أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

تجربة "سيول":

دروس التجربة الكورية في مواجهة الموجة الجديدة لكورونا

01 سبتمبر، 2020


مع تصاعد الإصابات مجدداً بفيروس كورونا في العديد من دول العالم بشكل عام، يظل من المهم مراجعة الخبرات الناجحة السابقة لتسطيح المنحنى ومنها كوريا الجنوبية، ففي يوم الاثنين الموافق 20 يناير 2020، أكدت كوريا الجنوبية أول حالة إصابة بفيروس (كوفيد-19) على أراضيها، وذلك قبل يوم واحد فقط من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن الإصابة الأولى لديها، لكن يبدو أن طبيعة وفعالية الاستجابة الوبائية للدولتين الآن في نطاقين مختلفين تمامًا. فبحسب بيانات جامعة "جونز هوبكنز"، في 21 أغسطس 2020، بلغ إجمالي عدد حالات الإصابة المؤكدة في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من خمسة ملايين وخمسمائة وخمسة وأربعين ألفًا، أي ما يقرب من ثلاثمائة وستة وأربعين ضعف تلك المسجلة في الدولة الآسيوية. 

وتشير البيانات المجمعة نفسها أيضًا إلى أن عدد حالات الوفاة بمضاعفات فيروس كورونا المستجد في الولايات المتحدة الأمريكية قد وصل إلى مائة وثلاثة وسبعين ألفًا وتسعمائة حالة، بنسبة مرتفعة جدًّا اقتربت من 53.2% في كل مائة ألف نسمة، وذلك مقارنة بعدد حالات الوفاة الإجمالي في كوريا الجنوبية الذي بلغ ثلاثمائة وتسع حالات، بنسبة لم تتجاوز 0.6% فقط.

ومن الجدير بالذكر أن حكومة كوريا الجنوبية كانت قد وصلت في نهاية فبراير الماضي، إلى ما بدا أنه أشبه بنقطة فقدان السيطرة على الوباء العالمي، حين زادت معدلات الإصابة اليومية المسجلة في البلاد عن عتبة التسعمائة حالة يوميًّا، وذلك في أول تفشٍّ كبير للفيروس خارج نطاق الصين. وقد ارتبطت أغلب تلك الحالات آنذاك بكنيسة "شينتشيونجي" التابعة لطائفة مسيحية صغيرة والواقعة في منطقة دايغو بجنوب شرق البلاد.

 وفي سياق الاستجابة السريعة لهذه الأزمة التي شكلت "البؤرة الأكبر" لانتشار الفيروس في البلاد، طالبت حكومة مدينة سول من النيابة العامة توجيه اتهامات صريحة إلى "لي مان-هي" رئيس تلك الكنيسة وأحد عشر آخرين من طائفته، بالقتل العمد وإخفاء أسماء بعض المواطنين أثناء محاولة المسؤولين تعقب المصابين قبل أن ينتشر الفيروس. كما حثّ عمدة سول سكان مدينته البالغ تعدادهم نحو عشرة ملايين نسمة على التزام منازلهم. وعلى الرغم من ذلك، بدأ عدد حالات الإصابة اليومية ينخفض تدريجيًّا بعد أسابيع قليلة من تلك الأزمة، حتى أعلنت كوريا الجنوبية عدم تسجيل أي إصابات محلية جديدة بفيروس كورونا المستجد مع عشية يوم الخميس الموافق 30 أبريل 2020.

وقد أشاد الدكتور "تيدروس أدهانوم غبريسيوس"، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، أكثر من مرة بتجربة حكومة كوريا الجنوبية في تسطيح المنحنى الوبائي لفيروس (كوفيد-19)، مؤكدًا أنها تجربة فريدة "أثبتت أن الدول ومن خلال استخدام المتاح، وحتى دون وجود أية علاجات مؤكدة أو لقاحات، وعبر اتّباع الإجراءات غير الصيدلانية التي حددتها المنظمة فقط، ممثلة في الاختبار والعزل وغيرها"؛ يمكنها أن تنجح في وقف معدلات انتشار العدوى. وبصورة مشابهة، يكاد يتفق أغلب خبراء الصحة العامة على أن مفاتيح النجاح الأساسية في استراتيجية الاستجابة الوبائية التي اعتمدتها هذه الدولة الآسيوية، انطلقت من القدرة السياسية على الاستفادة والتعلم من تجاربها السابقة في مواجهة بعض الفيروسات التاجية الأخرى من جانب، والعمل بقوة على توظيف كل ما تملكه الدولة من تكنولوجيات مبتكرة لتحسين مستوى التصدى لـ(كوفيد-19) وتسطيح منحناه الوبائي من جانب آخر.

التعلم من الخبرات السابقة:

يَعزو عددٌ من المراقبين والباحثين جزءًا كبيرًا من النجاح الذي حققته استراتيجية الاستجابة الوبائية للكوريين الجنوبيين في مواجهة فيروس كورونا المستجد، إلى التعلم الجاد من الخبرات السابقة التي اكتسبوها أثناء تعاملهم مع المتلازمة التنفسية الوخيمة "SARS" التي ظهرت لأول مرة في قارة آسيا في فبراير من عام 2003، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية "MERS"، التي عُرفت أيضًا باسم "إنفلونزا الإبل"، وتم اكتشافها في السعودية عام 2012، وانتشرت على نطاق واسع في كوريا الجنوبية اعتبارًا من مايو 2015.

ورغم أنه لا يمكن تجاهل تجربة الاستجابة لفيروس "سارس" واعتبارها من الخبرات التي ساعدت كوريا الجنوبية في مواجهة فيروس كورونا المستجد؛ إلا أنه يمكن القول إن حالة الرعب التي سببها وباء "ميرس" تحديدًا في البلاد كانت الأبرز والأكثر تأثيرًا في هذا الإطار. تلك الحقيقة، يؤكدها الدكتور "لي هيوك مين"، مدير شؤون مكافحة العدوى في الجمعية الكورية للطب المخبري، من خلال قوله إن "ندوب معركة كوريا الجنوبية مع فيروس ميرس لا تزال ماثلة اليوم كمسمار حاد. وربما بسبب هذه الندوب، عرفنا بالضبط ما يجب القيام به هذه المرة". فقد استمرت حالة الهلع من فيروس "ميرس" الذي تزايدت قدراته على الفتك، مقارنة بفيروس "سارس"، بين الكوريين الجنوبيين لمدة شهرين تقريبًا، تمكن فيهما هذا الفيروس الفتاك من إصابة حوالي 186 وقتل 38 شخصًا، بشكل جعل كوريا الجنوبية تحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد السعودية التي كانت مركز انطلاقه.

ويُجادل الباحث "هنري كيم"، طالب الدكتوراه بجامعة جورج ميسون في تخصص الدفاع البيولوجي، بأن أهم الدروس المستفادة من تجربة الاستجابة الوبائية لعام 2015، ارتبط بضرورة اتّباع الحكومة نهجَ الشفافية الكامل في توفير البيانات اللازمة حول الأعداد الحقيقية للمصابين بفيروس كورونا المستجد، وأماكن عزلهم الصحي في منازلهم أو علاجهم في المستشفيات العامة والخاصة على حد سواء، وهو أمر كان له دور هام بالنسبة للمواطنين من أصحاب الأمراض المزمنة، مثل القلب والسكر والضغط ونقص المناعة، وغيرهم من القطاعات السكانية الأكثر ضعفًا في مقاومة هذا الفيروس مثل كبار السن والحوامل، الذين تمكن أغلبهم -بشكل أو بآخر- من تقليل فرص التقاطهم للفيروس استنادًا للبيانات والمعلومات الاسترشادية المتوفرة. هذا الأمر لم تفعله حكومة كوريا الجنوبية أثناء تعاملها مع أزمة فيروس "ميرس" السابقة، ليس فقط لأن الكشف عن بيانات المرضى آنذاك كان يعد انتهاكًا لأخلاقيات وقوانين ممارسة مهنة الطب في البلاد، لكن أيضًا لأن كبار المسؤولين الحكوميين في سول كانوا يعتقدون بشدة أن أغلب المنشآت الطبية سترفض تشخيص حالات الإصابة المشتبه بها خوفًا من إجبارها من قبل الحكومة على تنفيذ الإغلاق، بالإضافة إلى أنهم كانوا يخشون أيضًا من تفاقم حجم التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة. 

تطور الأعداد اليومية للأشخاص الذين تم اختبارهم والحالات الإيجابية المؤكدة 



المصدر: المركز الكوري الجنوبي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (KCDC)، أغسطس 2020.

والدرس الثاني الذي تعلّمه الكوريون الجنوبيون، وفقًا لهنري كيم، تمثّل في تأكيد أهمية نظم الإنذار المبكر والفحص الدقيق. فأثناء مواجهة متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، عانت البلاد بشدة من النقص الحاد في معدات الاختبار التي يمكن الوثوق فيها والاعتماد عليها في التشخيص، وكان على الأطباء الانتظار عدة أيام لتأكيد حالة إصابة واحدة من خلال التشخيص المخبري، حيث لم تكن أغلب أدوات الفحص والتشخيص المطورة حديثًا في المختبرات العلمية قد اجتازت مرحلة التجارب السريرية بعد، وعليه كان لا يمكن استخدامها. لكن بعد انتهاء تفشي "ميرس"، وبالتحديد في عام 2016، أصدرت كوريا الجنوبية قانونًا جديدًا يسمح للمنشآت الطبية باستخدام أدوات التشخيص المخبرية غير المعتمدة في حالة الطوارئ الصحية العامة.

يُشار أيضًا إلى أن هذا القانون نفسه كان قد وضع أساس إمكانية الوصول إلى جميع البيانات والمعلومات الشخصية للمرضى المصابين بالأمراض المعدية في حالات الطوارئ الصحية العامة، حيث أدركت حكومة كوريا الجنوبية أن تتبع الأفراد الحاملين للفيروس وباقي الأشخاص الذين تواصلوا معهم، سيكون له دور هام في السيطرة على أي وباء مستقبلي قادم.

زيادة الطاقة الاستيعابية للمستشفيات:

أكدت أغلب دراسات الصحة العامة الحديثة أن القدرات الاستيعابية للمستشفيات الموجودة في الدولة قد تلعب دورًا كبيرًا في الحد من تفشي فيروس كورونا المستجد، جنبًا إلى جنب مع العمل على تفعيل نظم الوقاية والإنذار المبكر للأمراض المعدية والأوبئة. ففي مقالته المنشورة في "الجارديان" البريطانية، يصف الكاتب "تاي هون كيم" السياسات العامة لحكومات كوريا الجنوبية منذ التسعينيات وحتى الآن بأنها فترة زادت فيها جرأة الشعب الذي أجبرها على أخذ رفاهيته بعين الاعتبار في مجالات عدة، كان من أبرزها قطاعات النقل العام والرعاية الصحية. لذا، يرى "كيم" أن أحد الأسلحة الهامة لنجاح الكوريين الجنوبيين في مواجهة فيروس كورونا المستجد، يكمن في امتلاك البلاد بنيةً تحتيةً أساسيةً قويةً ونظامَ خدمة صحية عامة فعالًا وممولًا تمويلًا جيدًا، تم توظيفهما بكل احترافية من قبل القيادة السياسية والحكومة لتوسيع عملية تتبع وعلاج المصابين. 

عدد أسرّة وحدات الرعاية المكثفة لكل مائة ألف نسمة في بعض الدول المختارة (2010-2017) 


المصدر: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2017.

وعلى الرغم من أن أغلب المستشفيات في كوريا الجنوبية مملوكة للقطاع الخاص؛ إلا أنه يمكن القول إن قرابة 97% من الشعب مشمولون بمنظومة التأمين الصحي الوطني الإلزامية. والحقيقة أن هذا التوازن بين المستشفيات الخاصة ونظام التأمين الصحي العام، ضَمِنَ حصول جميع المواطنين على رعاية صحية جيدة، وساهم في تميّز كوريا الجنوبية بالموارد الصحية الوفيرة والقدرة الاستيعابية الكبيرة للمستشفيات، مقارنة بغيرها من الدول الأخرى. فبحسب إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2017، احتلت كوريا الجنوبية المرتبة الثانية على العالم بعد اليابان مباشرة في عدد أسرّة وحدات الرعاية المكثفة لكل مائة ألف نسمة، بعددٍ بلغ 714 سرير رعاية مكثفة. وربما يُفسّر هذا -ولو جزئيًّا- نسب الوفيات المنخفضة جدًّا من جراء مضاعفات الإصابة بفيروس كورونا في تجربة كوريا الجنوبية، مقارنة مع تجارب غيرها من الدول مثل إيطاليا وإسبانيا اللتين تؤكد البيانات أن عدد أسرّة وحدات الرعاية المكثفة بهما لم تتجاوز 262 و243 سريرًا على الترتيب.

نظم الإنذار المبكر:

أحد العوامل الهامة الأخرى لنجاح تجربة كوريا الجنوبية في مواجهة (كوفيد-19)، يكمن في استثمارها السابق والقوي في نُظم الإنذار المبكر للأمراض والأوبئة. وفي هذا السياق، يشير "مايكل آهن" الأستاذ المشارك ومدير برنامج الدراسات العليا في جامعة ماساتشوستس، إلى الدور المحوري الذي يلعبه المركز الكوري الجنوبي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (KCDC) في تزويد مسؤولي الصحة العامة بالبلاد والمواطنين عامة بعدد كبير من الإشعارات المسبقة حول احتمالية تفشي المرض، من خلال التوسع في استخدام ما عُرف باسم نموذج الإدارة الذكية لـ(كوفيد-19) (COVID-19 SMS).

 وهو النموذج الذي تُستخدم فيه بيانات مجمعة من جانب 27 مؤسسة مختلفة في البلاد، هي: وكالة الشرطة الوطنية، وجمعية تمويل الائتمان، وثلاث شركات للهواتف الذكية، و22 شركة لبطاقات الائتمان، إلى جانب لقطات لبعض كاميرات المراقبة وأجهزة الاستشعار عن بعد المختلفة، لتتبع خريطة تنقل الأشخاص المشتبه في إصابتهم بالفيروس.

 ويضيف "آهن" أن هذا النظام الذكي للإنذار المبكر يستغرق عشر دقائق فقط لتحليل جميع البيانات المتاحة حول المواطن المشتبه في إصابته، بعدها يتم تبليغ مركز الصحة العامة المحلي القريب من مكان إقامته، فيرسل هذا المركز إليه إخطارًا صحيًّا. وإذا كانت نتائج اختباره إيجابية يتم تنفيذ إجراءات دخوله إلى أقرب مستشفى مجهز للتعامل مع حالته. في الوقت ذاته، يُطلب من الأشخاص الذين تعاملوا معه في فترة سابقة، ولم تظهر عليهم أعراض الإصابة، البقاء في الحجر الصحي المنزلي لمدة 14 يومًا مع استمرار المتابعة. 

توظيف آليات الذكاء الاصطناعي:

تعددت آليات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي تم توظيفها من قبل حكومة كوريا الجنوبية في معركتها الشرسة مع فيروس (كوفيد-19)، وهي الآليات التي يُمكن رصد أبرزها على النحو التالي:

1- التوسع في إجراء الاختبارات: أحد المفاتيح الهامة في نجاح استراتيجية الاستجابة الوبائية لـ(كوفيد-19) من قبل حكومة كوريا الجنوبية، يرجع إلى تمكن شركة علوم الحياة (Seegene) من صنع أداة اختبار في أقل من ثلاثة أسابيع فقط، بفضل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي تم الاعتماد عليها بشكل أساسي في هذا الاختراع المذهل، الذي كان من المفترض أن يستغرق تطويره في الظروف العادية ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر. وفي غضون أقل من أسبوع من التطبيق، حظيت أداة الاختبار على موافقة السلطات المحلية، وتم اعتمادها من جانب الاتحاد الأوروبي أيضًا. وأكد المسؤولون في الحكومة امتلاكهم حوالي 118 محطة اختبار لفيروس (كوفيد-19) على المستوى الوطني، بشكل قد يُمكّنهم من إجراء 15 ألف اختبار يوميًّا في المتوسط، و20 ألف اختبار كحد أقصى. وبشكل عام، قامت حكومة كوريا الجنوبية بإجراء الاختبار مجانًا للجميع، وتوسّعت في إجرائه على وجه الخصوص بين الفئات الأكثر عرضة، أي بين المصابين أساسًا بأمراض مزمنة، وكبار السن، والمواطنين الذين يتقاسمون السكن أو يعيشون في أماكن مزدحمة، وكذلك القادمين من دول وجدت فيها حالات إصابة بالفيروس المستجد أو كان لهم تاريخ سابق مع أمراض الفيروسات التاجية المعدية الأخرى مثل "سارس" و"ميرس". وبحلول 21 أغسطس 2020، وصل إجمالي الاختبارات التي تم إجراؤها في البلاد إلى أكثر من مليون وسبعمائة وأربعة وخمسين ألف اختبار. 

2- نظام ذكي للحجر الصحي: بعد انتهاء تجربة تفشي فيروس "ميرس" عام 2015، اتجهت حكومة كوريا الجنوبية إلى تطوير نظام ذكي لمعلومات الحجر الصحي، حيث كان يُطلب من جميع الوافدين إلى البلاد الخضوع لكشف قياس الحرارة وملء استبيان صحي مفصل. ويبدو أن جميع البيانات التي كانت متوفرة في هذا النظام قد تم تفعيلها والاستفادة منها بكثافة في التنبؤ الوبائي أثناء استراتيجية مواجهة فيروس (كوفيد-19)، فضلًا عن تضفيرها مع بعض البيانات الذكية الأخرى حول هؤلاء الوافدين، التي تم الحصول عليها بالأساس من وزارة العدل ووزارة الشؤون الخارجية وشركات الطيران، والشركات الرئيسية للهواتف الذكية. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام تطبيق ذكي للهواتف المحمولة يُلزَم الوافد بتنزيله على هاتفه الذكي، وتقديم معلومات عن حالته الصحية بشكل يومي من خلاله طوال فترة حضانة فيروس (كوفيد-19) البالغة 14 يومًا. ومن ناحيةٍ أخرى، تعتزم حكومة كوريا الجنوبية حمل المخالفين للحجر الصحي على ارتداء أساور تعقب ذكية.

3- تصميم خرائط الانتشار: كانت كوريا الجنوبية تعلم أن نجاح أي استراتيجية استجابة وبائية مستقبلية لها ستعتمد في جزء كبير منها على قدرتها على تحقيق التوازن بين حماية البيانات الشخصية الضخمة للمواطنين والتوظيف الحتمي لتحليلات تلك البيانات الذكية في حالة الطوارئ الصحية العامة، ضمن إطار يسمح بتتبع الأشخاص المشتبه في إصابتهم، ويضمن توفير الحماية للجميع. لذلك، اهتمت الحكومة بتطوير عدد من القوانين والمواثيق الأخلاقية التي تحقق هذا الهدف. ورغم أن أغلب المسؤولين الحكوميين لهم حق نشر خرائط انتشار تفصيلية تبين بعض التنقلات الدقيقة للأشخاص المصابين في عدة أماكن؛ إلا أنهم مطالبون -في الوقت ذاته- بتطهير ومنع الوصول لتلك المعلومات بمجرد انتهاء تفشي فيروس (كوفيد-19). ويؤكد أغلب المراقبين أن نشر خرائط الانتشار الذكية لفيروس كورونا المستجد، شجع عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين كانوا على اتصال بشخص مصاب بالفيروس أثناء فترة الحضانة على السعي الاختياري لإجراء الاختبار بهدف الاطمئنان على نفسه من جانب، وساعد حكومة كوريا الجنونية على تجنب العديد من تدابير الإغلاق الكامل القسرية من جانب آخر. 

4- تشخيص وتصنيف فئات الإصابة: سعت حكومة كوريا الجنوبية إلى الوصول لكفاءة عمليات التشخيص الدقيق للمرضى، من خلال الاعتماد على عدد كبير من الأدوات التشخيصية القائمة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد الجيل الرابع من أداة (VUNO Med Chest X-ray) الذي طور خوارزمية لتحديد النتائج غير الطبيعية على صور الأشعة السينية للصدر، كجهاز طبي من الدرجة الثانية من قبل إدارة الغذاء والدواء الكورية، وأظهرت نتائجه السريرية أنه ساهم في تخفيض متوسط وقت قراءة الطاقم الطبي بنسبة 50%، وحسّن أداء الكشف بنسبة 5.8% في المتوسط، كما أدى إلى تقليل احتمالية التشخيص الإيجابي الكاذب في المنطقة الطبيعية بنسبة 50٪. وبصورة مشابهة، أطلقت شركة جي.ل.كيه (JLK)، المتخصصة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، منصة طبية متكاملة تُسمى (AiHub)، ادّعت أن بإمكانها فحص أمراض الرئة في ثوانٍ معدودة بنفس تقنية الذكاء الاصطناعي التي تستخدم في المستشفيات. وتمكّنت الشركة نفسها أيضًا من صنع كاميرا محمولة باليد للتصوير بالأشعة السينية، يمكنها إجراء مسح كامل لمنطقة الصدر في ثلاث ثوانٍ فقط، وإظهار خريطة حرارية في الجزء غير الطبيعي منه. وبموجب الاعتماد على هذه الأدوات التشخيصية السريعة والمتقدمة، تم تطوير نظام ذكي لتصنيف الحالات ضمن أربع فئات وفقًا لدرجة خطورتها، هي: خفيفة، ومتوسطة، وخطيرة، وخطيرة جدًّا.

5- التطبيقات والروبوتات الذكية: منذ تسجيل حالة الإصابة الأولى بفيروس (كوفيد-19) داخل أراضي كوريا الجنوبية، كان من الواضح أنه سيكون هناك اهتمام ملحوظ من قبل الحكومة بتطوير ودعم كل تطبيقات الهواتف الذكية وأنظمة الروبوت التي يمكن أن تساعد -بشكل أو بآخر- في تبادل المعلومات الصحية وتطبيق سياسات التباعد الاجتماعي، وذلك من خلال مساهمتها الفعلية في حثّ المواطنين على تجنب مناطق التجمعات الكبيرة أو الخروج غير الضروري من منازلهم دون فرض أوامر فعلية بذلك. فعلى سبيل المثال، تم تطوير تطبيق هام جاء تحت اسم "كورونا 100 متر"، يتيح للمواطنين رؤية التاريخ الذي تأكد فيه إصابة أي مريض بفيروس (كوفيد-19) على بعد مائة متر منهم، إلى جانب جنسية المريض وجنسه وعمره، وهو التطبيق الذي سهّل للحكومة أيضًا مهمة تحديد الأماكن التي زارها المصابون لاتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة. ومن ناحية أخرى، تم تطوير روبوت صوتي للدردشة، بهدف تقديم كل المعلومات اللازمة في سبيل التصدي لفيروس كورونا المستجد، بل والمساعدة بشكل كبير في عمليات تقديم الاستشارات الطبية الأولية والدعم النفسي لمن بحاجة له.

6- تحسين خدمات "النقل الذكي": نتيجة لعدم قيام حكومة كوريا الجنوبية باتخاذ العديد من التدابير القسرية بخصوص توقف حركة النقل العام، اتجهت البلاد إلى التوسع في استخدام تقنيات النقل الذكي التي تضمن تنفيذ العديد من الإجراءات الاحترازية الخاصة بمنع الانتشار. فعلى سبيل المثال، وبالتحديد في أحد أحياء شمال شرق سيول، تم تنفيذ عشر محطات حافلات متقدمة تكنولوجيًّا لمكافحة تفشي فيروس (كوفيد-19)، حيث جُهزت هذه المحطات الذكية بكاميرات حرارية وبمصابيح بالأشعة فوق البنفسجية لتعقيمها. وأصبح ينبغي على كل من يرغب في انتظار حافلة النقل العام تحت سقف إحدى هذه المحطات أن يقف أمام كاميرا لقياس درجة حرارته، ولا يُفتح باب المحطة له إلا إذا سجّل درجة أدنى من 37.5. بالإضافة إلى ذلك، جُهزت المحطات الذكية بنظام للتكييف به مصابيح عاملة بالأشعة فوق البنفسجية تتولى إزالة الفيروسات، إلى جانب عملية التبريد، فضلًا عن توافر خدمة "الواي فاي" المجانية، ووجود موزع ذكي لمعقم اليدين، وتوزيع علامات استرشادية داخل تلك المحطات التي تشبه المقصورات الزجاجية الكبيرة، لضمان ارتداء المنتظرين للكمامات، وابتعاد كل منهم عن الآخر مسافة لا تقل عن متر.

7- الانتهاء من إنشاء مراكز المدن الذكية: تعكف حكومة كوريا الجنوبية حاليًّا على تسريع الانتهاء من مشروعات تحويل بعض المدن -مثل مدينة دايغوا، التي شهدت تسجيل أغلب حالات الإصابة بفيروس (كوفيد-19)، وكذلك مدينة سيجونغ، وغيرهما- إلى خدمات المدن الذكية المتكاملة، وفي مقدمتها مراكز الرعاية الصحية الذكية وأنظمة النقل الذكي، وخدمة الأمن الذكي. وبحسب التقرير الصادر عن مؤسسة أكسفورد بيزنس، كانت حكومة كوريا الجنوبية من ضمن حكومات الدول التي شهدت طفرة ملحوظة في الاعتماد على تقنيات المدن الذكية خلال الجائحة الأخيرة، خاصة وأن أنظمة مراكز بيانات المدن الذكية قدمت لها تكنولوجيات رصد وتتبع صحي متطورة، من خلال اعتمادها على العديد من البيانات الضخمة لكاميرات المراقبة العامة وأجهزة الاستشعار عن بعد، مما ساعد البلاد على خفض معدلات الإصابة سريعًا دون اللجوء إلى الإغلاق الكامل.

ختامًا، يمكن القول إن استراتيجية الاستجابة الوبائية التي اعتمدتها حكومة كوريا الجنوبية في جائحة (كوفيد-19)، قدمت للعالم نموذجًا صحيًّا فريدًا من نوعه في كيفية الاستفادة من الخبرات السابقة، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التصدي لانتشار الفيروس، من دون أن تفرض الإغلاق الشامل في البلاد، حيث اكتفت فقط بفرض بعض حالات الإغلاق الجزئي وإجراءات التباعد الاجتماعي الموصَى بها. وبالنظر إلى التجربة الديمقراطية الحديثة لهذه الدولة الآسيوية، ويمكن القول أيضًا إن تلك الاستراتيجية التي قامت في جوهرها على مبدأ الشفافية بين الحكومة والمواطنين، واستطاعت التوصل إلى نقطة توازن بين حماية الخصوصية وتفعيل تحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في الطوارئ الصحية؛ وجّهت رسالة قوية إلى الدول ذات النزعات الاستبدادية التي حاولت استغلال الجائحة لفرض مزيدٍ من حالات الرقابة والسيطرة على المجتمع.