تعرض المرشح الجمهوري والرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، يوم 13 يوليو 2024، لمحاولة اغتيال خلال مجمع انتخابي في بتلر بولاية بنسلفانيا؛ إذ اخترقت رصاصة الجزء العلوي من أذنه اليمنى، وقُتل أحد الحضور وأُصيب اثنان آخران بجروح بالغة.
ولا يمكن وصف هذه الحادثة بالمفاجئة، فقد وقعت في مناخ سياسي شديد الاستقطاب يسيطر عليه خطاب الكراهية وترتفع فيه معدلات العنف السياسي. وهي ليست الحادثة الأولى التي تشهدها الانتخابات الأمريكية، فهناك ما لا يقل عن 15 اعتداءً مباشراً وجاداً على رؤساء، ورؤساء منتخبين (أي بعد الفوز بالانتخابات الأمريكية وقبل التنصيب)، ومرشحين للرئاسة، أسفرت خمسة منها عن سقوط قتلى. ولعل أبرز هذه الحوادث، محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريغان عام 1981، بعد شهرين من تنصيبه، ونجاته بعد إصابته في الصدر. ولا يمكن إنكار أن مثل هذه الحوادث تمثل نقاطاً مهمة وأحياناً فاصلة في مسار الانتخابات الأمريكية.
وتطرح محاولة اغتيال ترامب تساؤلات حول تداعياتها المُحتملة على مسار الانتخابات الرئاسية هذا العام، وإذا ما كانت ستدفع في اتجاه تأجيج أو التخفيف من حدة الخطاب والاستقطاب. فهذه الحادثة جاءت قبل إجراء الانتخابات بأقل من أربعة أشهر، وقبيل إعلان ترامب رسمياً مرشحاً للحزب الجمهوري في مؤتمر الحزب في ميلووكي بولاية ويسكونسن المنعقد في الفترة من 15 إلى 18 يوليو الجاري، وفي ظل تقارب المنافسة بين ترامب ومنافسه الرئيس الحالي جو بايدن في معظم استطلاعات الرأي.
موجة عنف جديدة:
للعنف السياسي تاريخ طويل في الولايات المتحدة، وتمثل محاولة اغتيال ترامب الحلقة الأحدث في سلسلة من حوادث العنف السياسي التي برزت خلال السنوات الماضية، والتي تعيد للأذهان موجة العنف السياسي التي شهدتها الولايات المتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي برز فيها الاستقطاب السياسي وشهدت تغيُّرات اجتماعية. ففي تلك الفترة وعلى مدار ثلاث دورات انتخابية متتالية، تم استهداف عدد من المرشحين للرئاسة. ففي نوفمبر 1963، اُغتيل الرئيس جون كيندي أثناء زيارته لدالاس بولاية تكساس لحشد الدعم لإعادة انتخابه لولاية ثانية في 1964. وفي عام 1968، اُغتيل شقيقه الأصغر، السيناتور روبرت كينيدي، الذي كان يسعى للفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي. وفي عام 1972، نجا حاكم ولاية ألاباما آنذاك، جورج والاس، من محاولة اغتيال أثناء الحملة الانتخابية، جعلته مقعداً حتى وافته المنية عام 1998. علاوة على اغتيال عدد من قادة حركة الحقوق المدنية مثل: مارتن لوثر كينغ جونيور، ومالكوم إكس، ومدغار إيفرز، إلى جانب العنف الذي شهده مؤتمر الحزب الديمقراطي في شيكاغو عام 1968 اعتراضاً على الانخراط الأمريكي في حرب فيتنام.
وبحلول الثمانينيات خفّت وتيرة العنف السياسي، مع ارتفاع مؤقت خلال التسعينيات. ولكن مع وصول ترامب للبيت الأبيض عام 2016، بدأت الولايات المتحدة تشهد موجة جديدة من العنف السياسي، زادت وتيرتها وتصاعدت خاصةً بعد خسارته في انتخابات 2020 وادعائه أن الانتخابات قد "سُرقت منه". فقد زادت وتيرة التهديدات والمضايقات لأعضاء الكونغرس والقضاة ومسؤولي الحكومة وعملاء مكتب التحقيقات الفدرالي وغيرهم. وتُظهر بعض استطلاعات الرأي زيادة قبول الملايين من الأمريكيين من اليمين واليسار للعنف لتحقيق أهداف سياسية.
وهناك قائمة طويلة بحوادث عنف جرت في السنوات الماضية، مثل: تعرض زوج رئيسة مجلس النواب السابقة الديمقراطية، نانسي بيلوسي، للضرب في منزلهما في سان فرانسيسكو على يد مهاجم كان يبحث عنها عام 2022، وإطلاق نار جماعي على نواب جمهوريين أثناء تدريب بيسبول، أُصيب فيه زعيم الأغلبية في مجلس النواب، الجمهوري ستيف سكاليز، وأحد المساعدين واثنان من رجال الشرطة. ولعل أهم هذه الحوادث، اقتحام أنصار ترامب، في 6 يناير 2021، لمبنى الكونغرس "الكابيتول" من أجل إنهاء ما سموه بـ"سرقة الانتخابات" ووقف تصديق الكونغرس على فوز بايدن؛ ما أسفر عن مقتل متظاهرين وضابط شرطة وإصابة العديد.
ووفقاً للتحالف الوطني لدراسة الإرهاب والاستجابات للإرهاب (START) التابع لجامعة ميريلاند؛ فإن معظم أعمال العنف السياسي في الولايات المتحدة يرتكبها أشخاص لا ينتمون إلى أية منظمات رسمية. فيمكن للفرد أن يتطرف ذاتياً دون المشاركة في منظمات، وذلك من خلال الانخراط على شبكة الإنترنت، فالأفكار المتطرفة ونظريات المؤامرة التي كانت على هامش المجال العام أصبحت منتشرة عبر مختلف المنصات سواء الألعاب الإلكترونية أم وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغيره.
وبحسب تقرير صادر عن وكالة "رويترز"، فإن العنف السياسي في السبعينيات كان يُرتكب في كثير من الأحيان من قِبل اليسار المتطرف ويركز إلى حد كبير على تدمير الممتلكات، مثل المباني الحكومية وغيرها، رغبةً في التأثير في صُنع القرار. أما الآن، فتستهدف أعمال العنف الأفراد. وعلى الرغم من أن حوادث العنف من اليسار آخذة في الارتفاع؛ فإن غالبيتها تأتي من اليمين.
ويفاقم خطر العنف السياسي الأمريكي، الإقبال الكبير على شراء الأسلحة النارية، وارتفاع معدلات الجريمة، وحوادث إطلاق النار الجماعية. فقد استخدم مُطلق النار على ترامب بندقية قنص من طراز "أيه آر-15" البندقية الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة إلى حد وصفها بـ"البندقية الأمريكية"، وهي الأكثر استخداماً في حوادث إطلاق النار الجماعية.
وهناك عدة عوامل تزيد من العنف السياسي في وقت الانتخابات الأمريكية، ومنها التنافسية الانتخابية الشديدة، وقدرة الفائز على قلب موازين القوى في النظام السياسي، بالإضافة إلى الانقسام الحزبي الواضح على أساس الهوية، ووجود قواعد انتخابية تسمح باستغلال هذه الانقسامات لتحقيق الفوز. فيعيش معظم مؤيدي الحزب الديمقراطي في المدن، وهم من الأقليات والنساء ومن ليست لهم انتماءات دينية وغيره، بينما يعيش معظم مؤيدي الحزب الجمهوري في المناطق الريفية والضواحي، وفي الغالب هم رجال بيض لهم رؤية محافظة. ويشجع النظام الحزبي والانتخابي القائم على زيادة حدة هذه الانقسامات، فالنظام الانتخابي في الولايات المتحدة القائم على أن الفائز يحصل على كل الأصوات يسمح لمجموعة صغيرة من الناخبين بالتأثير في النتائج؛ مما يزيد من احتمالية العنف. كما أن نظام الحزبيين يرتبط أكثر بالعنف من النظام متعدد الأحزاب؛ لأنه يعمق حالة الاستقطاب.
تعزيز الاستقطاب السياسي:
في أعقاب حادثة إطلاق النار على ترامب، سرعان ما حمَّل عدد من الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس، المسؤولية لخطاب الديمقراطيين المُصور لترامب بأنه تهديد خطر للديمقراطية الأمريكية. فكتب السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو، جيمس ديفيد فانس، المرشح لمنصب نائب الرئيس مع ترامب، على منصة "إكس"، قائلاً: "الأمر لا يتعلق اليوم بمجرد حدث منعزل. الفرضية الأساسية لحملة بايدن هي أن ترامب فاشي واستبدادي ويجب إيقافه بأي ثمن. وقد أدى هذا الخطاب مباشرة إلى محاولة اغتيال ترامب". واتفق زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، ستيف سكاليز، مع هذه السردية؛ إذ أكد تغذية قادة الحزب الديمقراطي على مدار أسابيع لفكرة أن فوز ترامب تعني نهاية الديمقراطية في الولايات المتحدة؛ بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، وتبنى نظريات المؤامرة، كالنائب الجمهوري عن ولاية جورجيا، مايك كولينز، الذي كتب "أرسل جو بايدن الأوامر"، ودعا السلطات إلى اعتقال بايدن بتهمة "التحريض على الاغتيال".
وقبل الإعلان عن أية تفاصيل تتعلق بهوية الجاني ودوافعه، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالمبالغات والأخبار الكاذبة والمعلومات المُضللة ونظريات المؤامرة. فعلى مستوى اليمين، انتشرت تعليقات تشير إلى تورط بايدن لمنع ترامب من العودة لسدة الحكم، وتدين وسائل الإعلام وجهاز الخدمة السرية المسؤول عن حماية ترامب، وتنتقد "الدولة العميقة". وبين المناهضين لترامب، انتشرت تعليقات بأن إطلاق النار كان مدبراً لمساعدة حملته الانتخابية.
وفي هذا المناخ المشحون، زاد التخوف من أن تؤجج محاولة اغتيال ترامب دعوات العنف السياسي على نحو أكبر مما شهدته الولايات المتحدة مع اقتحام "الكابيتول" في 6 يناير 2021، خاصةً من جانب اليمين الغاضب الذي قد يسعى للانتقام لمرشحه. لذا دعا الرئيس بايدن، في خطاب متلفز من البيت الأبيض، إلى الوقوف معاً وتسوية الخلافات بطريقة سلمية من خلال صناديق الاقتراع. وتبنى ترامب، على عكس المُعتاد، خطاباً يبدو معتدلاً؛ إذ دعا إلى الوحدة و"عدم السماح للشر بالفوز". وقد يكون من السابق لأوانه الجزم بتداعيات الحادث على حدة الخطاب السياسي والاستقطاب في الولايات المتحدة، فبالرغم من تبني كلٍ من ترامب وبايدن خطاباً معتدلاً لتجنيب البلاد خطر مزيد من العنف السياسي، من المُرجح مع المُضي قدماً في الحملة الانتخابية أن تزيد حدة الخطاب السياسي والاستقطاب.
انعكاسات انتخابية:
قد تؤثر محاولة اغتيال ترامب في السباق الرئاسي الأمريكي الحالي، كما يتضح فيما يلي:
1- بالنسبة لترامب: هناك اتفاق بين المحللين وبعض القادة الجمهوريين على أن محاولة اغتيال ترامب قد تدعم فرصه في العودة إلى البيت الأبيض؛ إذ تزيد من تأييد قاعدته وتمنحه تعاطفاً وشعبية في الولايات المتأرجحة على الأقل على المدى القريب. فمن ناحية، وبعد دقائق من هذه الحادثة، انتشرت في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، صورة ترامب المُلطخ بالدماء الرافع قبضته الملوح لمؤيديه والقائل "قاتلوا". وكما تذهب دراسات الاتصال السياسي؛ فإن الصورة لها تأثير سياسي كبير ويمكن أن تتحول إلى رمز لحملة ترامب الانتخابية ولصورته العامة، فتدعم الصورة سعي ترامب لتقديم نفسه كمرشح قوي وصاحب قضية لا يستسلم، في مقابل منافس ضعيف ومسن؛ في إشارة إلى بايدن.
ومن ناحية أخرى، ربما تدعم تلك الحادثة السردية التي تبناها ترامب منذ خسارته انتخابات عام 2020، ومفادها أنه ضحية للاضطهاد السياسي والتلاعب الانتخابي ويسعى الجميع للنيل منه بما في ذلك الإعلام والقضاء وبالطبع إدارة بايدن، كما أنها تدعم سعي ترامب لتأكيد خروج الولايات المتحدة عن المسار الصحيح على مستويات عدة، بما في ذلك قضايا النظام والأمن. وقد تتوقف فرص ترامب في الاستفادة من الحادثة على مدى قدرته على استغلالها لفترة طويلة وإعادة تأطير وتشكيل حملته الانتخابية وصورته العامة.
وهناك بعض السوابق في الولايات المتحدة وغيرها، تدعم هذا التحليل المؤكد أن هذه الحادثة قد تزيد من فرص ترامب الانتخابية. ففي عام 1981، وفي أعقاب محاولة اغتياله، نال الرئيس المُنتخب آنذاك ريغان تأييداً كبيراً في استطلاعات الرأي. وفي البرازيل عام 2018، طُعن المرشح الرئاسي آنذاك اليميني المتطرف بولسونارو، في معدته قبل شهر من الانتخابات، وقد زاد ذلك من قاعدته الشعبية، وفاز في الانتخابات.
2- بالنسبة لبايدن: جاء إطلاق النار على ترامب في وقت يواجه فيه بايدن ضغوطاً متزايدة من حزبه بالانسحاب من السباق الانتخابي لفتح الباب أمام مرشح ديمقراطي آخر، وذلك في أعقاب أدائه الضعيف خلال المناظرة التي جرت مع ترامب يوم 27 يونيو 2024، والتي زادت من الشكوك حول أهليته للمنصب وقدرته الذهنية والصحية وفرصه لهزيمة ترامب؛ وقد أدى ذلك إلى تآكل الدعم لبايدن، كما تُظهر استطلاعات الرأي مؤخراً.
وفي هذا السياق، أعلن 19 نائباً ديمقراطياً وسيناتور ديمقراطي وأربعة مستقلين يتحالفون مع الديمقراطيين، ضرورة تنحي بايدن عن الترشح في الانتخابات؛ لإعطاء فرصة لتقديم مرشح آخر قادر على منافسة ترامب. وأعرب البعض، سواء سراً أم علناً، عن تشككهم في كون بايدن المرشح الأفضل لهزيمة ترامب. فضلاً عما يدور خلف الأبواب المغلقة من التشكيك في قدرة بايدن على المنافسة، من قِبل أبرز أعضاء الحزب الديمقراطي من أمثال: نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب السابقة، وباراك أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق. وامتد الأمر إلى كبار المانحين، ولعل مقال الممثل الأمريكي جورج كلوني (الذي شارك قبل شهر في تجمع لصالح بايدن) في صحيفة "نيويورك تايمز"، يوم 10 يوليو الجاري، والذي طالب فيه بايدن بالانسحاب من السباق الانتخابي، يوضح حجم هذه الضغوط على الرئيس الحالي. هذا بالإضافة للمقال الافتتاحي لـ"نيويورك تايمز"، في 28 يونيو الماضي، بعنوان: "من أجل خدمة بلاده، على الرئيس بايدن أن يترك السباق الانتخابي".
وفي المقابل، يُصر بايدن على المُضي قُدماً في الترشح، مؤكداً أنه الأقدر على هزيمة ترامب، واستطاع الحصول على تأييد كتلة السود وكتلة ذوي الأصول اللاتينية وكتلة التقدميين في الكونغرس. وأعرب السيناتور بيرني ساندرز، أحد أبرز التقدميين في الكونغرس، والمنافس لمرتين في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، عن دعمه لبايدن. ففي مقال افتتاحي نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز"، كتب ساندرز "كفى"، وأنه "على الديمقراطيين أن يتوقفوا عن المشاحنات وتصيد الأخطاء"، والتوحد خلف بايدن بالرغم من أنه قد لا يكون "المرشح الأمثل".
وفي خضم هذا الجدل حول مستقبل بايدن، من غير الواضح كيف يمكن أن تؤثر محاولة اغتيال ترامب في أصوات الديمقراطيين المطالبة بانسحاب بايدن من السباق الرئاسي. فبينما يرى البعض، ومنهم ساندرز، أنها غير مؤثرة، يرى آخرون أن الحادثة أوقفت زخم الهجوم على بايدن. فبعدها، سرعان ما التزم الديمقراطيون الصمت، واكتفوا بإدانة العنف السياسي بعد أن كانوا مختلفين حول ترشح بايدن، ومتحدين في انتقادهم لترامب.
وتأمل حملة بايدن في أن تحول تلك الحادثة الأضواء والخطاب العام من التركيز على سن بايدن وحالته الصحية وأهليته لتولي الرئاسة، إلى التركيز على منافسه ترامب وخطابه وأجندته اليمينية المتطرفة ومشكلاته القانونية. ولكن قد يصبح ذلك سلاحاً ذا حدين، فالتغطية المكثفة لترامب قد تزيد من شعبيته.
ختاماً، تمثل محاولة اغتيال ترامب حلقة جديدة من العنف السياسي في الولايات المتحدة، قد تزيد من فرص ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض من ناحية، وقد تؤجج جولات جديدة من الاستقطاب والعنف من ناحية أخرى.