من المحتمل أن تشكل الانتخابات الوطنية التي ستشهدها جنوب إفريقيا في 29 مايو 2024 نقطة تحول كبرى في تاريخ البلاد منذ نهاية الفصل العنصري. وقد يرتبط ذلك في أحد جوانبه بأنها تصادف الذكرى الثلاثين لأول انتخابات تُجرى بعد سقوط نظام الفصل العنصري التشريعي عام 1994. ومن المتوقع أن تكون الانتخابات الوطنية هذا العام الأكثر تنافسية منذ تولي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحكم عام 1994. ويواجه الحزب تحديات متعددة في سعيه للاحتفاظ بالأغلبية في الجمعية الوطنية، وتأمين فترة ولاية أخرى للرئيس سيريل رامافوزا، وهناك احتمال قوي بأن تكون هناك حاجة إلى تشكيل ائتلاف من الأحزاب لحكم البلاد.
لقد بات واضحاً أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد فقد كثيراً من تأييد قاعدته الانتخابية؛ بسبب الانقسامات الداخلية، وفضائح الفساد، وفشل الحزب في الوفاء بشكل كامل بوعوده بحياة أفضل؛ إذ بعد 30 عاماً من قيادته للحكومة، لا تزال البلاد تعاني من مشكلات اقتصادية، بما في ذلك معدلات البطالة المرتفعة، وعدم كفاية إمدادات الكهرباء ومشكلات أخرى في تقديم الخدمات، والتفاوت العام بين مختلف طبقات السكان في جنوب إفريقيا. علاوة على ذلك، أصبحت قدرة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على الاحتفاظ بوضعه كحزب حاكم مهددة مؤخراً بسبب تزايد شعبية الأحزاب المنافسة الأخرى.
وقد أدت هذه العوامل إلى تعريض حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، للمرة الأولى، لخطر الفشل في الفوز بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية. وإذا حدث ذلك، فسوف يحتاج الحزب إلى العثور على حزب أو أكثر لتشكيل ائتلاف حاكم، أو المخاطرة بالإطاحة به من قبل ائتلاف من الأحزاب الأخرى، مثل ميثاق التعددية الحزبية، وهو تحالف من أحزاب المعارضة، بقيادة جون ستينهاوزن من التحالف الديمقراطي، الذي يأمل في الإطاحة بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
ولعل أحد التحولات الأخرى التي تجعل انتخابات هذا العام مختلفة في جنوب إفريقيا تتمثل في السماح للمرشحين المستقلين بالترشح لمقاعد في الجمعية الوطنية، وكذلك في المجالس التشريعية الإقليمية. ويرجع ذلك إلى قانون التعديل الانتخابي لعام 2023، الذي تضمن من بين إصلاحاته بنداً يسمح للمرشحين بالتنافس على المقاعد دون الحاجة إلى الانتماء إلى حزب سياسي.
يسعى هذا المقال إلى التعرف على القوى والأحزاب الرئيسية المتنافسة، وتحليل آفاق المستقبل من خلال طرح عدد من السيناريوهات المتوقعة، وتبعات كل منها على قضايا التغيير والاستقرار في جنوب إفريقيا.
المنافسون الكبار:
يمكن الحديث عن أربع قوى رئيسية تخوض انتخابات هذا العام وهي:
1- حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بزعامة سيريل رامافوزا. تأسس الحزب في عام 1912 باسم المؤتمر الوطني الأصلي لجنوب إفريقيا، ثم غُيرت تسميته إلى المؤتمر الوطني الإفريقي في عام 1923. وكان بمثابة حركة تحرر وطني خلال حقبة الفصل العنصري، وبعد ذلك تحول إلى حزب سياسي وخاض انتخابات عام 1994. وقد حصل الحزب على أكبر نسبة من الأصوات في انتخابات الجمعية الوطنية منذ ذلك الحين، على الرغم من انخفاض نسبته منذ عام 2009؛ إذ شهد الحزب تراجع دعمه تدريجياً بسبب فضائح الفساد، وخيبة الأمل بشأن مشكلات تقديم الخدمات، مثل: إمدادات الكهرباء وسوء التغذية. كما أن الانقسامات الداخلية في الحزب أدت إلى مغادرة أعضاء رفيعي المستوى وتشكيل أحزاب جديدة، مثل: حزب مؤتمر الشعب في عام 2008، والمناضلون من أجل الحرية الاقتصادية في عام 2013، وأخيراً حزب زوما في نهاية عام 2023.
2- التحالف الديمقراطي بزعامة جون ستينهاوزن. تأسس الحزب عام 2000، وهو يُعد حزب المعارضة الرسمي في الجمعية الوطنية منذ عام 2004، بعد أن احتل المركز الثاني خلف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في الانتخابات التي أجريت في أعوام 2004 و2009 و2014 و2019. ومع مرور السنين، زاد الحزب حصته من الأصوات من حوالي العشر إلى حوالي الخمس. وتعود جذور التحالف الديمقراطي إلى خبرة الحزب الديمقراطي (الذي تأسس عام 1989)، والذي عارض الفصل العنصري. ويُنظر إلى حزب التحالف الديمقراطي باعتباره حزباً ليبرالياً للسكان البيض، على الرغم من أنه بذل جهوداً لتنويع أعضائه، وهو الآن يضم قائمة تضم العديد من مختلف أعراق جنوب إفريقيا.
ورسالة الحزب لهذه الانتخابات هي "أنقذوا جنوب إفريقيا". ويتضمن برنامجه مكافحة الفساد والجريمة، وتحسين الرعاية الصحية، والتعليم، وتوصيل الكهرباء والمياه النظيفة. وقد أسس زعيم الحزب، جون ستينهاوزن، ميثاق التعددية الحزبية، وهو تحالف من أحزاب المعارضة التي تأمل في الإطاحة بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي. ومع ذلك، فإن الحزب لا يستبعد تشكيل ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ إذا كان هذا هو الخيار الوحيد لإبقاء حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية وحزب زوما الجديد خارج السلطة.
3- المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية بزعامة يوليوس ماليما. تأسس الحزب عام 2013، وقد احتل المركز الثالث خلف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والحزب الديمقراطي في انتخاباتي 2014 و2019. وقد كان زعيم الحزب، يوليوس ماليما، في الأصل عضواً قيادياً ورئيساً لرابطة شباب حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. ومع ذلك، تم طرده من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في عام 2012؛ بسبب إدلائه بتصريحات مثيرة للجدل. ويرتدي أعضاء الجمعية الوطنية من حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية زياً أحمر للتعبير عن تعاطفهم مع محنة الطبقة العاملة. وعلى أية حال يتبنى الحزب نهجاً أكثر يسارية من الأحزاب الأخرى، ويدعو إلى تأميم المناجم والبنوك وكذلك مصادرة الأراضي لإعادة توزيعها، وكل ذلك للقضاء على عدم المساواة الاقتصادية التاريخية.
في أوائل عام 2024، فقد حزب ماليما بعض الدعم الذي كان يتمتع به لصالح حزب زوما في الانتخابات الفرعية، وربما يستمر ذلك في الانتخابات الوطنية إلى حد ما. ومع ذلك، قال ماليما إن حزبه منفتح على إمكانية الانضمام إلى ائتلاف، بما في ذلك التحالف مع حزب زوما.
4- حزب "أومكونتو وي سيزوي" (أم كي) بقيادة زوما. قام رئيس جنوب إفريقيا السابق جاكوب زوما في 16 ديسمبر 2023 بالإعلان عن حزب جديد منافس لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وللمفارقة فقد أطلق عليه نفس اسم الجناح العسكري لحزب المؤتمر، أي رمح الأمة. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن هذا الحزب الجديد سوف يؤدي إلى تفاقم المشكلات الانتخابية التي يواجهها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في معقل زوما، في إقليم كوازولو ناتال. واللافت للانتباه أن حزب زوما يتبنى خطاباً تحريضياً مشوباً بالتطرف الشعبوي. على سبيل المثال، يتحدث عن استبدال النظام الدستوري الحالي بالنظام البرلماني غير المقيد. وهذا أمر مثير للقلق؛ لأن جنوب إفريقيا كانت تسير على طريق إنشاء ديمقراطية دستورية تقوم على مجموعة من الحقوق الأساسية لمواطنيها منذ أول انتخابات ديمقراطية لها في عام 1994. وعلى أية حال يمكن اعتبار حزب رمح الأمة مجرد فصيل سياسي لحزب المؤتمر الوطني. وربما يمثل هذا الحزب الجديد حيلة من جانب زوما لتفادي التُّهم الموجهة إليه، والتي قد تدفع به إلى السجن مرة أخرى.
السيناريوهات الأربعة:
يمكن الحديث عن أربعة سيناريوهات كبرى ستتمخض عنها انتخابات 29 مايو في جنوب إفريقيا:
1- استمرار حكومة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي: إنه السيناريو الأقل احتمالاً؛ إذ يتطلب الأمر تأمين ما يقرب من 50% من الأصوات في انتخابات مايو 2024. في هذه الحالة يمكن لحزب المؤتمر تشكيل حكومة أقلية دون الاعتماد على أي حزب سياسي رئيسي أو من خلال الاحتفاظ بأغلبية برلمانية صريحة. ومع ذلك، فإن استمرار الانقسامات الداخلية في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ يعني أن الحكومة تعاني من أجل تمرير الإصلاحات الاقتصادية؛ مما يدفع رامافوزا إلى عقد تحالفات على أساس كل حالة على حدة مع الأحزاب الصغيرة الأخرى والمشرعين المستقلين لتمرير التشريعات. ونتيجة لذلك؛ قد تواجه حكومة رامافوزا العديد من العراقيل من أجل إقرار إصلاح اقتصادي حقيقي، وهو ما يؤدي إلى تأجيج الضائقة الاقتصادية وأزمة البطالة في البلاد. وعلى أية حال يمكن المحافظة على وحدة الحزب وتماسكه حتى انتخابات 2026 البلدية.
2- التحالف مع الأحزاب الصغيرة: من الممكن قيام حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بتشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب المعارضة الأصغر بعد حصوله على حوالي 45% فقط من الأصوات. وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها أحزاب المعارضة الأخرى، مثل: التحالف الديمقراطي وحزب "إنكاثا"، بعدم تشكيل ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؛ فإنه تم التوصل إلى اتفاقيات مقابل التأثير في السياسات. ومع ذلك، فإن هذا يؤدي إلى توترات داخل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بين الرئيس رامافوزا، والفصيل المؤيد للتحولات الاقتصادية الراديكالية؛ مما يُعمق حالة عدم اليقين السياسي. وقد تؤدي الجهود المبذولة للحد من الإنفاق العام إلى مفاوضات مثيرة للجدل بشأن الأجور؛ مما يتسبب في إضرابات وتعطيل الخدمات الأساسية.
3- التحالف مع المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية: من المرجح أن يواجه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي انتكاسة انتخابية كبيرة بحيث لا يتمكن من الحصول إلا على نحو 40% من الأصوات؛ مما يضطره إلى الدخول في ائتلاف مع حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية. وفي هذه الحالة قد تبتعد سياسة الحكومة عن اتجاهات رامافوزا المؤيدة للأعمال التجارية وتشجيع القطاع الخاص؛ إذ يصر حزب ماليما، بدعم من فصيل التحول الاقتصادي الراديكالي الشعبوي التابع لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، على تعزيز سياسات التمكين الاقتصادي للسود من خلال مصادرة الأراضي دون تعويض وتأميم موارد الدولة. وفي حين يقاوم رامافوزا التدابير السياسية الأكثر إثارة للجدل التي يتبناها الفصيل الراديكالي داخل حزبه فإن السياسات الاقتصادية التدخلية التي تنتهجها الحكومة وتوسيع برامج إعادة التوزيع قد تتسبب في مزيد من التراجع في ثقة المستثمرين. وهذا بدوره يزيد من المخاوف بشأن استدامة ديون جنوب إفريقيا، ويهدد بإثارة أزمة اقتصادية حادة في الأمد المتوسط.
4- هزيمة حزب المؤتمر الوطني: وهو سيناريو منخفض الاحتمال وعالي التأثير؛ إذ يمكن أن يفوز الميثاق المتعدد الأحزاب لجنوب إفريقيا، الذي يقوده حزب التحالف الديمقراطي المعارض الرئيسي بأغلبية المقاعد. وفي هذه الحالة يمكن تصور تشكيل حكومة وحدة وطنية مقابل إجراء إصلاحات اقتصادية واسعة لقطاعات الكهرباء والنقل والمياه في جنوب إفريقيا. ومع ذلك، من المتوقع عدم مشاركة الأحزاب الراديكالية مثل: حزب الرئيس السابق جاكوب زوما، وحزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية. وربما يلجأ هؤلاء إلى تنظيم احتجاجات واسعة النطاق تؤدي إلى تعطيل سلاسل التوريد بشكل كبير، وتهدد بالتحول إلى حوادث نهب جماعي. وفي حين أن الضغط الذي يمارسه التحالف الديمقراطي قد يجبر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على المضي قدماً في إصلاح شامل لقطاع الطاقة، وتوسيع دور الشركات الخاصة في قطاعي المياه والنقل، فإن عملية الإصلاح قد تعترضها عراقيل كبرى بسبب إمكانية حدوث احتجاجات نقابية واسعة النطاق من النقابات؛ ومن المحتمل أن تدفع هذه الضغوط الحكومة للتراجع عن مشروعات قوانين أو مقترحات سياسية محددة. وبينما تتحسن معنويات المستثمرين تجاه جنوب إفريقيا على نطاق واسع، فإن نمو الاستثمارات الأجنبية قد يسير حثيثاً وسط التحديات المستمرة التي يواجهها قطاع الطاقة في البلاد، وتصاعد العنف وتزايد الاستقطاب السياسي.
ختاماً فإن التحالفات السياسية المتغيرة، وتزايد السخط الشعبي بسبب تردي مستوى الخدمات العامة وأهمية أصوات الشباب، سوف تمثل جميعها عوامل حاسمة في تحديد مسار جنوب إفريقيا بعد الانتخابات؛ إذ من المحتمل أن يتم التحول في نظام الحزب المهيمن، والذي لاحظناه منذ عام 2009؛ ليصل إلى نمط التعددية الحزبية. وحتى إذا تمكن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من تأمين الأغلبية المطلوبة في الانتخابات واحتفظ بالسلطة، فمن المتوقع أن تقوم أحزاب المعارضة بممارسة دور رئيسي في القرارات السياسية الرئيسية بعد الانتخابات. ولعل ذلك يشمل السياسة الخارجية، التي كانت حكراً على حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، فإن جنوب إفريقيا سوف تتغير وتعيد النظر في تعريف مصالحها الوطنية ومكانتها في المجتمع العالمي.