أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

سردية مغايرة:

تحولات هوليوود في قضايا الكوارث.. من المنقذ إلى الشريك

26 يناير، 2022


كثيراً ما يُضرب بالولايات المتحدة الأمريكية المثل في كيفية استخدامها للسينما كإحدى أهم أدوات القوة الناعمة في إطار تحقيقها أهدافها السياسية، وفي القلب من تلك الأهداف ما يتعلق بملفات وقضايا الأمن. وقد يبدو من الوهلة الأولى أن المؤسسات الأمريكية هي فقط من يجيد استخدام السينما، لكن في جوهر الأمر، "علاقة التأثير والتأثر" متبادلة بين تناول هوليوود لقضايا الأمن من الزوايا التي تتفق مع الأجندة الأمريكية، وبين تأثيرها في صناعة القرار فيما يتعلق بتلك القضايا.

وقد أعاد فيلم "لا تنظر لأعلى" Don’t look up  تلك الجدلية إلى الأذهان، فقد حققت نتفلكس Netflix من خلاله معدلات مشاهدة غير مسبوقة تقدر ب152 مليون ساعة مشاهدة خلال الأسبوع الأول لعرضه على المنصة.  وتبع ذلك حالة نقاش عالمية حول ما يطرحه الفيلم.

في هذا الإطار، يركز المقال على تناول هولييود قضايا الأمن غير التقليدية من خلال القراءة في فيلم "لا تنظر لأعلى"  Don’t look up ، مع التركيز على الربط بين قضية المناخ كإحدى أهم قضايا الأمن غير التقليدي، كما يطرحها الفيلم وعلاقتها بالواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي في اللحظة الراهنة. 

"أفلام الكوارث": الأمان والمنقذ

تفوقت هوليوود بفارق كبير فيما يسمى بـ "أفلام الكوارث" Disaster movie وهو نوع الأفلام الذي يتناول حدوث كارثة قد تكون طبيعية، مثل فيلم "المستحيل" The impossible إنتاج 2012 أو انتشار وباء مثل فيلم "عدوى" Contagion إنتاج 2011، أو هجوم من كائنات خرافية، مثل فيلم "حرب العوالم" War of the worlds  إنتاج عام 2005 أو هجوم إرهابي أو أي شيء من شأنه إحداث تهديد على السلم والأمن العام. 

ولاقت هذه الأفلام نجاحاً جماهيرياً واسعاً، لاسيما في عصرها الذهبي في السبعينيات، فعلى سبيل المثال، حقق فيلم Airport "مطار" إنتاج 1970 إيرادات تجاوزت المئة مليون دولار في السبعينيات، ويتناول الفيلم وجود شخص يحمل قنبلة على متن طائرة ومطار مغلق بسبب عاصفة ثلجية. وفي التسعينيات تمت إعادة إحياء مجد تلك النوعية من الأفلام مع فيلم Independence day "يوم الاستقلال" إنتاج عام 1996 والذي تجاوزت إيراداته الـ 800 مليون دولار أمريكي، وتدور أحداثه حول التصدي لكائنات فضائية تحاول غزو الأرض . ثم في الألفينيات ظهر فيلم "اليوم بعد الغد" The day after tomorrow إنتاج عام 2004 عن خبير في مجال المناخ يحاول معرفة وسيلة لإنقاذ العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري ويعجز عن الوصول لابنه في مدينة نيويورك التي أصبح يكسوها الثلج، وحقق الفيلم إيرادات تجاوزت الـ 550 مليون دولار. وصولاً للعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين مثال فيلم Interstellar إنتاج عام 2014 حول انتشار التلوث في الأرض بطريقة استنفدت كل موارد الكوكب وأصبح من اللازم البحث عن حل في كواكب أخرى. والذي بلغت إيراداته الـ 700 مليون دولار. 

ولعل من أهم أسباب الإقبال الجماهيري على تلك الأفلام داخل وخارج الولايات المتحدة، أن تلك الأفلام تلبي حاجة الجماهير للشعور بأنهم في أمان مهما كان الخطر كبيراً، وهو ما عبر عنه رولاند إيميرش  Roland Emmerich  مخرج فيلم "يوم الاستقلال" Independence day  قائلاً: "إنك تشاهد كل هذا الدمار ولكن في النهاية يأتي الأشخاص المناسبون ويتم إنقاذ الموقف". 

وقد ارتكزت تلك الأفلام في معظمها على سمات مشتركة عن الصورة التي قدمتها عن الذات الأمريكية والآخر. فقد أظهرت تلك الأفلام - في معظمها - المؤسسات والأبطال الأمريكيين على أنهم قادرون على القضاء على قوى الشر، وإعادة الأمن ليس فقط للولايات المتحدة وحسب وإنما للعالم أجمع في كثير من الأحيان.  

فرسخت بذلك شعوراً عاماً بالأمان نابعاً من حتمية وجود شخص أو جهة –غالبا أمريكية- قادرة على القضاء على الخطر وإنقاذ الجميع، من دون الحاجة للقيام بأي شيء من قبل الجماهير، أي من دون تحمل أي مسؤولية. وهو بالطبع شعور مريح للمتفرج الذي يتماهى بشكل غير واع مع أحداث الفيلم ويشعر بالراحة، ويستقر هذا الشعور وهذه الفكرة في وجدانه، وتصبح مكوناً من معتقداته كأنه استنتاج قائم على تجربة عاشها بالفعل، وبالتالي في الواقع إذا حدث هذا النوع من التهديدات سيكون هناك يقين بأن جهة ما، لاسيما الولايات المتحدة، تمتلك الحل وأن الجميع سيكون بأمان حتماً. 

وقد تناولت هوليوود قضايا البيئة والمناخ في معظم الأحيان وفقاً لهذا السياق الذي يجعل من الطبيعة العاصية على السيطرة عدواً سيتم الانتصار عليه من دون الحاجة لإلقاء أي مسؤولية أو لوم على الجموع ومع تكريس لحتمية امتلاك الحل والقدرة على الانتصار. وظل هذا هو السائد لمدة طويلة، لأن تغير تلك المعادلة له ثمن باهظ، فالمخاطرة بوضع المسؤولية على كاهل المتفرج وأنه شريك في الكارثة البيئية وعليه تعديل سلوكياته أو التضحية من أجل إنقاذ الكوكب قد يجعله ينصرف عن الذهاب لمشاهدة تلك الأفلام التي يلجأ إليها ليشعر بالراحة، وحلحلة ذلك الشعور له ثمن اقتصادي على صناعة تلك الأفلام. 

في المقابل، جاء فيلم "لا تنظر لأعلى" بطرح مغاير يدحض الأفكار التي استقرت لسنوات، فالظرف العام تغير والوعي بقضايا البيئة جعل استقبال طرح واقعي أكثر قبولاً، بل وجعله حتمياً. وقد تجسد ذلك في النجاح الجماهيري الكبير للفيلم.

الواقعية الهزلية: الصورة الأمريكية الأخرى

في فيلم "لا تنظر لأعلى"، كانت كيت Kate طالبة دكتوراه تكتشف مذنباً فضائياً وبمساعدة أستاذها الدكتور ميندي Mindy يتوصلان إلى أن المذنب سيرتطم بالأرض في غضون ستة أشهر و14 يوماً وسيدمر كوكب الأرض بمن عليه. ويذهبان إلى الرئاسة الأمريكية ويصطدمان برد فعل رئيسة الولايات المتحدة، وإدارتها غير المبالية. فيلجآن للإعلام حتى يصل صوتهما للناس ليفاجأ الاثنان بأن لا أحد يولي الأمر الاهتمام الكافي، وأن الجميع غارقون في شؤون فرعية ولا أحد يتحرك لإنقاذ الحياة المهددة برمتها على الكوكب. وحين يتم التحرك أخيراً تتم عرقلته بسبب أطماع ونفوذ رجل الأعمال مؤسس شركة الاتصالات بيتر إيشرويل Peter Isherwell. 

ويصنف الفيلم على أنه "كوميديا هزلية" تلجأ للمبالغة في التهكم حتى تجذب الانتباه للمشكلة، والتي هي في هذا الفيلم، التغير المناخي والكوارث الطبيعية. غير أن الفيلم في حقيقة الأمر شديد الواقعية بشكل يكسر الصورة النمطية لتلك النوعية من أفلام الكوارث، ويربط القضية بالسياق الاجتماعي والسياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية. فلم نر الطبيعة ممثلة كقوى الشر لعدم انصياعها لسيطرة الإنسان بل على العكس. كما لم يعف الفيلم المتفرج من المسؤولية، بل جعله شريكاً أساسياً في الحالة المذرية التي وصل لها الكوكب. ولم يقدم له بطلاً خارقاً ولا مؤسسات قادرة على إنقاذه، بل أن تلك المؤسسات هي المسؤولة بشكل مباشر عن دمار العالم والأفراد. 

على الجانب الآخر، تضمن الفيلم عدة دلالات مباشرة وضمنية عن الواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي، ومن أهمها ما يلي: 

1- المبالغة في إدارة الدولة بمنطق الشركات: من الواضح أن رئيسة الولايات المتحدة في الفيلم بإدارتها مثلت ترامب وإدارته من حيث تجاهلها للكارثة وإنكارها لها ونشر الأكاذيب حولها. فكان أول سؤال سألته الرئيسة للعلماء "كم سيكلفني التعامل مع الأمر"، ولم تتعامل مع الأمر إلا عندما واجهت فضيحة أخرى هددت موقعها وأصبح الاهتمام بالمذنب يصب في مصلحتها السياسية. وهو منطق رجال الأعمال نفسه – ومنطق ترامب أيضاً -  الذي ظهر في العديد من قضايا الأمن غير التقليدية والتي كان آخرها ملف جائحة كورونا. فقد قلل من شأن الجائحة في البداية، وتعامل معها من منطلق حسابات المكسب والخسارة، ولم تكن الأولوية تتجه نحو تقليل الخسائر البشرية بقدر ما ركزت على الخسائر المادية. فإدارة الدول بمنطق الشركات، حتى وإن كانت له فوائد، فعدم التراجع عنه في أوقات الكوارث والأزمات الكبرى، يبدو أن تكلفته على المجتمعات أكثر خطورة. 

2- نفوذ ممولي الحملات الانتخابية على السياسية الأمريكية:  ربط الفيلم بين دائرة صنع القرار وبين تحكم رأس المال السياسي في قضايا البيئة والمناخ، وهو أمر نرى تبعاته على مسار السياسة الأمريكية يومياً. فبعد أن اهتمت الرئيسة بالأمر وأثناء تنفيذ عملية إنقاذ الأرض، نرى رجل الأعمال يدخل إلى غرفة العمليات من دون أن يمنعه أحد، وذلك لما يتمتع به من نفوذ لأنه متبرع رئيسي في حملة الرئاسة الخاصة بالرئيسة. بل ونراه وهو يوبخها حينما تتأخر عليه فتترك غرفة العمليات وتذهب له وحين تعود تصدر قراراً بإيقاف العملية ونفهم أن السبب هو رغبة رجل الأعمال في الاستفادة بالمعادن التي توجد على المذنب الفضائي مما سيحقق أرباحاً تقدر بتريليونات الدولارات، وحينما يسأله الدكتور ميندى السؤال المنطقي عن مدى أهمية هذه التريليونات في حال انتهاء الحياة ذاتها، يجيبه بأنه لديه خطة ستمكنهم من تحقيق المكسب المادي مع إنقاذ الأرض، وهو ما يفشل بالطبع في النهاية. يبدو الأمر به مبالغه اقتضتها الكوميديا والمنطق الفيلمي، إلا أنه لا يبتعد عن الواقع كثيراً فأصبح من الملحوظ تحكم أصحاب المصالح ورجال الأعمال في بعض القرارات المصيرية باعتبارهم المتبرعين الرئيسيين في كثير من حملات السياسيين. ويتجلى تأثير هذا الدور في إحباط التشريعات الخاصة بالبيئة لأنها تضر بمصالح بعض رجال الأعمال.

3- القطبية الشديدة تعوق التحرك الجماعي نحو القضايا المصيرية: يعيش المجتمع الأمريكي حالياً فترة تتسم بحدة الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين تمتد آثارها إلى الملفات التي تمس الحياة اليومية ولا يستثنى من ذلك ملف قضايا المناخ التي يفترض أن يلتف حولها الجميع باعتبارها تمس حالة البقاء ذاتها، وهو ما لا يحدث في الواقع بالطبع. ويسخر الفيلم من هذه الحالة عن طريق إبراز دور خوارزميات وسائل التواصل في التعبئة وتكريس الانقسام حتى حينما تعلق الأمر بمسألة علمية غير قابلة للتشكيك وهي ارتطام المذنب بالأرض مما ستترتب عليه نهاية العالم. رأينا كيف قامت مجموعات على وسائل التواصل بنشر أخبار وفيديوهات تنكر هذه الحقيقة وتدعي أنها مؤامرة وينقلب الرأي العام على العلماء أنفسهم، وهو ما حدث مثيله حينما انتشرت الجائحة وحينما بدأت حملات التطعيم.

في الختام، لا يمكن النظر لقضايا المناخ وغيرها من التهديدات غير التقليدية بمعزل عن الواقع السياسي والاجتماعي، إذ إنه لا يمكن إحراز أي تقدم في هذا الملف من دون إرادة سياسية ورأي عام قادرين على اتخاذ خطوات جادة في هذا الصدد. فأهم ما قدمه هذا الفيلم أنه وضع الجميع أمام مسؤولياتهم؛ أصحاب السلطة المتأرجحون، والإعلام الذي يشتت الانتباه عن القضايا المهمة، وتطرف رجال الأعمال الذين تتعدى أهدافهم المكاسب البشرية إلى العبث بطرق الحياة ورغبتهم في إحدث طفرات في الحياة البشرية بغض النظر عن نتائجها على حياة البشر. كما لم يستثن الفيلم جموع المواطنين من مسؤولياتهم المباشرة تجاه ما يحدث لهم.

ولا يمكن بالطبع الجزم حالياً بأن  فيلم "لا تنظر لأعلى" ستكون له نتائج مباشرة على تقدم ملف التغير المناخي على مستوى صانع القرار، ولكن نجاح الفيلم في الاستحواذ على اهتمام المشاهدين حول العالم وخلق رأي عام وجذب الانتباه عالمياً للقضية هي خطوة لا يُستهان بها في هذ الصدد.