يرى باحثون أن تنظيم "داعش" في نسخته الأفريقية يحاول كسب الوقت والولاءات، حيث لا تحظى هيمنته وأخبار صعوده وانتشاره بأهمية كبيرة في وسائل الإعلام، لذلك ينشط في بناء مجتمعات محلية وحواضن شعبية لدى طبقة الشباب الغاضب على الحكومات الوطنية، ومنحهم فرصة ممارسة السلطة وتغيير الواقع عبر الانخراط في التنظيم والتدرج السريع جداً في مناصبه القتالية، وذلك بحسب جهد كل منهم وبحسب عنفه، حسبما يقول الباحث في شؤون الحركات الدينية، يوسف الديني.
وفي سياق تمدّد "داعش" في أفريقيا، قال رئيس موزمبيق، فيليب نيوسي، في 10 مايو 2024، إن جيش بلاده يقاتل الجماعات المسلحة التي شنت هجوماً كبيراً على بلدة ماكوميا الشمالية الغنية بالغاز، وهو ما يُعيد للأذهان سيطرة تنظيم داعش في 2021 على مدينة بالما الغنية بالغاز في موزمبيق، ويأتي ذلك في ظل شن تنظيم داعش موجة جديدة مُتصاعدة من العمليات الإرهابية في عدد من المناطق المختلفة في موزمبيق، وهو ما يطرح التساؤل حول دلالات وتداعيات هذا التصعيد على المشهد السياسي والأمني في البلاد.
يعود تنظيم داعش في موزمبيق إلى الظهور من جديد بعد تعديل نهجه في مختلف أنحاء البلاد، ومن أبرز مؤشرات عودة التنظيم ما يلي، بحسب تحليل لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة:
1- تزايد حجم وعدد العمليات الإرهابية: تبنى التنظيم في موزمبيق بشكل رسمي –وفقاً لصحيفة النبأ- ما يزيد عن 35 هجوماً في مناطق مُختلفة من موزمبيق، وكان شهر فبراير هو الأكثر دموية؛ إذ تبنى التنظيم فيه أكثر من 21 هجوماً إرهابياً، فيما بدأ حجم العمليات المُتبناة بالتراجع مع استمرار نشاط التنظيم خلال الشهر الشهريْن الماضييْن، وعاد مرة أخرى بشكل متزايد في مايو 2024، فقد تبنى التنظيم في الأيام العشرة الأولى من مايو 7 هجمات إرهابية، وهو نفس العدد الذي تبناه طوال شهر أبريل، وهو ما يرجح أن يتزايد معدل هجمات التنظيم خلال الأسابيع المتبقية من مايو 2024.
2- تنوع شبكة الأهداف التي يركز عليها التنظيم: بحسب العمليات التي تبناها التنظيم منذ يناير 2024، يظهر تركيز داعش على الأهداف الرخوة؛ إذ جاءت معظم هجمات التنظيم ضد الكنائس والقرى المسيحية، متعمداً إحراق الكنائس ومنازل المسيحيين، واختطاف وقتل بعض السكان المدنيين، فيما يركز بشكل أقل على استهداف عناصر الشرطة والجيش الموزمبيقي، بالإضافة إلى استهداف القوات الإقليمية المعاونة للجيش الموزمبيقي "سادك".
3- التركيز على مقاطعة كابو ديلغادو: يتركز نشاط داعش بشكل أساسي في موزمبيق في مقاطعة كابو ديلغادو، الواقعة في أقصى شمال موزمبيق، والتي تبلغ مساحتها 82.625 كيلومتراً مربعاً ويبلغ عدد سكانها 2.320.261 نسمة. فضلاً عن حدودها مع منطقة متوارا، في دولة تنزانيا المجاورة، فهي تجاور مقاطعتي نامبولا ونياسا، وتمثل كابو ديلغادو معقل التنظيم ومركز هجماته الرئيسية؛ إذ ينفذ هجمات في القرى والمدن الواقعة لها مثل: (شيور، أنكواب، نامبولا، ماكوميا، إرات، بيمبا، ميكوفي...) وتُعد منطقتا شيور وماكومبا، الأكثر تأثراً بهجمات التنظيم.
4- تنويع التحركات في موزمبيق: لم تقتصر مؤشرات تصاعد نشاط داعش في موزمبيق على تنفيذ عمليات إرهابية فقط، ولكن يبدو أن التنظيم يسعى إلى تنويع تحركاته من خلال الأنشطة الدعوية في مناطق شمال البلاد مع التركيز على فئات الشباب والأطفال؛ إذ نشر التنظيم في 30 إبريل الماضي، تقريراً مصوراً لما أسماه "جانب من النشاط الدعوي للتنظيم" يظهر تجمع عدد من الأطفال يتلقون دروساً على أيدي عناصر التنظيم.
وبحسب مركز المستقبل، فقد مرّ "داعش" بتحولات رئيسية، يجملها فيما يأتي:
1- حركة أصولية مُتشددة: تعود أصول التنظيم إلى حركة "أهل السنة والجماعة" في موزمبيق والمعروفة أيضاً باسم "حركة الشباب"، كحركة أصولية متشددة، عملت في جميع أنحاء مقاطعة كابو ديلغادو، منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت موسيمبوا دا برايا، هي مركز انتشار التنظيم، كما نفذ بعض العمليات في بالاما وتشيوري في الجنوب الغربي والجنوب، وماكوميا على الساحل، ونانغادي في شمال المقاطعة، ومقاطعة نياسا إلى الغرب.
2- الانضمام لداعش: في عام 2017، تحالفت حركة أهل السنة والجماعة بقيادة أبو ياسر حسن، مع تنظيم "قوات الديمقراطية المتحالفة ADF"، والذي ينشط بدوره في الكونغو، لتكوين ما سُمي "ولاية وسط أفريقياISCAP " الذي أعلن بيعته لزعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، وفي 10 مارس 2021، صنّفت وزارة الخارجية الأمريكية الفصيلين في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق على أنهما تابعان لتنظيم الدولة الإسلامية، وأدرجتهما على قوائم الإرهاب، وخلال تلك الفترة أفادت تقديرات متعددة بأن فرع تنظيم داعش في وسط أفريقيا تلقى الدعم والتمويل من قبل "مكتب القرار" التابع لداعش في الصومال من خلال وكلاء في كينيا وتنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا.
3- مهاجمة المنشآت المدنية: نشط التنظيم، خلال الفترة من 2019 وحتى منتصف 2022، في مقاطعة كابو ديلغادو؛ إذ ركز على استهدف المراكز الحضرية بشكل واضح، وكذا القرى التي توجد بها الكنائس والمسيحيون، وسيطر على بلدة موسيمبوا دا برايا. وهدد التنظيم مشروع الغاز الطبيعي المسال في بالما. وتركز نشاطه في مناطق (أنكوابي، ميتوغ، ماكوميا، موكيمبوا دا برايا، بالما، نانغادي، بيمبا، مويدومبي، كويسانغا)، كما حاول التنظيم السيطرة على عدد من الطرق الرئيسية، وهاجم مؤسسات الدولة مثل: مراكز الشرطة والمراكز الصحية والمدارس.
4- تنظيم ولاية موزمبيق: شكل هجوم المتمردين على مدينة بالما، في 24 مارس 2021، تهديداً حقيقياً لمشروع الغاز الطبيعي المسال، وعجل بالتدخل من كل من مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي ورواندا، في يوليو 2021، وفي مايو من ذات العام، شهد التنظيم تحولاً نوعياً؛ إذ انفصل التنظيم عن "ولاية وسط أفريقيا" وتم الإعلان لأول مرة عن تنظيم "ولاية موزمبيق"، وعمل التنظيم منذ 2022 وحتى اللحظة على التكيف مع عمليات مكافحة الإرهاب، وتحول إلى نمط أكثر مرونة، وهو التحول إلى خلايا صغيرة، كما فقد التنظيم بعض قادته مثل: أبو ياسر حسن، وبونومادي ماتشودي عمر، خلال عام 2023، كما تُشير بعض التقديرات إلى تراجع عدد مقاتلي التنظيم إلى 300 مقاتل ينشطون على طول الساحل وفي غابة كاتوبا، في منطقة ماكوميا، والمناطق المجاورة في مقاطعتي موسيمبوا دا برايا ومويدومبي.
ويمكن فهم وتفسير أسباب استمرار وعودة تكثيف نشاط تنظيم "ولاية موزمبيق" رغم الجهود الإقليمية والوطنية في ظل عدد من السياقات التالية:
1- تمدد انتشار داعش: تمددت خريطة انتشار تنظيم داعش بشكل عام منذ عام 2024، خاصة منذ يناير 2024، وفي أعقاب خطاب المتحدث باسم التنظيم، أبو حذيفة الأنصاري؛ إذ أعاد التنظيم تكثيف عملياته في مناطق الشرق الأوسط، ومنطقة الساحل، وغرب أفريقيا خاصة نيجيريا، وكذا جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى وسط وشرق أفريقيا مثل: موزمبيق والصومال.
2- التأثر بعدوى الفراشة: تأثر نشاط التنظيم بأثر الفراشة (العدوى) في أفريقيا؛ إذ بات التنظيم أكثر انتشاراً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموزمبيق والكونغو والصومال ونيجيريا، وهو يسعى إلى استغلال بعض السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في القارة الأفريقية، وتعزيز مسارات وشبكات الجريمة المنظمة وعمليات التهريب، مستغلاً بذلك حالة الاستقطاب والتنافس الدولي ليس في أفريقيا فقط ولكن على الساحة الدولية أيضاً.
3- الاستفادة من الفراغات الأمنية: يسعى التنظيم إلى الاستفادة من الفراغات الأمنية التي قد يتركها انسحاب قوات مجموعة التنمية لجنوب أفريقيا "ساداك"، وقوات رواندا المشاركة في مكافحة معاقل التنظيم، وذلك على غرار استفادة التنظيم من انسحاب كل من بعثات الأمم المتحدة، وقوة برخان الفرنسية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا؛ إذ أتاح ذلك للتنظيم حرية انتشار أوسع وإعادة هيكلة عناصره في تلك المناطق؛ وهو الأمر ذاته الذي قد يفعله التنظيم في الصومال مع اقتراب خروج القوات الأفريقية المعنية بمكافحة نشاط حركة الشباب في الصومال.
الكاتب السعودي يوسف الديني: "داعش" في نسخته الأفريقية يحاول كسب الوقت والولاءات، حيث لا تحظى هيمنته وأخبار صعوده وانتشاره بأهمية إعلامية كبيرة
4- الاعتماد على الطائفية: يهدف استهداف التنظيم للكنائس والمدن التي يسكنها المسيحيون إلى تحقيق دعاية أكثر انتشاراً وتجنيد عناصر جديدة من خلال الاعتماد على الطائفية، كما أن تلك العمليات ستدفع الحكومة والقوات المساندة لها لتركيز جهودها على حماية الكنائس والمدنيين؛ وهو ما يعني سحب قوات للحماية من بعض المناطق؛ ومن ثم قد يخلق ذلك بعض الفراغات الأمنية في المناطق الغنية بالغاز؛ ومن ثم مهاجمتها؛ وهو نفس الأسلوب الذي سيطر به التنظيم على مدينة بالما، في 2021.
5- محدودية النشاط: بالرغم من عودة نشاط التنظيم، فإن حجم عملياته ما زال محدوداً مقارنة بنشاط التنظيم خلال الفترة من 2019 وحتى 2022؛ إذ يعاني التنظيم من خلل هيكلي في قدراته التنظيمية والتخطيطية والتسليحية؛ إذ تظهر العمليات التي تبناها التنظيم خلال 2024 اعتماده على أسلحة خفيفة وعمليات قتل عشوائي.
وجدير بالذكر أن نشاط تنظيم داعش في موزمبيق تنامى بعودة نشاط فرع التنظيم في الصومال؛ إذ يقوم الأخير بعمليات التخطيط الاستراتيجي وعمليات التوجيه والتمويل للفروع المجاورة. كما يرتبط نشاط التنظيم في موزمبيق أيضاً برغبته في الاستحواذ على مناطق الغاز والتمدد نحو الساحل؛ إذ قد يوفران مصادر تمويل ضخمة للتنظيم، من خلال عمليات التهريب والقرصنة البحرية.
الغاز يفتح شهية "داعش"
وبالرغم من أهمية عدم المبالغة بحجم تهديدات عودة داعش في موزمبيق، فإن هناك حاجة للحذر من تزايد مخاطر تمكن التنظيم من النفاذ إلى البحر وحصوله على مصادر تمويلية جديدة وانتقاله إلى عمليات القرصنة، وكذا تهديده لمشروعات استخراج الغاز الطبيعي المسال، كما أن هناك حاجة لإعادة تقييم مخاطر محتملة لتأثير نشاط التنظيم في الأمن بدول الجوار، ولاسيما تنزانيا حيث يتمركز التنظيم في المناطق الحدودية المجاورة لها.
ويعتقد الكاتب يوسف الديني، في مقاله المنشور في "الشرق الأوسط" بأنه لم تكن موزمبيق البلد مضرب المثل في استبعاد وقوع الشيء ببعيدة عن الحالة الخطرة التي تعيشها قارة أفريقيا في ظل التجاهل، فإقليم كابو ديلجادو، ومقاطعات ماكوميا وتشاي أوركري وميكووكلها تقع شمال البلاد، وتوصف بالغنية بالنفط والغاز باتت الآن تحظى بحضور طاغٍ للتنظيم ومعلن بعد تراجع حملات مكافحته من قبل قوات راوندا، وهي الآن تحت إمرة أبو حذيفة الأنصاري الذي ابتهج برحيل الراونديين على اعتبار أنها البداية للسيطرة على المنطقة، وهو ما أصفه عادة بحالة الفرز أو مرحلة تجريف المجتمعات المحلية المنهجية المحببة لـ«تنظيم داعش»، مثل هروب الأهالي من المدنيين نحو مناطق أخرى، وبقاء التكتلات وأغلبها من الشباب لبناء معسكرات قتالية، وخوض تجربة مغامرة عيش وَهم الدولة / الولاية التي ستغير العالم، وبدء أعمال الحسبة لكسب المناصرين، التي تبدأ عادة باستهداف المعالم الدينية والحكومية، وسرقة مقدرات الدولة، وكل هذه العمليات تتم من قِبل عناصر هم دون الألف تقريباً بداخل موزمبيق.