أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 10 مايو 2024، أن بلاده بحاجة إلى دستور مدني جديد، والتخلص مما وصفه بـ"دستور الانقلابيين"، وذلك خلال كلمة له بمناسبة الذكرى 156 لتأسيس مجلس الدولة في تركيا.
جدير بالذكر أن الدستور الحالي في تركيا، هو الذي تم وضعه عقب انقلاب 12 سبتمبر 1980، وقد حصل هذا الدستور على نسبة 92% في الاستفتاء الشعبي آنذاك. وقد سعى أردوغان، إلى وضع دستور جديد للبلاد، منذ أن وصل لسدة الحكم، وتصاعدت مساعيه خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2023، وذلك عبر عقد لقاءات مع زعماء الأحزاب السياسية والكتل الحزبية في البرلمان التركي، ودعوة جميع السياسيين إلى مناقشته؛ الأمر الذي طرح تساؤلات عدّة حول فرص إنجاح عملية وضع الدستور المزمع، والتحديات التي لا تزال قائمة أمامه، فضلاً عن الزخم الواسع بشأن التغييرات التي قد تطرأ على نظام الحكم في تركيا.
أبعاد مُتشابكة:
تتغلف الدعوة لوضع دستور جديد في تركيا بالعديد من الأبعاد المتشابكة؛ التي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:
1. مُحاولات مُتكررة: لم تكن قضية وضع دستور جديد لتركيا أمراً جديداً ومستحدثاً، فقد تم طرح العديد من المقترحات والمشروعات المختلفة، ولاسيما خلال عامي 2011 و2013، انتهت بتشكيل "لجنة توافق لصياغة الدستور" عام 2016، ولكنها تم حلها قبل أن تتمكن من وضع مسودة دستور متكاملة، فيما خضع الدستور الحالي لنحو 23 تعديلاً خلال الـ41 عاماً الماضية، كان آخرها التحول للنظام الرئاسي في البلاد عام 2017.
2. تحركات مُكثّفة: على عكس المناقشات الدستورية السابقة التي استندت إلى مراجعات كاملة، بدأت المناقشة الأخيرة لوضع دستور جديد لتركيا، بتحركات من رئيس البرلمان التركي، نعمان كورتولموش، نهاية شهر إبريل 2024؛ لإجراء عدّة زيارات للأحزاب السياسية وعقد سلسلة من الاجتماعات والمشاورات، بشأن إمكانية إعداد دستور جديد للبلاد، وبدأت تلك التحركات بالاجتماع مع زعيم حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، في 30 إبريل 2024، ذلك الاجتماع الذي مهّد للقاء أردوغان وأوزيل، بعد ذلك. ويعتزم كورتولموش الاستمرار في مشاوراته مع قادة الأحزاب الأخرى، بما في ذلك حزب الحركة الديمقراطية وحزب السعادة الإسلامي المعارض وحزب الخير القومي المعارض.
3. لقاء تاريخي بين أردوغان وأوزيل: في أول لقاء منذ 8 سنوات، عقد أردوغان وأوزيل، لقاءً تاريخياً، بمقر حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، في 2 مايو 2024، بحضور مستشار الرئيس التركي مصطفى أليطاش، ومستشار أوزيل، السفير التركي الأسبق لدى واشنطن نامق تان، ذلك اللقاء الذي ربطه الكثيرون بقضية وضع دستور جديد للبلاد، ولاسيما وأن القضية كانت حاضرة بقوة على طاولة الحديث بين أردوغان وأوزيل.
4. مشروع قرن تركيا: ترتبط الدعوات لتغيير الدستور الحالي في تركيا، بما يسمى "مشروع قرن تركيا"، الذي أعلن عنه أردوغان خلال مراسم تنصيبه، عقب أدائه للقسم الدستوري بالبرلمان، في يونيو 2023، رابطاً تعزيز الديمقراطية في تركيا بوضع دستور جديد حر ومدني وشامل، ولاسيما مع انطلاق الذكرى المئوية للجمهورية التركية، وقد كرر ذلك خلال كلمته بالجلسة الافتتاحية للسنة التشريعية الثانية للدورة الثامنة والعشرين في مجلس الأمة التركي الكبير في العاصمة أنقرة.
5. زخم واسع: بعد طي ملف كافة الانتخابات في تركيا، هيمنت قضية وضع مشروع الدستور الجديد على المشهد السياسي التركي، فقد شهدت أروقة السياسة المختلفة في أنقرة زخماً واسعاً بشأن الخطوات الرامية إلى إعداد دستور جديد للبلاد، فيما يتوقع المراقبون الأتراك أن تعمل الأحزاب السياسية المختلفة على تقديم اقتراحاتها بحلول نهاية فصل الصيف 2024، لانطلاق المفاوضات الحزبية حول جوهر الدستور الجديد خلال الجلسة التشريعية المقبلة، فضلاً عن أنه من المتوقع أن يتم تعيين لجنة برلمانية مشتركة لصياغة النصوص النهائية للدستور الجديد.
فرص سانحة:
تلوح في الأفق فرص كثيرة قد تسهم في إنجاح عملية وضع دستور في تركيا هذه المرة، وتتمثل أبرز تلك الفرص فيما يلي:
1. تصاعد قوة المعارضة: من المرجح أن يسهم تصاعد قوة المعارضة التركية وحزبها الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، في تعزيز التوافق على دستور جديد للبلاد، فتلك القوة قد تمكنها من تحقيق مكاسب أكبر في المفاوضات الدستورية، إذ ترى مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أن المعارضة التركية أصبحت جاهزة للمعركة الدستورية، ولاسيما بعد أن استحوذ حزب الشعب الجمهوري على 35 مقعداً في رئاسة البلدية (من إجمالي 81 بلدية) في الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت في 31 مارس 2024، في حين أن تحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية حصل على 24 مقعداً فقط، هذا وقد استمر تفوق حزب الشعب الجمهوري على حزب العدالة والتنمية، في استطلاعات الرأي حتى بعد انتهاء الانتخابات؛ إذ أظهرت نتائج أحدث استطلاع رأي، حصول حزب الشعب الجمهوري على المرتبة الأولى في قائمة الأحزاب السياسية التركية بنسبة تأييد 34.1% من الشعب في حال أُجريت انتخابات برلمانية.
2. التفاهم الحالي بين الحكومة والمعارضة: قد يُسهم التحالف الذي تشهده تركيا حالياً بين الحكومة والمعارضة، في دفع ملف الدستور الجديد قدماً، وتصاعد الآمال في الإصلاح، ولاسيما وأن أردوغان قد أكد ذلك، مبدياً تفاؤله بدعم حزب الشعب الجمهوري في الدستور الجديد، معلناً تدشين مرحلة جديدة من التطبيع والانفراجة في الحياة السياسية الوطنية بين الحكومة والمعارضة، وذلك بعد لقائه مع أوزيل، خاصة وأن لقاءات الأخير لم تقف عند هذا الحد، فقد التقى، في 7 مايو 2024، مع زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهشالي، الحليف التاريخي لأردوغان، كما أعلن أردوغان أنه سيرد الزيارة لأوزيل في مقر حزبه.
3. تضارب بعض مواد الدستور نتيجة التعديلات: يصنف فصيل كبير من مختلف الأطياف التركية دستور 1982 بأنه "دستور انقلابي"؛ إذ شكل خلال العقود الأربعة الماضية مُعضلة في الحياة السياسية التركية؛ وذلك لأنه كان يهدف لإبقاء حالة من الوصاية على القيادات السياسية المنتخبة والحياة السياسية عموماً من خلال عدّة أدوات؛ منها مجلس الأمن القومي. كما خلّفت التعديلات العديدة في الدستور، وخصوصاً ما يتعلق منها بالانتقال للنظام الرئاسي، تضارباً في عدّة قوانين ومواد، كما تبدو بعضها شبه "منسوخة" ولا يُعمل بها.
4. توافق حزبي وسياسي: بعد بدء اجتماعاته مع اللجان الحزبية في البرلمان، أعلن رئيس البرلمان التركي، عن انفتاح الأحزاب السياسية بشأن الدستور الجديد، وأنها مستعدة لمناقشة مسودة من شأنها أن تحل محل الدستور التركي الحالي، كما ستقدم دعماً غير مُتحيز لدستور جديد تماماً، فضلاً عن ذلك فإن هناك توافقاً سياسياً على تغيير الدستور؛ الذي لا يُعد مطلباً لحزب العدالة والتنمية فحسب، بل إن أغلب الأحزاب السياسية التركية تطالب بذلك، كل ذلك قد يُسهم في وضع دستور جديد لتركيا.
تحديات قائمة:
بالرغم من الفرص السانحة أمام تمرير دستور جديد في تركيا، فإن العديد من التحديات ما زالت قائمة، وأبرزها ما يلي:
1. الأصوات اللازمة لتمرير الدستور: يتطلب إقرار تغيير الدستور أو تمرير تعديلات دستورية في البرلمان من دون الذهاب إلى استفتاء أغلبية 400 صوت، بينما يتطلب تحقيق الأغلبية اللازمة من أجل الطرح للاستفتاء الشعبي 360 صوتاً، وهو أمر يظل صعباً، ولاسيما وأنه حتى التحالف الحاكم لا يملك تلك الأغلبية في البرلمان؛ إذ يمتلك حزب أردوغان 265 مقعداً، وحليفه حزب الحركة القومية 50 مقعداً، في حين يمتلك حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي 126 مقعداً، لذلك يحتاج أردوغان إلى نحو 45 صوتاً من الأحزاب المعارضة من أجل تمرير الدستور من البرلمان وطرحه للاستفتاء الشعبي، أو إلى 85 صوتاً من أجل اعتماد الدستور الموضوع ودخوله في حيز التنفيذ، وذلك بعد خسارته لمقاعد حزب الرفاه البالغة 5 مقاعد، ومقاعد حزب هدى بار البالغة 4 مقاعد، فضلاً عن أن المواد الأربع الأولى من الدستور الحالي، التي يرى البعض بأنها مواد مقدسة، قد تحول دون تغيير الدستور بأكمله.
2. اختلاف القوى السياسية: على الرغم من أن أغلب القوى السياسية والحزبية في تركيا ترغب في تغيير الدستور، فإنها تختلف جميعها حول ما سيتضمنه الدستور الجديد من مواد، ولاسيما وأن مطالبها ستكون مختلفة في أمور كثيرة، وبرزت على السطح منها عام 2022 قضيتا الحجاب والمثليين، وذلك لتباين الآراء ما بين الأحزاب على أساس أن المشارب والآراء والأيديولوجيات بينها تشهد اختلافاً وخلافاً كبيراً؛ الأمر الذي سيجعل تغيير الدستور مهمة صعبة للغاية.
تغييرات مُحتملة:
قد تتمخض عن انطلاق مفاوضات وضع دستور جديد في تركيا، تغييرات عديدة في شكل الحكم، أبرزها ما يلي:
1. إلغاء النظام الرئاسي: من المُرجح أن يتحول شكل الدولة في تركيا إلى النظام البرلماني مرة أخرى؛ إذ تشترط المعارضة إلغاء النظام الرئاسي؛ معتبرة إياه نظاماً مقيداً للأحزاب الأخرى وللحريات العامة، ومُفسداً للحياة السياسية التركية بأكملها.
2. تجديد الولاية الرئاسية لأردوغان: يرجح البعض أن يتم تعديل بعض المواد لصالح أردوغان، فقد يتضمن الدستور الجديد إنهاء القيود الحالية على فترات ولاية الرئيس، والابتعاد عن وضع تركيا الراسخ منذ فترة طويلة كدولة علمانية، وتعزيز سلطة الحكومة المركزية على السلطة القضائية.
3. تغيير نظام (50+1): من المرجح أن يتم تغيير نظام (50+1) في الدستور الجديد المزمع تمريره في تركيا؛ إذ يعتبره الحزب الحاكم وحلفاؤه نظاماً مقوضاً؛ سيتسبب بمشكلات الآن وفي المستقبل، وسيجر تركيا إلى الفوضى، خاصة مع تعرض أردوغان لانتقادات شديدة في الماضي بسبب معارضته لهذا التعديل.
4. دستورية الحجاب وحماية الأسرة التركية: من المحتمل أن يطلب حزب العدالة والتنمية الدعم من أحزاب المعارضة، من أجل اقتراحه بشأن دستورية الحجاب وحماية العائلات والأسر التركية، فقد تضمنت تصريحات أردوغان في لقاء تلفزيوني عام 2022، نية الحكومة إجراء تعديلات دستورية لحماية بنية الأسر التركية مما أسماه "الانحراف والشذوذ".
5. تقويض صلاحيات القضاء: قد يتضمن الدستور مواد تقوض صلاحيات القضاء؛ إذ وجه أردوغان، أثناء دعوته لتغيير الدستور، انتقاداً كبيراً للقضاء والقضاة في تركيا، كما أكد أن القضاء ليس بمنأى عن النقد من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
6. إصلاح اقتصادي: قد يعرض أردوغان مع طرح دستور جديد، إجراء إصلاحات دستورية تضمن معالجة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها بلاده، وأبرزها ارتفاع معدل التضخم إلى ما يقرب من 70% في مارس 2024؛ من أجل تحسين التوقعات بالنسبة لملايين الأتراك الذين تضرروا بشدة من الأزمة الاقتصادية، وتسببوا في الخسائر السياسية التي مني بها حزب أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة.
وفي التقدير؛ يمكن القول في ضوء معطيات الموقف الراهن بشأن انطلاق مفاوضات تغيير الدستور في تركيا -ومع تيقن الجميع بأن تحركات أردوغان بشأن تطبيع العلاقات مع المعارضة ما هي إلا مناورة سياسية منه لتمرير الدستور الجديد- إن السيناريو الأقرب يتمثل في أن الجميع سيسعى لتحقيق مصالحه الفردية في الدستور الجديد المزمع، خاصة وسط الفرص السانحة هذه المرة، والتي قد تسهم في تمرير دستور جديد بالكامل، ليس مجرد تعديلات كما في السابق، ولكن ذلك لا ينفي احتمالية بحث كل من الحكومة والمعارضة عن فرص لإرباك وإضعاف الطرف الآخر ومحاصرته بكافة الأوراق التي يملكها لمحاولة الحصول على بعض المكاسب التي تعزز الفرص الشعبية لكل طرف للوصول إلى ما يريد.