أخبار المركز
  • مركز المستقبل يصدر دراسة جديدة بعنوان: (كل شيء صنع في الصين: كيف تستطيع الدول النامية توظيف طاقاتها الإنتاجية المعطلة؟)
  • رانيا مكرم تكتب: (تحالفات مناوئة: رسائل توقيت الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران إلى ترامب)
  • صفاء مطعيش تكتب: (آلات وراثية: كيف يمكن للبيولوجيا التركيبية أن تغير عالمنا؟)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (الدور الإنساني للإمارات.. قوة ناعمة عالمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (فرصة ترامب لتحديد مستقبل الشرق الأوسط)

تشرذم تجاري:

كيف ستؤثر سياسة ترامب الجمركية في الاقتصاد العالمي؟

18 يناير، 2025


مع اقتراب تولي الرئيس دونالد ترامب سُدة الرئاسة الأمريكية في 20 يناير 2025، بدأت تتضح ملامح سياسته التجارية، التي تعتمد على فرض تعريفات جمركية واسعة على الواردات القادمة من دول مثل الصين والمكسيك وكندا. ورغم دور الحمائية التجارية في تعزيز الاقتصاد الأمريكي من خلال معالجة العجز التجاري، وتقليل الاعتماد على الواردات، وتحفيز الإنتاج المحلي؛ فإنها ستسفر عن تأثيرات محتملة تتجاوز حدود الداخل الأمريكي لتصل إلى الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد الدولية. ومن المحتمل أن يؤدي تصاعد الحمائية التجارية في عهد ترامب ليس فقط إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وإنما زيادة حدة التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والقوى الاقتصادية الكبرى.

وقد تضمنت سياسة ترامب التجارية فرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة القادمة من دول الجوار بالإضافة إلى الصين، حيث أعلن عن نيته فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع المنتجات التي تدخل الولايات المتحدة من المكسيك وكندا. وهذه الخطوة كانت جزءاً من استراتيجية ترامب لتعزيز الاقتصاد الأمريكي وحماية الصناعات المحلية. كما أعلن أيضاً تعريفات إضافية بنسبة 10% على السلع المستوردة من الصين، وتُعد هذه الرسوم جزءاً من الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث تهدف إلى تقليل العجز التجاري مع الصين وتشجيع الشركات الأمريكية على التوسع في الإنتاج المحلي بدلاً من الاعتماد على الاستيراد.

أهداف متعددة:

يعكس قرار الرئيس الأمريكي المنتخب بفرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من الصين وكندا والمكسيك، جملة من الدوافع الاقتصادية والأمنية والسياسية، يتمثل أبرزها في مواجهة العجز التجاري، حيث يشكل الخلل التجاري الكبير مع دول مثل الصين والمكسيك إحدى أكبر القضايا التي يسعى ترامب لمعالجتها. ويرى ترامب أن تقليص العجز التجاري سيعزز استقرار ومكانة الاقتصاد الأمريكي، فمع فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات القادمة من هذه الدول، يمكن تحفيز الشركات الأمريكية لتصنيع منتجاتها داخل الولايات المتحدة؛ ومن ثم تحقيق مكاسب اقتصادية لا تقتصر فقط على خفض الواردات وإنما تنشيط القطاعات الصناعية وتوفير مزيد من فرص العمل.

وتشكل هذه السياسات جزءاً من الوفاء بوعود ترامب الانتخابية لإنعاش الصناعات التقليدية المتضررة من سياسة الانفتاح التجاري مثل التعدين والصلب. ويعتبر ترامب أن تعزيز الإنتاج المحلي قضية مركزية تُسهم في زيادة الدعم الشعبي له بالولايات المعتمدة على الصناعات التحويلية مثل بنسلفانيا وأوهايو، والتي شهدت زيادة طفيفة في الوظائف خلال فترة رئاسته السابقة. 

ومع ذلك، لا يزال العجز التجاري السلعي الأمريكي مع الصين كبيراً، رغم انخفاضه في السنوات الخمس الأخيرة، بالغاً قرابة 270 مليار دولار في عام 2024، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، ويعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية المرتفعة يمكن أن تقلل هذا العجز لحد كبير، لكنه يواجه تحدياً في تحقيق ذلك دون الإضرار بالمستهلكين والشركات التي تعتمد على الواردات.


ولا تهدف سياسة الحمائية التجارية فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، بل تُستخدم كأداة ضغط سياسي من قبل ترامب. فمع الصين، يسعى الأول لمعاقبة بكين على ما يعتبره ممارسات تجارية غير عادلة مثل سرقة الملكية الفكرية والتلاعب بالعملة المحلية (اليوان الصيني). أما مع المكسيك، فإنه يربط العجز التجاري بتفاقم تيارات الهجرة غير الشرعية القادمة من الأولى؛ ومن ثم يستخدم التعريفات كوسيلة ضغط من أجل إجبار الدولتين للتعاون مع الإدارة الأمريكية الجديدة في هذه القضايا. 

ويُخطط ترامب لاستغلال التعريفات الجمركية أيضاً كورقة ضغط لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية- الثنائية أو متعددة الأطراف- لصالح الولايات المتحدة. فمن خلال فرض تعريفات مرتفعة، يمكنه دفع الدول الشريكة لتقديم تنازلات وضمان شروط تجارية أكثر ملاءمة للاقتصاد الأمريكي. مثل هذه الاستراتيجية تم اختبارها خلال مفاوضات تعديل اتفاقية "نافتا"، حيث استطاع ترامب فرض شروط جديدة على المكسيك وكندا؛ مما أدى إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة الجديدة "USMCA" في عام 2020، ويُظهر ذلك كيف يمكن للسياسات الجمركية أن تكون وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وتجارية أوسع.

ارتدادات محلية:

أثارت سياسات ترامب التجارية خلال فترة رئاسته السابقة الكثير من الجدل؛ حيث نجح في تعديل بعض الاتفاقيات التجارية مع بعض الشركاء؛ ومع ذلك، واجه انتقادات شديدة بسبب التوترات التجارية مع الصين، والتي أسفرت عن تباطؤ التجارة العالمية وزيادة التكاليف على المستهلكين الأمريكيين؛ وهو ما يثير التساؤلات حول تأثير هذه السياسات في الاقتصاد الأمريكي والعالمي في المرحلة المقبلة.

تحمل التعريفات الجمركية التي يقترحها ترامب ضد الصين وكندا والمكسيك العديد من التداعيات الداخلية المحتملة. ومن الراجح أن تؤدي التعريفات الجمركية المقترحة من قبل إدارة ترامب إلى زيادة تكلفة استيراد المواد الخام والسلع الوسيطة؛ مما يرفع تكاليف الإنتاج بالنسبة للشركات الأمريكية. وعلى سبيل المثال، ستواجه الشركات التي تعتمد على الصلب المستورد زيادات في التكاليف، استناداً إلى تجارب مشابهة في عام 2019.

وقد وجدت دراسة أجراها معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم تُكبد الاقتصاد الأمريكي 900 ألف دولار إضافية لكل وظيفة يتم توفيرها، وهذه التكاليف تمثل تحدياً للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تفتقر إلى الموارد المالية لتحمل هذه الأعباء الإضافية؛ مما قد يدفعها إلى تقليص أنشطتها أو رفع أسعار منتجاتها؛ ومن ثم الإضرار بالقدرة التنافسية للصناعات المحلية.

من ناحية أخرى، سينجم عن فرض رسوم جمركية إضافية على السلع المستوردة من الصين والمكسيك وكندا زيادة تكلفة هذه السلع. فالشركات التي تستورد هذه المنتجات ستكون مضطرة إلى تمرير تلك الزيادات في التكاليف إلى المستهلكين. وقدَّر معهد "بيترسون" أن التعريفات الجمركية المقترحة من قبل ترامب قد تكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو 2600 دولار سنوياً؛ مما يُثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود بشكل خاص، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لإدارة السياسة النقدية، في ظل الدورة الجديدة المحتملة للتضخم.

وقد تؤدي السياسات الجمركية إلى ردود فعل سلبية من قبل الشركاء التجاريين، تشمل فرض تعريفات انتقامية على المنتجات الأمريكية. مثل هذه الإجراءات ستؤدي إلى تقليل مبيعات المصدرين الأمريكيين؛ مما يُفاقم الأثر السلبي على الاقتصاد، كما حدث في 2018 عندما تصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. فبعد فرض تعريفات جمركية على الواردات الصينية، ردت الصين بشكل فوري على هذه السياسات بفرض تعريفات انتقامية على مجموعة من المنتجات الأمريكية تصل إلى 25%.

وتضررت مبيعات المنتجات الأمريكية إلى السوق الصينية بسبب الحمائية التجارية المتبادلة بين البلدين، حيث شهدت الصادرات الأمريكية من فول الصويا للسوق الصينية انخفاضاً ملحوظاً، والتي تُعد من أكبر أسواقها؛ مما أضر بالمزارعين الأمريكيين بشكل خاص. كما تعرضت شركات أمريكية أخرى للخسائر نتيجة انخفاض مبيعات منتجاتها في السوق الصينية؛ بسبب الزيادة في الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية.

رغم الآثار السلبية المذكورة آنفاً، يمكن أن تشجع التعريفات بعض القطاعات الاقتصادية على استعادة نشاطها، كما حدث في قطاع الصلب الذي أضاف بضعة آلاف من الوظائف الجديدة بعد تعريفات 2018. ومع ذلك، فإن التأثير الإجمالي قد يكون سلبياً بسبب فقدان وظائف في قطاعات أخرى تعتمد على التجارة؛ وذلك وفقاً لدراسة أجريت في يناير2021 بتكليف من مجلس الأعمال الأمريكي الصيني (USCBC).

 أظهرت الدراسة السابقة أن السياسة التجارية لترامب أسفرت عن خسارة 245 ألف وظيفة في الولايات المتحدة خلال السنوات الأولى من تطبيق السياسات الجمركية السابقة، كما أظهر تحليل الفدرالي الأمريكي أن التعريفات الجمركية تؤدي إلى انخفاض التوظيف الصناعي بنسبة 1.4% بسبب تأثيرات سلبية من زيادة تكاليف المدخلات والتعريفات الانتقامية.

تداعيات دولية:

تحمل التعريفات الجمركية التي يقترحها ترامب على الصين وكندا والمكسيك العديد من التداعيات الدولية المحتملة، ومنها اضطراب سلاسل توريد العالمية وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وغيرهما. وفي خضم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، قد تضطر الشركات الأمريكية لإعادة النظر في سلاسل التوريد الخاصة بها. فخلال الحرب التجارية السابقة على سبيل المثال، اضطرت الشركات الأمريكية إلى البحث عن مواقع جديدة للإنتاج خارج السوق الأمريكي.

وقد نقلت العديد من الشركات الأمريكية عملياتها الإنتاجية من الصين إلى دول أخرى مثل فيتنام والهند في السنوات الأخيرة. وأظهرت دراسة من "مجموعة بوسطن للاستشارات" في سبتمبر 2023 أن نحو 30% من الشركات الأمريكية التي اعتمدت سابقاً على الصين قامت بنقل جزء من عملياتها إلى دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية؛ مما أدى إلى ارتفاع التكاليف اللوجستية بنسبة تصل إلى 25% خلال السنوات الخمس الماضية؛ هذه التغييرات قد تؤدي إلى تقليل الكفاءة وزيادة تكاليف الإنتاج عالمياً.

بالمثل، قد يدفع عدم الاستقرار الناتج عن التعريفات الجمركية الشركات إلى تقليل الجاذبية الاستثمارية للسوق الأمريكية بالنسبة للشركات الصينية. إجمالاً، تلك التغيرات تشير إلى إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة والاستثمار على المستوى العالمي، حيث تصبح الشركات أكثر حذراً تجاه الاستثمار في بيئات تجارية غير مستقرة.

وبينما من المحتمل أن تتحول الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى صراع جيوسياسي أوسع نطاقاً، سيؤدي ذلك إلى انقسام النظام التجاري والاقتصادي العالمي وتشرذمه إلى تكتلات متنافسة. هذا التقسيم قد ينتج عنه إضعاف التعاون الاقتصادي الدولي وزيادة التوترات الجيوسياسية. في هذه الأثناء، ستؤدي القيود التجارية الجديدة إلى تقليص حركة التجارة الدولية وارتفاع التضخم العالمي وتقويض نمو الاقتصاد العالمي بمعدل 0.4 نقطة مئوية- إن لم يزد عن هذا الحد- في عام 2025، وفق تقديرات "سيتي غروب".

ختاماً، يمكن القول إنه رغم دور سياسات ترامب الجمركية في تعزيز الاقتصاد المحلي ومعالجة العجز التجاري؛ فإنها تحمل مخاطر أخرى منها زيادة الضغوط التضخمية واضطراب النظام التجاري العالمي، وكذلك تصاعد التوترات بين القوى الاقتصادية العظمى؛ وبهذا يصبح التحدي الرئيسي أمام إدارة ترامب هو كيفية تحقيق التوازن بين حماية المصالح الوطنية وضمان استقرار الاقتصاد العالمي.