دخلت دولة الكويت مرحلة جديدة من العمل السياسى بعد القرارات التاريخية المهمة التى اتخذها صاحب السمو أمير البلاد، الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، مساء يوم الجمعة 10 مايو 2024، وتضمنت حل مجلس الأمة (البرلمان)، ووقف العمل ببعض مواد الدستور لمدة لا تزيد على أربع سنوات، ثم تشكيل حكومة جديدة برئاسة سمو الشيخ أحمد عبدالله الأحمد الصباح ستتولى إدارة المرحلة السياسية الجديدة تحت إشراف ورقابة الأمير مباشرة.
مضمون القرارات ودوافعها
تضمنت الكلمة المُتلفزة التى وجهها أمير الكويت لشعبه، مساء يوم 10 مايو الجارى، مجموعة من القرارات الحاسمة التى تعالج عصب المعضلة السياسية التى تعانيها الكويت منذ فترة ليست بالقصيرة، ومن أهمها: حل مجلس الأمة، وتجميد بعض مواد الدستور لمدة لا تزيد على أربع سنوات، وهذه المواد متعلقة بتنظيم اختصاصات مجلس الأمة، ولاسيما المواد 51 و65 (فقرة 2 و3)، و71 (فقرة 2) و79 و107 و174 و181 من الدستور الصادر فى 11 نوفمبر سنة 1962، وتولى الأمير ومجلس الوزراء الاختصاصات المخولة لمجلس الأمة بموجب الدستور. كما نصت هذه القرارات على أن تصدر القوانين بمراسيم أميرية، ويجوز - عند الضرورة - إصدارها بأوامر أميرية. فضلًا عن ذلك، أشار أمير الكويت إلى أنه سيقوم بإصدار مرسوم بتشكيل لجنة من ذوى الخبرة والرأى للنظر فى تنقيح الدستور، بحيث تنتهى من عملها خلال ستة أشهر من تاريخ تشكيلها.
كما تضمنت كلمة صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح توضيحًا للأسباب والمبررات التى دفعته للإقدام على هذه الخطوة، وعلى رأسها: تمادى بعض النواب فى التدخل فى صلاحيات الأمير وحقوقه الدستورية، ومن ذلك حقه فى اختيار ولى العهد وتشكيل الحكومة، ومحاولة فرض إملاءات وشروط من قِبل بعض النواب للمشاركة فى الحكومة، مما منع تشكيلها، والتسبب فى شلل الحياة النيابية وعدم قدرة مجلس الأمة على إنجاز أعماله. علاوة على انتشار الفساد الذى وصل إلى أغلب مرافق الدولة وحتى المؤسسات الأمنية والاقتصادية، بل وصل، بحسب الأمير، إلى مرفق العدالة الذى هو ملاذ الناس لصون حقوقهم وحرياتهم. وأكد أمير الكويت، بصورة حاسمة، أنه لن يسمح على الإطلاق بأن تستغل الديمقراطية لتحطيم الدولة، لأن مصالح أهل الكويت فوق الجميع.
وفى واقع الأمر، فإن هذه المبررات التى استند إليها أمير الكويت، لها ما يدعمها من مؤشرات وحقائق على أرض الواقع، ومن ذلك ما يلى:
1- تسببت ممارسات بعض أعضاء مجلس الأمة فى خلق حالة من التوتر المستمر بين المجلس والحكومات المتعاقبة، والتى أدت إلى قصر عمر الحكومات، وكذلك البرلمانات، وهو مؤشر على عدم الاستقرار السياسى فى البلاد، ولا يسمح للحكومات بتنفيذ سياساتها المرسومة لخدمة الوطن والمواطن. فخلال العقود الأربعة الماضية، اضطر أمير الكويت إلى حل مجلس الأمة 12 مرة، أولاها عام 1976، وآخرها فى منتصف فبراير 2024، وهذه هى المرة الـ13 لحل المجلس. فيما شهدت مسيرة الحياة السياسية فى الكويت تشكيل 46 حكومة على مدار نحو 62 عامًا، بدأت أولاها فى يناير 1962، وآخرها التشكيل الحالى فى مايو 2024، أى أن متوسط عمر الحكومة أقل من سنتين.
لقد أفرط مجلس الأمة فى استخدام أداة الاستجواب والتهديد بها فى مواجهة وزراء الحكومة، بينما عزف النواب عن المشاركة فى الحكومات التى أصبحت مؤقتة وتحت رحمة البرلمان، ما خلق مناخًا سياسيًا غير مستقر، أوجد حالة من اللايقين فى العمل الحكومى، وجعل الوزراء غير قادرين على تنفيذ سياسات الحكومة كل فى مجاله. ومن هنا كان التدخل الأميرى الأخير بهدف وضع حد لهذا التأزم السياسى المزمن.
2- هذا التوتر السياسى بين مجلس الأمة والحكومات المتعاقبة أثّر بالسلب فى التجربة التنموية الكويتية، وعرقل الكثير من المشروعات التنموية المهمة، ما جعل الكويت بإمكاناتها الضخمة بعيدة عن المستوى التنموى الذى شهدته دول الخليج. ويُحمّل الكثير من أبناء الكويت مجلس الأمة مسؤولية تعطل مصالح البلاد المالية والاقتصادية، من خلال تعطيل المصادقة على مشروعات القوانين المقدمة من الحكومات المتعاقبة، والتى تهدف إلى تنفيذ إصلاحات تضع الكويت على درب تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد فقط على عائدات النفط.
فعلى سبيل المثال، أسهم موقف بعض أعضاء البرلمان فى تعطيل تشريع لإصلاح الدعم للحد من مستويات الإنفاق العام المرتفعة. ولم تتمكن الكويت منذ عام 2017 من إصدار سندات ديون، لأنها لم تصدر قانونًا محدثًا للديون العامة. وأشار تقرير صدر فى 9 مايو الجارى، إثر زيارة خبراء صندوق النقد الدولى، إلى أن الجمود السياسى فى الكويت أعاق جهود الإصلاح الاقتصادى والتنويع، محذرًا من أن تأخير الإصلاح المستمر قد يقوض ثقة المستثمرين.
3- كان لممارسات بعض أعضاء مجلس الأمة دورها أيضًا فى عرقلة قيام الحكومات بدورها فى مواجهة الفساد، بشكل جعل الكويت تأتى فى المرتبة الـ63 عالميًا من إجمالى 180 فى مؤشر مدركات الفساد العالمى 2023، والذى أصدرته منظمة الشفافية الدولية. ومن هنا كان التأكيد الواضح من قِبل أمير الكويت بأنه لا أحد فوق القانون، وأن من نال من المال العام من دون وجه حق سوف ينال عقابه، أيًا كان موقعه أو صفته.
مرحلة جديدة
فى أول تحرك أميرى عقب حل مجلس الأمة وتعليق أعماله لأربع سنوات، أصدر صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، يوم 12 مايو الجارى، مرسومًا بتشكيل تاسع حكومة فى البلاد خلال أربع سنوات، والثانية فى عهده منذ تسلم السلطة فى ديسمبر الماضى. وتضم الحكومة الجديدة، التى تُعد الحكومة رقم 46 فى تاريخ الكويت، 13 وزيرًا، ويرأسها سمو الشيخ أحمد عبدالله الأحمد الصباح. وبالنظر إلى طبيعة تشكيلة هذه الحكومة، يُلاحظ أنها ضمت تسعة وزراء من الحكومة السابقة، وأربعة وزراء جدد، بينهم امرأة هى أمثال هادى الحويلة، وزيرة للشؤون الاجتماعية والعمل وشؤون الأسرة والطفولة والشباب، لتضم بذلك الحكومة وزيرتين، مع احتفاظ نورة المشعان بحقيبة الأشغال العامة والبلدية.
وخلال كلمة وجهها للحكومة الجديدة عقب أداء اليمين الدستورية أمامه يوم 15 مايو الجارى، وضع أمير الكويت خريطة طريق للمرحلة المقبلة، داخليًا وخارجيًا، والتى ستسير عليها هذه الحكومة. فعلى المستوى الداخلى، طالب الأمير الحكومة بتحديد أولوياتها ووضعها وفق خطة عمل وجدول زمنى محددين، مع التركيز على «متابعة الميدان بجولات تفقدية مستمرة». كما وجه الوزراء بالإسراع فى تنفيذ مشروعات استراتيجية تنموية ومعالجة ملفات البنية التحتية، وتطوير الرعاية الصحية والسكنية والتعليم، مع مراعاة «الشفافية والمحافظة على المال العام». كما طالبهم بتطوير القطاعات الاقتصادية والاستثمارية كافة، وصولًا إلى اقتصاد مستدام واستثمار الثروة البشرية، وكذلك تعزيز الابتكار والبحث العلمى، وتحسين بيئة الأعمال والخدمات الحكومية، والتحول الرقمى فى الخدمات المقدمة منها.
وعلى المستوى الخارجى، شدد أمير الكويت على أهمية العمل على الملفات التى من شأنها تعزيز أواصر العلاقات الدبلوماسية مع الدول الشقيقة والصديقة، وترسيخ الدور الإنسانى للبلاد.
ومن خلال هذه التوجيهات الواضحة والمباشرة، يتبين أن الاهتمام الأكبر لأمير الكويت والحكومة الحالية سيتركز على تنشيط الجانب الاقتصادى، بهدف دفع مسيرة التنمية فى البلاد، ولاسيما بعد أن سجل النمو الاقتصادى نموًا سلبيًا (انكماش) بنسبة 0.6% عام 2023، مع توقع صندوق النقد الدولى انكماش الاقتصاد الكويتى بنسبة 1.4% خلال عام 2024، نتيجة انخفاض إنتاج النفط بنسبة 4.3% بسبب خفض حصص الإنتاج من جانب «أوبك بلس».
ومع تحرر الحكومة الكويتية الحالية من القيود التى يفرضها مجلس الأمة، وامتلاكها حق وضع وتنفيذ سياساتها الاقتصادية، فإن التفاؤل سيكون أكبر باتجاه البلاد نحو النمو الاقتصادى وتحسين مستويات المعيشة للمواطنين كافة، والانتقال إلى مرحلة أكثر استدامة، مع تقليل الاعتماد على النفط والتقلبات المرتبطة بأسعاره.
وعلى المستوى السياسى، سيكون المشهد أكثر استقرارًا وتناغمًا، فى ظل الدعم الشعبى لقرارات أمير الكويت، وفى ظل توجه البلاد إلى مراجعة اختصاصات مجلس الأمة ودوره فى العملية السياسية بالشكل الذى يسمح له بالقيام بدوره الرقابى والتشريعى وعلى نحو يخدم المصالح العليا للبلاد، ما يمهد لمرحلة سياسية جديدة فى مستقبل الكويت الحديث.
* كاتبة إماراتية