أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

سيناريوان:

حسابات التصعيد في الأزمة التركية الكردية

06 مايو، 2016


دخلت القضية الكردية في تركيا مرحلة جديدة، فبعد نحو سنتين من عملية السلام التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، عاد العنف ليكون سيد الموقف، فالحكومة التركية تصر على عدم التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، ويؤكد الرئيس رجب طيب أردوغان أنه سيواصل الحرب ضد الحزب حتى النهاية وتسليم أخر قطعة سلاح لديه. ومن جهته، لا يجد الحزب الكردستاني، الذي اختبر السلاح والحروب جيداً، ما يجبره على ترك السلاح إلا الاعتراف به مُمثلاً للكرد، والتفاوض معه على الحقوق القومية الكردية، وصولاً إلى مشاركته في الحياة العامة التركية في إطار اتفاق سلام يُجسد في دستور جيد، يحقق الاستقرار لتركيا والهوية القومية للكرد.

وعليه، في ظل تباعد مواقف الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وتمسك كل طرف بمواقفه، تبدو المرحلة المقبلة أمام سيناريوين؛ إما الذهاب إلى حرب دموية مُدمرة للجانبين حتى النهاية، وإما العودة إلى التفاوض بصيغة جديدة. فأي من السيناريوين سيتقدم في المرحلة المقبلة؟ 

حسابات التصعيد التركي

يمكن القول إن إصرار أردوغان على مواصلة الحرب ضد الحزب الكردستاني حتى النهاية، يبدو خارج حقيقة التجربة التاريخية للصراع الكردي – التركي، إذ إن الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو استحالة حل هذه القضية عسكرياً، وهنا ينبغي التذكير بأن العديد من الحكومات التركية في السابق تعهدت بالقضاء على الحزب الكردستاني والبعض حدد مهل زمنية لذلك، ولكن جميع هذه التعهدات فشلت، بل أن أردوغان نفسه وجد، قبل سنوات قليلة، أنه لا مناص من التفاوض مع زعيم الحزب عبدالله أوجلان المعتقل في سجن ايمرالي منذ عام 1999، أملاً في حل يخدم رؤيته السياسية لتركيا في المرحلة المقبلة، قبل أن ينقلب على عملية السلام ويتجه بعد الانتخابات البرلمانية، التي جرت في يونيو الماضي، إلى خيار التصعيد.

ولعل هذا التصعيد يعود إلى عدة أسباب، ومن أهمها ما يلي:

1- فوز حزب الشعوب الديمقراطية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو 2015، وتجاوزه العتبة الانتخابية وحصوله على 80 مقعداً نيابياً، قبل أن يتراجع إلى 59 مقعداً في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت في أغسطس الماضي. وقد وجد أردوغان في هذا الفوز متغيراً داخلياً خطيراً على أجندته المتمثلة في الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، خاصةً وأن حزب الشعوب الديمقراطية جاهر علناً برفضه للنظام الرئاسي.

وعليه، ثمة من يرى أن أردوغان قرر التصعيد لا لإجهاض الصعود الكردي فحسب، بل للإبقاء على أجندته من خلال الرهان على الحرب، سواء في دفع الأحزاب التركية الأخرى إلى التجاوب مع أجندته أو حتى الاستعداد للذهاب إلى انتخابات مبكرة مرة ثانية، للحصول على الأصوات اللازمة لتمرير مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي من داخل البرلمان ، وذلك من خلال الاستفادة من أصوات القوميين الرافضين لأي اعتراف بالحقوق القومية الكردية والمؤيدين للحرب ضد الكردستاني.

2- وجد أردوغان في حرب التحالف الدولي ضد "داعش" أفضل فرصة لضرب حزب العمال الكردستاني في العمق، وإجبار الكرد على القبول بأجندته ورؤيته، ومن هنا جاءت فكرة وضع "داعش" والحزب الكردستاني في خانة واحدة، هي الإرهاب، وكان الجسر لذلك، الانخراط في حرب التحالف الدولي، من خلال فتح قاعدة انجرليك التركية أمام طائرات التحالف، لتنطلق بعدها حملة عسكرية تركية هي الأضخم ضد مواقع الحزب الكردستاني في داخل تركيا وخارجها. وتشير الإحصائيات الرسمية التركية إلى أن عدد قتلى حزب العمال خلال الحملة الأخيرة قاربت 6 آلاف قتيل، فضلاً عن قصف مُركز للمدن التي تشكل معقلاً للحزب مثل ديار بكر ونصيبين وجزرة وشرناخ، وهو ما أدى إلى تهجير مئات آلاف السكان.

ويبدو أن ثمة قناعة لدى أردوغان بأنه إذا لم تؤد هذه الحرب إلى القضاء على البنية العسكرية والتنظيمية والحاضنة الشعبية لحزب العمال الكردستاني، فإنها على الأقل ستضعفه وستجبره على الاستجابة لأجندته وشروطه.

3- التطورات الحاصلة في سوريا والعراق، والتي أدت إلى حالة من الصعود الكردي، بعد أن أصبح إقليم كردستان العراق شبه دولة، وإعلان كُرد سوريا الفيدرالية، وهذه التطورات ولَّدت قناعة لدى الرئيس التركي بأن هذا الصعود سينعكس على القضية الكردية في الداخل التركي، على شكل رفع مطالب مماثلة إن لم تكن أكثر، حيث يقارب عدد كرد تركيا نحو عشرين مليون نسمة، ومساحة جغرافية تُقدر بأكثر من مائتي ألف كيلو متراً، وحركة سياسية وعسكرية باتت تفرض نفسها بقوة في المشهد التركي الداخلي.

وكل ذلك بات يشكل قلقاً حقيقياً لصانع السياسة التركي، وبالتالي ثمة من يرى أن التصعيد التركي الأخير يأتي لإجهاض أي إمكانية لإقامة كُرد تركيا حكماً ذاتياً، خاصةً بعد أن أعلنوا عن رغبتهم بمثل هذا الحكم خلال مؤتمر المجتمع الديمقراطي الذي عُقد في ديار بكر قبل أشهر قليلة.

حسابات الطرف الكردي

مقابل الحسابات التركية، ثمة حسابات كردية مختلفة، وهي حسابات تقوم على أن جملة الظروف والتطورات الجارية في تركيا والمنطقة تسير لصالح الأكراد، وليست في صالح حكومة حزب العدالة والتنمية. ولعل من أهم هذه الحسابات ما يلي:

1- يعتقد حزب العمال الكردستاني أن صعود نجم حزب الشعوب الديمقراطية، وتحوله إلى ظاهرة سياسية في الحياة العامة التركية، جاء بفضل نهجه المتمسك بالحقوق القومية الكردية، وقدرته على بلورة هذه الحقوق على المستويات السياسية والاجتماعية، بعد أن فشلت سياسة الإقصاء والإنكار التركية للقضية الكردية.

2- نجح حزب العمال الكردستاني، خلال سنوات التهدئة السابقة، في بناء قاعدة شعبية وتنظيمية وعسكرية كبيرة داخل المدن الكردية والعديد من المدن التركية بعد أن كان نشاطه يقتصر خلال العقود الماضية على الريف والجبال. وعليه اتجه خلال الفترة الماضية إلى بناء إدارات ذاتية في معظم المناطق الكردية، وهو يعتقد أن هذا السلوك مكَّنه من نقل الصراع مع الجيش التركي من الجبال إلى داخل المدن، حيث لا يجيد الجيش التركي الحرب داخل المدن، ويتعرض لخسائر كبيرة.

كما أدى ذلك إلى وقوع خسائر في صفوف المدنيين، وهو ما يؤثر في النهاية على صورة الحكومة التركية ومصداقيتها وشعبيتها في الشارع التركي.

3- خلقت التطورات في سوريا والعراق ما يشبه جبهة خلفية لنشاط حزب العمال الكردستاني وتحركاته، خاصةً وأن حليفه حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا بات يسيطر على المناطق الكردية المجاورة لحدود تركيا الجنوبية، كما أن أحداث الموصل وسنجار في شمال العراق وفَّرت أرضية لتواجد الحزب هناك. وفي ظل التنافس الأميركي – الروسي على التحالف مع الكُرد من زاوية محاربة "داعش"، يرى حزب العمال الكردستاني أنه بات يمتلك العديد من الأوراق لمواجهة السياسية التركية تجاه القضية الكردية، والرهان على التصعيد لإجبارها على التفاوض معه.

4- يعتقد حزب العمال الكردستاني أن توزعه الجغرافي بين عدة دول مجاورة لتركيا، وفي الداخل، يجعل من المستحيل على الجيش التركي القضاء عليه، وأن استطالة الحرب لن تكون لصالح حكومة حزب العدالة والتنمية التي تُستنزف من الناحية الاقتصادية والأمنية والسياسية، وهي لن تتحمل إلى ما لا نهاية هذه الخسائر.

5- يرى الحزب الكردي أن هذه الحرب ستجلب المزيد من الضغوط على الحكومة التركية، خاصةً في ظل علاقاتها المتوترة مع روسيا والعراق وسوريا وإيران ومصر وحتى الولايات المتحدة، وأن هذه الضغوط والتداعيات ستجبرها في النهاية على العودة إلى طاولة الحوار، وهذه المرة بشروط أفضل، وبما يشكل انتصاراً له، فيما تضع تركيا ما سبق في خانة المؤامرة الإقليمية والدولية ضدها.

سيناريوان

في ظل تباعد مواقف الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وإصرار كل طرف على مواقفه وتمسكه برهاناته، من الواضح أن المرحلة المقبلة ستمثل منعطفاً كبيراً في علاقة تركيا بالقضية الكردية، فسيناريو التصعيد الذي يتمسك به أردوغان ربما يوحي بإمكانية تكرار تجربة سريكلانا مع حركة نمور التاميل التي تم القضاء عليها في عام 2009 بعد حرب برية وجوية وبحرية شكلت ضربة قاضية للحركة بعد أن كانت أعلنت في وقت سابق استقلال التاميل وتوصلت إلى اتفاق سلام مع حكومة كولومبو.

لكن ما ينبغي قوله في هذا الصدد هو أن الظروف مختلفة في الحالة التركية – الكردية، فعلى على الأقل في هذه الحالة بات للحزب الكردستاني ساحات جغرافية ينطلق منها خارج الحدود التركية، وتحديداً المناطق الكردية في العراق وسوريا، وهو ما لم يكن متوفراً في الحالة التاميلية التي كانت محاصرة بالبحر شمالاً وشرقاً أمام هجوم القوات السريكلانية الزاحفة جنوباً وغرباً.

الأمر الثاني، أن تعقيدات القضية الكردية مختلفة، في ظل تداخل المصالح الإقليمية والدولية، حيث النفط والغاز والمياه، وصراعات العديد من الدول مع تركيا، وذلك يجعل من اختلاف الظروف عقبة حقيقية بوجه ذهاب تركيا إلى النهاية في خيارها العسكري.

كما أنه في تركيا نفسها بل وحتى في فريق أردوغان نفسه، ثمة من يرفض الذهاب إلى ما لا نهاية عسكرياً، إذ أن رئيس الوزراء التركي أحمد داود  أوغلو، قبل استقالته، كان قد طرح مجموعة من الشروط ليست بينها التخلي عن السلاح مُسبقاً لعودة المفاوضات مع الحزب الكردستاني، وهذا كان تطور مختلف عما يطرحه أردوغان، حيث تشكل العودة إلى مفاوضات السلام بين الجانبين مطلباً أمريكياً وأوروبياً دائماً.

في جميع الأحوال، ثمة قناعة لدى أنقرة بأنها لن تنجح عسكرياً في التخلص من هذه القضية. وفي المقابل، هناك قناعة لدى الحزب الكردستاني بأنه لن ينتصر عسكرياً على الجيش التركي، وهذه قناعة ربما تنتظر  فهم الرهانات الخاطئة ونضج الظروف أكثر والابتعاد عن الحسابات والأجندة السياسية السلطوية والضيقة، كمقدمات لا بد منها لعودة الحوار.

وهذا الحوار ربما ينتظر هذه المرة رعاة دوليين من أمثال الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، وهو حوار إن عاد ربما سيكون أقرب إلى تكرار تجربة أيرلندا الشمالية مع التاج البريطاني. وبغير ذلك، فإن مسيرة الدم والتدمير ستتواصل كما تقول وقائع التجربة المريرة لهذا الصراع الممتد في التاريخ.