تقف منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم، مترقباً الحدث الكبير الذي يتوقع الجميع حدوثه، ولكن لا أحد يعرف متى يحدث؟ ومكان حدوثه وتداعياته. ويدعو كثير من زعماء الدول في المنطقة وخارجها إلى ضبط النفس وعدم التصعيد، لكن دون تأثير واضح. والحدث الكبير المرتقب هو رد فعل إيران وحزب الله اللبناني وحركة حماس على قيام إسرائيل بسلسلة من الاغتيالات النوعية المؤثرة لعدد من قادتها في طهران وبيروت وقطاع غزة. وكان اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في 31 يوليو 2024، بمثابة إهانة وإحراج للدولة الإيرانية واستفزاز لها لعدم قدرتها على حماية ضيف رسمي، قَدم إليها للمشاركة في حفل تنصيب رئيسها الجديد، مسعود بزشكيان. ويسود المنطقة شعور بالخوف من أن تؤدي ردود الفعل المتوقعة إلى تغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وكل من إيران ووكلائها، والانجرار نحو حرب إقليمية مفتوحة.
1- رد إيران: توعدت إيران بأن الرد قادم لا محالة، وأكد المرشد الأعلى، علي خامنئي، في نفس يوم اغتيال هنية، أن الرد سيكون "قاسياً"، وأن التصرف الإسرائيلي مهد الطريق لمعاقبتها بقسوة. وصرح الرئيس الإيراني، بزشكيان، بأن منفذي الاغتيال "سيرون قريباً عواقب عملهم الجبان". وأعلن حزب الله على لسان أمينه العام، حسن نصر الله، في 1 أغسطس الجاري، أنه "على العدو ومن خلفه أن ينتظر ردنا". ووصف بيان حماس، في 31 يوليو الماضي، اغتيال هنية بأنه "حادث فارق وخطر وسينقل المعركة إلى أبعاد جديدة".
وفي الأيام القليلة الماضية، ثارت أسئلة عديدة بشأن متى يكون هذا الرد؟ وهل سيأتي منفرداً من جانب إيران أو يكون بالتنسيق مع حزب الله اللبناني ووكلاء طهران في العراق وسوريا واليمن؟ وهل يكتفي حزب الله بالاشتراك في عمل عسكري مع أطراف أخرى، أم يقدم على رد فعل مستقل؟
الطرف الأهم في هذه المعادلة هو إيران، التي تضع يدها على زناد الحرب الكبرى أو الشاملة في المنطقة. فهي دولة إقليمية كبيرة، لها رؤيتها الاستراتيجية لمستقبل المنطقة ولدورها القيادي فيه، ولها حساباتها بشأن التوازنات بين القوى الفاعلة في الإقليم ومع القوى الكبرى في العالم. ولن تقوم إيران بعمل متسرع خارج عن هذه الحسابات، أو مخالف لعقيدتها العسكرية تجاه إسرائيل، والتي تنهض على ثلاث ركائز: الأولى أن المواجهة مع إسرائيل "طويلة" تعمل فيها إيران على أن تعيش إسرائيل في حالة شعور دائم بالخطر وعدم الأمان، ومن هنا يأتي التزام طهران بسياسة "النفس الطويل" أو ما يُسمى بـ"الصبر الاستراتيجي". والثانية، حصار إسرائيل بعدد من التنظيمات المسلحة الموالية لإيران، والتي تستطيع كل منها ضرب العمق الإسرائيلي، مما يُشكل "حلقة من النار"، حسب التعبير الذي ورد في مقال بعنوان "إسرائيل على حافة الهاوية" في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 1 أغسطس الجاري؛ الأمر الذي يُتيح لإيران اتباع سياسة "الضرب عن بُعد". والركيزة الثالثة هي تحاشي نشوب حرب مباشرة مع إسرائيل؛ إذ تعلم طهران مُقدماً أن واشنطن سوف تشارك فيها إلى جانب تل أبيب.
والضغوط على إيران اليوم كثيرة ومتداخلة ومتقاطعة، فهي مصممة على القيام بعمل عسكري رداً على انتهاك سيادتها واختراق حدودها، بحكم أن اغتيال هنية تم على أرض إيرانية. ويزيد من هذا التصميم، الآراء التي ذهبت إلى أن بعض أجهزة الأمن في إيران ربما تكون متورطة فيما حدث، وغضت النظر عنه من خلال تفاهمات مع واشنطن. وسوف يكون الحكم على مدى صحة هذه الآراء من خلال جدية التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في طهران، ثم في نوعية الرد العسكري الذي سوف تقوم به.
لكن الرد العسكري الإيراني يقيده عدم رغبة إيران في الدخول في حرب مع إسرائيل، وكسب مزيد من الوقت لاستكمال مشروع إنتاجها للسلاح النووي. وسوف يتأثر القرار أيضاً بتولي رئيس جمهورية من التيار الإصلاحي السلطة، والذي كان من أول قراراته اختيار وزير الخارجية الأسبق، محمد جواد ظريف، مساعداً للرئيس للشؤون الاستراتيجية، وهو من أبرز رموز الحوار مع الولايات المتحدة والغرب، ولا يرغب بزشكيان أن يبدأ فترة ولايته باتخاذ قرار حرب لا يمكن السيطرة عليه.
أضف إلى ذلك، أن طهران لها تقديراتها بشأن موقف الولايات المتحدة تجاه الأحداث الجارية، خاصةً في ضوء ما تم إعلانه عن الاتصال بين الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 1 أغسطس، والذي جدد فيه بايدن التزامه بأمن إسرائيل ضد التهديدات من إيران وحماس وحزب الله والحوثيين، وأن واشنطن قامت فعلاً بزيادة وجودها العسكري في الخليج وشرق المتوسط والبحر الأحمر.
وتسعى إيران لمعاقبة إسرائيل وإثبات قدرتها على اختراق حدودها والدخول بطائراتها وصواريخها إلى العمق الإسرائيلي، وأن "القبة الحديدية" غير قادرة على وقفها، لكن دون أن يترتب على ذلك خسائر بشرية كبيرة أو الانزلاق إلى حرب بين الطرفين. وهذا ما حدث بالضبط في الهجوم الإيراني على إسرائيل في 13 إبريل الماضي، رداً على هجوم إسرائيل على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق قبلها بأسبوعين.
وقد يأتي رد إيران منفرداً، لتأكيد أنها تعاقب إسرائيل على ما قامت به على أراضيها. وقد يأخذ شكل الهجوم السيبراني الموجه ضد أهداف حيوية إسرائيلية كخطوط الاتصالات والكهرباء، أو شكل الهجوم بالمُسيّرات والصواريخ ضد حقول الغاز الإسرائيلية أو أهداف أخرى. وهناك أيضاً سيناريو أن تقوم إيران بالرد بالتنسيق مع وكلائها لإلحاق أكبر قدر من الأضرار بإسرائيل، ولإضعاف قدرتها على توجيه ضربة مقابلة. وفي جميع الأحوال، فإن طهران سوف تقوم بإدارة تصعيد محسوب يمكنها السيطرة عليه، ولا يضطر تل أبيب للرد عليها.
2- مغامرة إسرائيل: في ظل قيادة نتنياهو، تبدو إسرائيل الطرف الأكثر مغامرة واستعداداً للتصعيد، بحكم رغبتها في استعادة "قوة الردع" التي سقطت يومي 7 أكتوبر 2023 على يد حماس، و13 إبريل 2024 على يد إيران، وتجلت في عدم إحجام حزب الله اللبناني عن الرد على كل ضربة إسرائيلية في جنوب لبنان. وربما تخدم سياسة الاغتيالات واستعراض العضلات، رغبة نتنياهو وقادة الجيش في تحقيق انتصارات، يقدمونها للرأي العام الإسرائيلي كتعويض عن تقصير يوم 7 أكتوبر. وتسعى تل أبيب أيضاً للاستفادة من الارتباك السياسي في الولايات المتحدة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، وهي متأكدة من أن واشنطن سوف تقف معها في أية مواجهة ضد طهران؛ لذلك صرح نتنياهو بأن إسرائيل تخوض حرباً متعددة الجبهات وأنها قادرة على مواجهة أي هجوم عليها.
في المقابل، تؤكد إسرائيل أنها لا ترغب في توسيع نطاق الحرب لتصبح حرباً إقليمية، ربما لأن جيشها منهك بعد انخراطه في عمليات قتالية لشهور طويلة دون توقف؛ ولأنها تعاني نقصاً في الذخائر والمعدات العسكرية بسبب توتر العلاقات أحياناً مع الولايات المتحدة، ولتفاقم مشكلات الانقسام الاجتماعي بسبب ازدياد شهية اليمين الديني المتطرف وسعيه لفرض أفكاره على المجتمع والدولة.
3- قيود حزب الله: سيتعين على حزب الله اللبناني أن يرد على اغتيال قائده العسكري، فؤاد شكر، وهو يمتلك القدرات العسكرية التي تمكنه من الوصول إلى أهداف اقتصادية حيوية في منطقة الجليل وتل أبيب. وقام، في 4 أغسطس الجاري، باستهداف مستوطنة "بيت هلل" لأول مرة بعشرات الصواريخ. كما أكد، يوم 5 أغسطس، أنه استهدف عدداً من الثكنات والمواقع الإسرائيلية بـ"المُسيَّرات الانقضاضية"، معلناً إيقاع قتلى وجرحى. ومع أن حزب الله يتمتع بمساحة معتبرة من حرية اتخاذ القرار، فإن رد فعله سوف يكون مقيداً بالوضع المتردي في لبنان، وبالتقدير الإيراني للوضع في المنطقة.
4- موقف حماس: يشعر قادة حماس بالرغبة في الرد على اغتيال رئيس مكتبهم السياسي، ولكن القدرة على ذلك تتحدد بالوضع العسكري للحركة على الأرض، وحجم ما تمتلكه من أسلحة وذخائر، ومدى تماسكها التنظيمي في ضوء الضربات المتلاحقة التي أصابت عدداً من قادتها العسكريين، في ظل إعلان إسرائيل مقتل محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام وهي الجناح العسكري للحركة، ونائبه مروان عيسى. لذلك، فقد يكون رد حماس في شكل هجوم ضخم بالصواريخ على إسرائيل.
5- أطراف أخرى: من المتصور أن يكون للأطراف الأخرى الداعمة لإيران أكثر من دور، فهي قد تتصرف لأسبابها الخاصة، مثل أن تقوم جماعة الحوثيين في اليمن بعمل عسكري رداً على الضربة الإسرائيلية ضد قواعدها في ميناء الحديدة، أو أن تقوم قوات الحشد الشعبي في العراق بالرد على الهجمات الأمريكية على قواعدها واستهداف أحد قادتها. وقد تتصرف بالتنسيق مع إيران ووكلائها للقيام بعمليات عسكرية في نفس الوقت أو بشكل متتالٍ. ويُشار في هذا الصدد إلى ما تردد عن نقل أسلحة إيرانية يوم 4 أغسطس الجاري عبر منطقة البوكمال من العراق إلى الفصائل الموالية لإيران في دير الزور شرقي سوريا. كما أُصيب ما لا يقل عن خمسة جنود أمريكيين في هجوم على قاعدة عين الأسد في غرب العراق يوم 5 أغسطس.
نحن لم نتحدث عن روسيا التي قام سكرتير مجلس الأمن القومي فيها، سيرغي شويغو، بزيارة لطهران يوم 5 أغسطس الجاري، أو عن الصين واحتمالات التدخل لدعم الحليف الإيراني في حالة قيام الولايات المتحدة بالمشاركة في هجوم على طهران. وتبدو الصورة قاتمة وسط مناخ من الغموض وعدم اليقين. والأرجح أن الأيام المقبلة سوف تشهد مزيداً من العنف، وأن التطور سوف يأخذ شكل الضربات العنيفة المتبادلة بين إسرائيل والأطراف الأخرى؛ بحيث تزداد ضراوة واستخداماً لأسلحة أكثر تقدماً. أما الحرب الإقليمية الشاملة التي يمكن أن تمتد لتشمل المصالح الأمريكية في المنطقة ومصادر النفط والمضائق المائية؛ فإنها "سيناريو كارثي مروع" ولا يُرجح أن هناك طرفاً يريد أن يتحمل مسؤولية حدوثه.