أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

حراك الجامعات الغربية.. أثر محدود أم بداية لتغيير أوسع؟

29 مايو، 2024


طوفان الجامعات الغربية، هو المسمى الذي اصطلحت وسائل التواصل الاجتماعي على إطلاقه على الحراك الجامعي المتضامن مع غزة في الجامعات الأمريكية والأوروبية. ورغم أن بعض مطالب هذا الحراك كانت موجودة بالفعل قبل سنوات، وهناك العديد من الحركات التي أسست لهذا الغرض؛ فإن الحراك لفت الانتباه مؤخراً، من حيث انتشاره في الجامعات الأمريكية النخبوية، والمعروفة برابطة اللبلاب، ثم امتداده إلى جامعات أمريكية أخرى، وفي العديد من دول العالم خاصة في أوروبا الغربية واليابان.

وبتصاعد الأحداث في الشهرين الأخيرين، تحول الحراك من التظاهر ومسيرات التضامن ورفع اللافتات، إلى إقامة الخيم والاعتصام، و"الاستيلاء" على بعض الأبنية الجامعية. كما اتخذ الحراك منحى جديداً بالتدخلات الأمنية لإجلاء المعتصمين، واستدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي، والتعامل العقابي مع الطلبة وأعضاء هيئة التدريس المشاركين في مظاهر الاحتجاج، بدءاً بحالة جامعة كولومبيا الشهيرة، سواء بالفصل أم بالاحتجاز.

حراك استثنائي:

برغم عدم وجود إحصاءات موثقة حول حجم الظاهرة، تشير الإحصاءات المتداولة صحفياً إلى أنه تم القبض على أكثر من 2800 شخص على خلفية أعمال التظاهر التضامني في الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية في الشهر الأخير.

ورغم صعوبة تقدير الحجم الدقيق للحركة الاحتجاجية من حيث عدد المشاركين، ودرجة الانتشار؛ فإن بدايتها في الجامعات النخبوية الأمريكية ذات السمعة والتأثير، وامتدادها داخل وخارج الولايات المتحدة، وتداعياتها سواء داخل الجامعات أم على الخطاب السياسي في قمة مستويات السلطة، بل والتعامل الأمني معها وأعداد من تم القبض عليهم، تشي جميعها بمدى أهمية الحراك من حيث حجمه، وتأثيره، وتوقعات استمراره.

فبخلاف أحداث جامعة كولومبيا التي حظيت بتغطية واهتمام كبير، فقد شهدت جامعات أمريكية وأوروبية كثيرة أيضاً مظاهر للحراك توصف بأنها الأكبر منذ الحراك ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في الثمانينيات. فعلى سبيل المثال، شهدت جامعة ييل الأمريكية، إضراباً لبعض المحتجين لمدة ثمانية أيام عن الطعام، وإقامة خيم للاعتصام، والقبض على عدد من الطلاب، وذلك عقب قرار الجامعة في 17 إبريل برفض سحب استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة. 

كذلك، وقع أكثر من ألفين من خريجي جامعة ييل، وعائلات الطلبة والخريجين التماساً مفاده توقفهم عن تقديم التبرعات وصور الدعم المختلفة للجامعة حتى تسحب استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة، وذلك بالتوازي مع ما يقرب من 3 آلاف خطاب وُجهت للجامعة ذاتها على مدار الشهور الماضية تطالب بنفس المطلب.

ومع نهاية الفصل الدراسي وبدء موسم التخرج، تحولت حفلات التخرج في العديد من الجامعات الأمريكية إلى احتجاجات رمزية ومظاهر للتضامن مع غزة. وتحفل قنوات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي بصور وأخبار عن رفع الطلبة للعلم الفلسطيني أو اللافتات المناهضة للحرب أثناء حفلات التخرج، أو الانسحاب من قاعات الاحتفال تعبيراً عن الغضب من مشاركة شخصيات مؤيدة للحرب الإسرائيلية، أو مقاطعة الاحتفالات الرئيسية وإقامة احتفالات موازية. أما عن جامعة كولومبيا، بؤرة الأحداث، فقد تخلت عن احتفالات التخرج المجمعة التقليدية، واستعاضت عنها بمراسم مجزأة لكل كلية أو تخصص على حدة، ما يشير إلى امتداد تأثير الحراك وعدم تأثره بانتهاء العام الدراسي الجامعي.

ما بين التلقائية والتنظيم: 

يتسم الحراك الطلابي بالتلقائية في العديد من الجامعات خاصة الأوروبية، إلا أن بعض الجمعيات والحركات الطلابية المطالبة بالحقوق الفلسطينية أدت دوراً في التنظيم، وفي تأطير المطالب، والبناء على خبراتها السابقة وقدراتها على التشبيك، وإدارة الحملات، ورفع الوعي، وبناء الائتلافات عبر الروابط الطلابية المطالبة بقضايا ذات صلة، وبين الحراك الداعم للقضية الفلسطينية. ومن هذه المنظمات أو الكيانات، طلاب من أجل العدالة في فلسطين، والتي نشأت في جامعة بركلي بكاليفورنيا ثم أصبح لها أكثر من 200 فرع في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، فضلاً عن تأثيرها خارج الولايات المتحدة، وإن لم يكن بشكل تنظيمي مباشر. 

كما أدت حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي أس" أيضاً دوراً مهماً في السردية الحاكمة للمطالب، والحراك الطلابي، خاصة فيما يخص مطالب سحب الاستثمارات والمقاطعة الأكاديمية. ويبرز أيضاً الحديث عن دور لمنظمة أصوات يهودية من أجل السلام خاصة في الجامعات الأمريكية.

بالإضافة للكيانات المعروفة أو القائمة بالفعل، نشأت العديد من الحركات المؤقتة أو الروابط والائتلافات التي تجمع حركات قائمة تشترك فيما بينها بالمطالب العدالية، أو المطالبة بمزيد من الحريات والشفافية في الإطار الجامعي، وحماية حق الطلبة في التعبير.

سحب الاستثمارات والمقاطعة الأكاديمية:

برغم أن الحراك في الكثير من أبعاده يظل تلقائياً، فقد توافقت المطالب في معظم الجامعات، والتقت في عدد من المحاور بعضها يُعبر عن موقف عام مناهض للحرب وآثارها الإنسانية، ويطالب بالوقف الفوري لها، وبعضها موجه للسياسات الجامعية خاصة فيما يتعلق باستثماراتها ذات الصلة بالشركات الإسرائيلية المستفيدة من الحرب، والعاملة في مجال تكنولوجيا التسليح والمراقبة على وجه خاص. 

وفي هذا السياق، يطالب الحراك الطلابي بالشفافية الكاملة فيما يتعلق باستثمار أموال الجامعات ووقفياتها في شركات إسرائيلية أو تعمل في إسرائيل، أو تتربح من الحرب الحالية، وإعلان الملف الاستثماري للجامعات، خاصة في الشركات ذات الصلة بإسرائيل أو التي تعمل في المستوطنات والأراضي المحتلة أو ذات الصلة بالتسليح كما سبقت الإشارة، والتحديث المستمر لهذه البيانات، وجعلها متاحة للطلبة وما يُعبر عنهم من كيانات وجمعيات طلابية. وتصب معظم المطالب في هذا المحور حول تعزيز مبادئ "الاستثمار الأخلاقي" لأموال الجامعات، وتعزيز شفافية الأنشطة المالية للمؤسسات التعليمية.

أما المطلب الثاني فهو المقاطعة الثقافية والأكاديمية للجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية؛ إذ يطالب الحراك الطلابي بقطع الشراكات الأكاديمية المتنوعة والعميقة بين جامعاتهم والمؤسسات التعليمية والبحثية الإسرائيلية، على خلفية الصلات العضوية بين الأخيرة ودولة إسرائيل منذ نشأتها؛ بحيث تعمل تلك المؤسسات ذات الطابع العلمي ظاهرياً، كرأس حربة للسياسات الإسرائيلية بشكل يدحض حجة حيادها الأكاديمي. 

وتتمحور دوافع المقاطعة الأكاديمية حول قيام الجامعات الإسرائيلية بتوفير البروباغندا، والحماية القانونية، والدعم المعنوي واللوجستي والعسكري للسياسات الحكومية، ودعم سياسات الاحتلال العسكري الاستيطاني، ونظامها للفصل العنصري، سواء تاريخياً أم منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة.

وقد عبرت مايا ويند (ناشطة السلام وباحثة الأنثروبولوجيا الإسرائيلية) في كتابها (أبراج العاج والفولاذ: كيف تمنع جامعات إسرائيل الحرية الفلسطينية؟) عن الرابطة العضوية بين المؤسسات الأكاديمية والحركة الصهيونية من قبل تأسيس دولة إسرائيل، واستفاضت في دور جامعات ومراكز بحثية بعينها في هذا السياق، والتي ما زال بعضها محلاً للحراك الطلابي الغاضب. 

كذلك يطالب الحراك الطلابي الجامعات باتخاذ مواقف على الصعيد العام من الصراع، وليس فيما يتعلق بسياسات داخلية فحسب، ومنها إعلان مواقف صريحة تنادي بوقف إطلاق النار، ودعم الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك إصدار البيانات والمواقف التي تدعم مبادرات السلام الدولية.

وبالإضافة إلى المطالب السياسية، طالبت روابط الطلاب من أصول عربية في بعض الجامعات بمزيد من الاهتمام بالدراسات العربية والشرق أوسطية، وإنشاء مراكز ثقافية عربية بالجامعات، وقبول عدد من الطلاب الفلسطينيين المهجرين للدراسة بتلك الجامعات، فضلاً عن النظر في الشراكة مع جامعات فلسطينية.

حدود الأثر:

على صعيد السياسات الجامعية، تنوعت استجابة الجامعات للضغط الطلابي، فمنها ما استدعى قوات الأمن (وهو ما كان أكثر وضوحاً وتكراراً في الجامعات الأمريكية وإن حدث أيضاً في حالات أوروبية عديدة)، ومنها ما انخرط في مفاوضات مع ممثلي الطلبة من أجل الإنهاء الطوعي للاحتجاجات والاعتصامات، ومنها ما استجاب جزئياً أو وعد بعملية ممتدة للنظر في المطالب. 

وجدير بالذكر أن جامعة جنت البلجيكية استجابت للاحتجاجات الطلابية التي شهدتها، وقامت بقطع صلاتها بمؤسسات بحثية إسرائيلية، منها معهد حولون للتكنولوجيا، ومعهد ميجال الجليل للأبحاث، ومركز فولكاني العامل في مجال البحوث الزراعية، مبررة ذلك بأن تلك المؤسسات لم تعد تتماشى مع مبادئ الجامعة لحقوق الإنسان، خاصة في ضوء علاقة تلك المؤسسات بالوزارات الإسرائيلية. وفي إسبانيا، قامت 76 جامعة (منها 50 جامعة عامة و26 جامعة خاصة) بقطع روابطها مع جامعات إسرائيلية؛ إذ أعلنت رابطة رؤساء الجامعات في إسبانيا تعليق التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية المتورطة في الحرب على غزة، أو تلك التي لم تظهر التزاماً واضحاً بالسلام وبمبادئ القانون الدولي الإنساني.

وتجدر الإشارة إلى أن الاستجابة الكاملة لمطالب الحراك الطلابي تكتنفها تعقيدات عقود من التشابك والمصالح المشتركة مع كيانات إسرائيلية؛ إذ فتح الحراك الأخير ملفاً مهماً حول طبيعة وعمق الروابط المالية والتنظيمية والأكاديمية بين الجامعات الغربية والجامعات والشركات الإسرائيلية من ناحية، والصلات العضوية بين تلك الأخيرة والسياسات الحكومية الإسرائيلية، بما فيها سياسات الاستيطان والتسلح من ناحية أخرى. 

تمر الروابط بين المؤسسات التعليمية الغربية والإسرائيلية عبر عدة قنوات منها ما يتسم بالوضوح، ومنها ما يصعب تتبعه. فبخلاف مسألة الاستثمارات المالية المباشرة، هناك صور أخرى، منها تلقي الجامعات لمنح وتمويلات بحثية من إسرائيل، خاصة الجامعات ذات أفرع الدراسات التكنولوجية المتقدمة، وذلك لإجراء أبحاث تتعلق بتكنولوجيا الأسلحة. ومن أبرز مجالات التعاون البحثي الإسرائيلي/الغربي تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وأمن الفضاء، والصواريخ الدفاعية، فضلاً عن التعاون التكنولوجي في مجالات التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج (المدني والعسكري). 

أما على الصعيد السياسي، فقد تحول الحراك الطلابي إلى قضية انتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ضوء ما يعكسه من اختلاف نظرة الأجيال الشابة لدولة إسرائيل وتحررها من نظرة المظلومية التي سيطرت على مواقف أجيال الآباء، مع تزايد الوعي بمعاناة الشعب الفلسطيني خاصة في ظل عولمة الاتصال، ونقل الصورة والخبر والقصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وتشير استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى فجوة جيلية في الموقف من إسرائيل؛ إذ تُعد الأجيال الشابة أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية. وقد ازدادت هذه الفجوة وضوحاً وتأثيراً في ظل الحرب الجارية التي تشنها إسرائيل منذ شهور، وتشير استطلاعات الرأي، ومنها استطلاع نيويورك تايمز/سيينا، في ديسمبر الماضي، إلى أن الشباب أكثر ميلاً لتصنيف ما يحدث في غزة باعتباره إبادة عرقية. كذلك يرتبط تراجع تأييد الرئيس الأمريكي، بايدن، وتراجع الرضا عن سياساته خاصة في أوساط الشباب بالقضية ذاتها، ما دعاه إلى بعض التصريحات والمواقف التي تستهدف استرضاء هذه الشريحة، وتلافي عقابها الانتخابي، ومن ذلك خطابه الأخير في كلية مورهاوس معقل الحركة المدنية الأمريكية.

أما فيما يخص التداعيات طويلة المدى وإمكانية حدوث تغييرات جذرية في السياسات الغربية تجاه القضية الفلسطينية، أسوة بنماذج تاريخية للحراك الطلابي، فما زال هناك شوط طويل، والتأثيرات تعتمد على توسع وتعمق الحراك، وتأثيره خارج حدود الجامعات، وعلى الرأي العام بما يشكل كتلة حرجة تستدعي استجابات سياسية ومؤسسية أعمق، ومراجعات أشمل.