عرض: سارة عبدالعزيز
يحتدم الصراع السياسي بين حزبي المحافظين والعمال في بريطانيا بعد إجراء الانتخابات العامة المبكرة في الرابع من يوليو 2024، ولاسيما مع تنامي التحديات على صعيد السياسات الداخلية والخارجية. ومن هنا، تأتي أهمية كتاب "السياسة على الحافة" للكاتب والسياسي البريطاني روري ستيوارت، الذي صدر في أواخر العام الماضي؛ إذ يمكن من خلاله فهم بعض جوانب التحديات البريطانية الراهنة.
يطرح الكتاب نظرة نقدية للسياسة البريطانية التي بلغت الحافة، من خلال استعراض خبراته الشخصية والسياسية في المجال العام؛ إذ ينتقد النظام الديمقراطي البريطاني الذي يعاني انقسامات حزبية وانفصالاً عن الواقع. في الوقت ذاته يرى أن السياسة الخارجية ليست بأفضل حال.
تكمن أهمية رؤية ستيورات في خبراته الواسعة، وشهرته في أوساط الشباب البريطاني؛ إذ يقدم مع أليستر كامبل برنامج "البودكاست" الأكثر شعبية في البلاد، والذي يحمل عنوان "الباقي سياسة" (The Rest Is Politics). شغل ستيورات أيضاً عدة مناصب في الحكومة البريطانية منها، وزير الدولة للتنمية الدولية، ووزير السجون، ووزير إفريقيا، ووزير التنمية، ووزير البيئة، ورئيس لجنة الدفاع في البرلمان، كما ترشح لرئاسة حزب المحافظين ضد بوريس جونسون في عام 2019. وفي وقت سابق من حياته المهنية، خدم لفترة وجيزة في الجيش البريطاني قبل أن يعمل دبلوماسياً في إندونيسيا والبلقان والعراق، بالإضافة إلى أنه أسس وأدار مؤسسة خيرية في أفغانستان.
أكاديمياً، أصبح ستيوارت أستاذاً لمادة حقوق الإنسان في جامعة هارفارد، كما أنه سبق وأصدر ثلاثة كتب أخرى هي: ما بين الأماكن (The Places in Between)، والمخاطر المهنية (Occupational Hazards)، والمسيرات (The Marches).
بين العراق وأفغانستان:
يروي ستيوارت في الكتاب رحلته في المجال السياسي منذ تكليفه، كضابط مشاة اسكتلندي سابق، بمهمة تنظيف الفوضى التي خلفها الغزو غير القانوني للعراق في عام 2003؛ إذ عمل كمحافظ بالوكالة لإحدى المحافظات العراقية بعد الحرب. وخلص في النهاية إلى أن القصة الرسمية لهذا الغزو كانت "احتيالاً"، فلم يكن الجيش البريطاني يبني وطناً ديمقراطياً في العراق، بل كان يصنع أعداءً جدداً بسبب ما اعتبره الغطرسة وسوء السلوك.
بناءً عليه، استقال ستيوارت، وذهب للعمل مع المنظمات غير الحكومية في أفغانستان؛ إذ اكتشف أن التبرعات الصغيرة التي تنفق برشاد وإيثار على مشروعات مفيدة قد تأتي بنتائج جيدة، فقد أسس إحدى العيادات الصحية هناك ضمن عمله مع المنظمات غير الحكومية والتي استقبلت حوالي 27 ألف مريض في السنة.
مع ذلك، لم تتأثر حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بمثل هذه النجاحات البسيطة؛ إذ عقدتا العزم على تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية ليبرالية حديثة، وخصصتا التمويل الضخم والقوى العاملة العسكرية لتدمير حركة طالبان، لكن كل شيء انتهى بالانسحاب الأمريكي "المهين" على حد وصفه في عام 2021، عندما استعادت طالبان السيطرة مرة أخرى.
البرلمان تحت المجهر:
ينتقل ستيورات إلى مرحلة أخرى ترشح فيها كنائب في البرلمان البريطاني. ففي عام 2009، استقال خمسون نائباً، عندما نشرت صحيفة "التلغراف" تفاصيل مطالباتهم بنفقات مشكوك فيها. وفي حين لم يكن لستيوارت ولاءات حزبية قوية؛ إذ إنه ولد في هونغ كونغ، وهو ابن جندي من الحرب العالمية الثانية، إلا أن عائلته كانت تحتفظ بعلاقات مع الأرستقراطية الاسكتلندية؛ ومن ثم، وجد نفسه في منزل متوافق بشكل أكبر مع المحافظين، باعتباره الحزب الذي يحترم التقاليد، إلا أنه كان في الحقيقة "وسطياً" معلناً عن نفسه، ومحافظاً من أنصار أمة بريطانية واحدة.
في عام 2009، قرر الترشح للبرلمان، وهو متحمس لفكرة الخدمة العامة. واُنتخب بالفعل عن إحدى الدوائر الريفية عندما كان حزب المحافظين يحكم في ائتلاف مع الديمقراطيين الليبراليين، ثم شغل منصب وزير مساعد تحت قيادة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الأسبق. هنا، يرسم ستيورات صورة قاتمة عن الحياة البرلمانية في "وستمنستر"؛ إذ اكتشف أن أعضاء البرلمان غير مهتمين بالسياسة، بل كانوا مهووسين بالفضائح، وأن الحياة داخل البرلمان مليئة بالعجز، والشك، والحسد، والاستياء، والشماتة.
انتقد ستيوارت ديفيد كاميرون في عدة مواضع من الكتاب، منها أنه في حين كان كاميرون يدعي أنه يدعم فكرة التنوع إلا أنه كان دائماً ما يحيط نفسه بطلاب كلية إيتون القدامى ذوي القمصان البيضاء، والذين جاءوا من مجموعة اجتماعية ضيقة لا تمثل التنوع بأي حال من الأحوال. وبشكل عام، كان يرى أن أداء كاميرون مخيب للآمال، وأن مناقشات مجلس الوزراء كانت سطحية. ولم يكن رئيس الوزراء مهتماً بالاستراتيجية تجاه أفغانستان أو مدركاً للشعبوية المتصاعدة في البلاد.
اعتبر ستيوارت أن البرلمان البريطاني يعاني "انحداراً مروعاً"، على حد تعبيره، والذي لا يمكن إصلاحه إلا بالشفافية. وقد كان ستيوارت ماهراً في كتابة وتصوير رؤيته لشخصيات سياسية مثل: ليزا تراس وديفيد كاميرون وديفيد جوك وبوريس جونسون؛ إذ وصف تراس، بأنها تقدر "البساطة المبالغ فيها" أكثر من "التفكير النقدي"، و"القوة والتلاعب" أكثر من "الحقيقة والعقل". وأشاد ستيوارت بــديفيد جوك، رئيسه في منصب وزير العدل، باعتباره شخصاً معتدلاً ونزيهاً.
"البريكست البريطاني":
أوضح ستيوارت موقفه من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومدى معارضته لذلك الخروج؛ إذ شارك في حملة البقاء في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنه احترم القرار الأخير الذي تم التوصل إليه. وبعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستقالة كاميرون، عينت تيريزا ماي رئيسة الوزراء آنذاك ستيوارت وزير دولة للتنمية الدولية، ثم وزيراً لإفريقيا، ثم السجون.
وفي حين دعم ستيوارت موقف ماي في اتفاق انسحابها من الاتحاد الأوروبي، فقد خطط المتشددون من مؤيدي الخروج للإطاحة بها؛ لذا اعتقد ستيوارت أن السياسة في النهاية تُعد "مهنة انتقامية"، وبعد استقالة ماي، ترشح ستيوارت لقيادة الحزب، لكنه رفض الخدمة تحت قيادة بوريس جونسون، معتقداً أنه يفتقر إلى "الجدية والمبادئ الأخلاقية".
ووصف النظام الحزبي البريطاني بأنه أصبح متصدعاً إلى الحد الذي لا يمكن إصلاحه؛ بسبب الانقسامات الحادة. وتساءل حول إمكانية إصلاحه من خلال جمع الولاءات السياسية معاً. كما اعترف بأن النظام الديمقراطي البريطاني أضحى في حالة سيئة؛ إذ أصبح منفصلاً عن الواقع، ومقيداً بالفكرة القائلة إن الهدف الأول للسياسي هو الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها؛ الأمر الذي جعل أغلب السياسيين يضحون بكل شيء من أجل الفوز بالانتخابات.
"قوة متوهمة":
استمر ستيوارت في سرد المواقف التي تعكس مدى هشاشة السياسة البريطانية، ففي الوقت الذي ترشح فيه لرئاسة حزب المحافظين، وبينما كان يجلس مع خمسة متنافسين آخرين على زعامة الحزب في مناظرة في استوديو تلفزيوني، تبارى المرشحون في استعراض القوة البريطانية: "سنتحمل المسؤولية عن خامس أكبر اقتصاد في العالم، وعن عدد سكان أكبر من عدد سكان الإمبراطورية الرومانية في ذروتها...".
إلا أن ستيوارت وصف تلك القوة بأنها "متوهمة"، "فبريطانيا لا تزرع سوى نصف الغذاء الذي تتناوله، وتنتج أقل من نصف الطاقة التي تستهلكها... نحن مدينون ونقترض المزيد". ويقول: "إن خطأً واحداً قد يدمر عملتنا، ويمحو أسواق السندات الحكومية، ويُشعل التضخم ويدفع جزءاً كبيراً من بلادنا إلى حافة الإفلاس بين عشية وضحاها تقريباً".
أما عن رؤيته لأداء الحكومات البريطانية التي شارك فيها، فيؤكد أنه في حين تُعد المهمة الأولى لأية حكومة هي توفير إدارة فعّالة، إلا أن الأمور لم تجرِ على هذا النحو؛ إذ يتم نقل الوزراء من وزارة إلى أخرى، ولا يُسمح لهم بالبقاء في مناصبهم لفترة كافية لاكتساب معرفة أعمق بموضوعاتهم.
يدلل هنا، على تجربته كوزير للسجون، فقد جعل من مهمته زيارة كل سجن في البلاد، واكتشف العديد من الإصلاحات الضرورية، والتي كانت في الواقع صغيرة للغاية وقابلة للتنفيذ. ولكن كما حدث في أفغانستان، اكتشف أن النجاحات الصغيرة لا تجتذب عناوين رئيسية كبيرة. وبدلاً من ذلك، يحتاج السياسي الطموح إلى التحدث بقوة والدعوة إلى إنشاء المزيد من السجون وأحكام أطول، متجاهلاً الزنازين المزدحمة بالفعل وشبكات الصرف الصحي المتهالكة.
انتقد أيضاً ستيوارت اختياره من جانب بوريس جونسون في وقت توليه وزارة الخارجية للعمل على ملف إفريقيا، إذ إن معظم سنوات خبرته كانت في آسيا والشرق الأوسط، وأوضح حجم التحديات التي واجهته نتيجة ذلك الاختيار غير الموفق من قبل جونسون، وكيفية تغلبه عليها.
مجرد شعارات:
صور ستيوارت النظام البريطاني بأنه كان أنانياً إلى أقصى الحدود، فقد تم خفض عدد كبير من كبار الموظفين المدنيين باعتبار ذلك وسيلة سهلة لخفض الإنفاق العام. وفي عهد توني بلير رئيس الوزراء الأسبق، تم استبدالهم بمستشارين خاصين أرخص من حديثي التخرج من الجامعات، والذين يتمتعون بأفكار ما بعد الحداثة ويتسلحون بمهارات تكنولوجيا المعلومات. وفي المقابل، ولمواجهة الجماهير اعتمد الوزراء بشكلٍ مفرط على خوارزميات السلوك العام؛ إذ صاغوا شعارات مثل "استعادة السيطرة" لتعظيم جاذبيتهم لدى الجماهير.
يرى ستيوارت أن الحكومات البريطانية اعتمدت الشعارات وترويج الأكاذيب، فقد كتب جونسون في صحيفة "التلغراف": "بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستستمر التجارة الحرة والوصول إلى السوق الموحدة". ووفقاً لجوف وجونسون، اللذين كتبا معاً في صحيفة "ذا صن"، فإن "الضرائب ستكون أقل والأجور ستكون أعلى". وهي الأمور التي لم تحدث مطلقاً.
ختاماً، يمكن القول إن كتاب ستيوارت، والذي طرح نظرة نقدية للسياسة البريطانية عبر وضع يده على مواطن الضعف والخلل قد أطلق جرس إنذار أمام الحكومات البريطانية القادمة في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإحداث التغيير المنشود.
المصدر:
Rory Stewart, Politics On The Edge: A Memoir from Within, (London, Jonathan Cape September 2023).