الجمهورية.
أما فيما يتعلق بالقضايا الخلافية المتوقعة مع الدول النامية أو الصاعدة فنذكر منها: معارضة ماكرون الاقتراحات المنادية بتوسيع عضوية مجلس الأمن ومنح حق النقض (الفيتو) لدول صاعدة "كالهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا"، وكذلك تأييد حل الدولتين الذي تعارضه حتى الآن السلطات الإسرائيلية.
لكن يستبعد أن تصطدم فرنسا بإسرائيل، حيث أكد ماكرون أن سيادة "الدولة الإسرائيلية" أمر لا يمكن المساس به، وهو ما يرجح ميله للسياسة الأمريكية، في الوقت الذي لم يجد ماكرون فيه صعوبة أو غضاضة في تحذير روسيا تحذيرًا مباشرًا من مواصلة سياستها في المنطقة، منوهًا باستمرار تطبيق العقوبات الاقتصادية طالما ظلت اتفاقيات "مينسك" غير محترمة وطالما ظل الوضع متأزمًا في أوكرانيا.
الخلاصة، من المتوقع أن يوجه ماكرون الاهتمام الرئيسي للقضايا الداخلية وحل المشكلات الاقتصادية في المقام الأول، إلا أن هذا الطموح تواجهه بعض القيود الحزبية والشعبية الداخلية المتمثلة في تربص أحزاب الحكومة التقليدية، وعدم حصول ماكرون على نسبة مقنعة من المؤيدين المقتنعين بمشروعه.
وقد لا تصدق تلك الفرضية في الانتخابات البرلمانية التي ستقام في شهر يونيو القادم بفوز حزب "إلى الأمام" (تم تغيير اسمه إلى "الجمهورية إلى الأمام") بأغلبية مريحة في البرلمان مع استبعاد أن تكون مطلقة.
على النقيض من ذلك، إذا نجحت لوبان في الحفاظ على الكتلة التي صوتت لها ونجحت في تكوين تحالفات مهمة، فإن السلطة التشريعية ذات الميول اليمينية المتطرفة -وهو ما لم يحدث مطلقًا- سيكون لها تأثير مهم في تعطيل قضايا حيوية، يأتي على رأسها الاتحاد الأوروبي والموقف الفرنسي تجاه روسيا.