أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

زلزال انتخاب فاي.. اتجاهات التغيير القادم في السنغال

02 أبريل، 2024


إن فوز بشير جوماي فاي، في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في السنغال يوم 24 مارس 2024؛ يعني أكثر من مجرد تغيير في القيادة؛ فهو يمثل تحولاً كبيراً في المشهد السياسي للبلاد ومسارها المستقبلي، ومن المرجح أن يُحدث الرئيس الخامس للبلاد بعض القطيعة مع التوجهات الحاكمة للتجربة السنغالية منذ الاستقلال عام 1960، ولا يخفى أن هزيمة ماكي سال، الذي تولى السلطة لمدة 12 عاماً، تعكس عدم الرضا بين السكان عن أداء الإدارة الحالية، وخاصةً فيما يتعلق بقضايا بعينها مثل: انتشار الفقر وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب. 

ومن جهة أخرى، فإن إجراء الانتخابات بشكل سلمي وقبول النتائج من قِبل المرشح الخاسر يدل على التزام السنغال بالمبادئ الديمقراطية، وهذا ما يؤكد مقولة الاستثنائية الديمقراطية في تقاليد غرب إفريقيا، ولعل ذلك يتناقض تماماً مع تاريخ عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية التي اُبتليت بها بلدان أخرى كثيرة في القارة السمراء. 

بيد أن قراءة البرنامج السياسي لتحالف الرئيس فاي، ولاسيما فيما يتعلق بقضايا الوحدة الإفريقية والإصلاحات الاقتصادية الراديكالية، بما في ذلك إعادة التفاوض على العقود مع الشركات الأجنبية وإنهاء استخدام الفرنك الإفريقي؛ تشير إلى أننا أمام زلزال سياسي كبير، ومن المُرجح أن يكون لهذه التغييرات آثار بعيدة المدى على اقتصاد السنغال وعلاقتها بالقوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا.

دلالات التغيير:

لم تشهد السنغال، منذ حصولها على الاستقلال، مثل هذه الدراما الانتخابية، ومع ذلك؛ فقد تمت مواجهة حالة عدم الاستقرار التي نتجت عن مناورات الرئيس المنتهية ولايته، ماكي سال، بشكل مثير للإعجاب من قِبل النظام القضائي؛ إذ ألغى المجلس الدستوري قرار الرئيس بتأجيل الانتخابات، وبعد ذلك ونظراً لمماطلات السلطة الحاكمة؛ تم تحديد موعد مُلزم للتصويت في الانتخابات، وتأكدت قوة المؤسسات الدستورية في السنغال من خلال إعلاء صوت الشعب بعيداً عن خيارات النخبة الليبرالية الحاكمة.

لقد جاء انتخاب فاي، مفتش الضرائب البالغ من العمر 44 عاماً، والذي أُطلق سراحه من السجن قبل عشرة أيام فقط من بدء التصويت، بمثابة صدمة؛ نظراً للشكوك الغربية الكبيرة بشأن شخصيته ومواقفه. فقد اعترف الرجل بأنه المرشح البديل؛ نتيجة لتنحية عثمان سونكو، الزعيم الشعبي لحزب "الوطنيين الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة" (باستيف)، بعد إدانته بتهمة التشهير التي أدت إلى سجنه. وفي نهاية المطاف، يمثل انتصار فاي الحاسم من الجولة الأولى رسالة مزدوجة؛ الأولى، موجهة لرؤساء الدول الإفريقية –مثل ماكي سال- الذين يميلون إلى التشبث بأهداب السلطة بشكل غير مبرر؛ لقد ظهر سال وكأنه مهندس الهزيمة التي مُني بها الحزب الحاكم من خلال التلميح إلى أنه قادر، خلافاً للدستور، على الترشح لولاية ثالثة، ثم من خلال إطلاق سلسلة من المناورات المصممة لإسكات معارضيه وعرقلة العملية الانتخابية. 

أما الرسالة الثانية، فهي موجهة للدول الغربية مثل فرنسا، التي أصبحت الآن في منافسة مع العديد من القوى الأخرى الصاعدة في النظام الدولي، ويتعين عليها أن تتعلم من العواقب المترتبة على السياق الإفريقي الحالي، الذي أصبح على نحو متزايد أشبه بمرحلة جديدة في الصراع الطويل الأمد من تاريخ إنهاء الاستعمار.

القطيعة الثلاثية:

يتولى فاي منصبه في لحظة محورية بالنسبة للسنغال، ومن المقرر أن تبدأ مشروعات النفط والغاز المهمة الإنتاج، في وقت لاحق من هذا العام؛ مما قد يوفر دفعة لاقتصاد البلاد ويجذب اهتمام القوى الإقليمية والعالمية، وفي الوقت نفسه، تقع السنغال في منطقة محفوفة بالمخاطر تعرضت لسلسلة من الانقلابات في السنوات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتوقف التهديد الجهادي قط، كما يتضح من الاعتقالات المنتظمة للإرهابيين من قِبل قوات الأمن السنغالية، التي تم حشدها بكثافة على الحدود في السنوات الأخيرة. 

ويطرح فاي مشروعه السياسي من خلال إحداث قطيعة مع إرث المؤسسة الحاكمة منذ الرئيس المؤسس ليوبولد سنغور، وذلك على ثلاثة مستويات؛ أولاً، الانفصال عن الروابط الفرنسية -القوة الاستعمارية السابقة للسنغال- من خلال التشكيك في الفرنك الإفريقي واحتمال تقديم عملة وطنية جديدة. ثانياً، التخلص من "لعنة الموارد" من خلال الوعد بتوزيع أفضل للعائدات من النفط والموارد الطبيعية الأخرى. ثالثاً، القطيعة مع ممارسات الحكم الفاسدة من خلال الإصلاح المؤسسي.

أجندة فاي:

من الأمور الأساسية في أجندة فاي، استعادة هيبة ومكانة المؤسسات الديمقراطية، والحد من تغول السلطة التنفيذية، ومعالجة الفساد. كما أنه يخطط أيضاً لإعادة التفاوض بشأن العقود الدولية، وربما إدخال عملة جديدة؛ ما يعني تقويض النفوذ الفرنسي في المنطقة، وعليه، يمكن تصور معالم التغيير القادم في السنغال على النحو التالي: 

1- الحفاظ على ميراث الديمقراطية: يقول فاي إن أساس مشروعه السياسي هو إعادة تأهيل مؤسسات الجمهورية واستعادة مبدأ سيادة القانون الذي لم يتم احترامه في عهد ماكي سال، ومن المعروف أن الديمقراطية بالنسبة للسنغاليين، ليست شعاراً أو حتى مجرد الالتزام بحكم القانون؛ بل إنها طريقة للحياة؛ إذ تؤمن جميع طبقات المجتمع بهذه الثقافة الديمقراطية، كما يتضح من نسبة المشاركة العالية في التصويت ووجود 19 مرشحاً للرئاسة، ولعل ما يؤكد ذلك وجود تقليد موروث في السنغال يتمثل في الحوار المفتوح بين المعارضة والأغلبية المنتهية ولايتها، وذلك بفضل العديد من الوسطاء، بما في ذلك رؤساء السنغال السابقون.

ويسعى فاي إلى التخلص من السلطات الرئاسية المفرطة من خلال تحديد المسؤولية السياسية للرئيس وإمكانية محاكمته بسبب سوء السلوك الجسيم، والذي سيتم تحديد ماهيته، كما سوف يتم استحداث منصب نائب الرئيس، الذي يُنتخب بالتزامن مع الرئيس، وإلغاء منصب رئيس الوزراء. وجاء في نص البرنامج الانتخابي المؤلف من 84 صفحة أنه سيتم توزيع صلاحيات كل من رئيسي السلطة التنفيذية بشكل واضح. 

2- الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية: فيما يتعلق بموضوع الإصلاحات القضائية، يعتزم فاي تأكيد الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وفي هذ السياق، سوف يتم الانتقال من المجلس الدستوري إلى تبني نموذج المحكمة الدستورية التي ستكون على رأس التنظيم القضائي، وكجزء من حملة المساءلة وتعزيز هيئات الرقابة، أعلن فاي أيضاً عن نيته إلغاء ما يُسمى بالصناديق السياسية واستبدالها بصناديق خاصة صوت عليها المجلس النيابي للعمليات الحساسة للغاية (مثل الأسلحة والمهمات السرية). كما سيتم إقرار قانون لحماية الشهود وتشجيع الإبلاغ عن المخالفات، وفق ما ينص عليه قانون الشفافية في إدارة المالية العامة.

3- الإصلاح النقدي والمالي: يَعِد فاي بالإصلاح النقدي، وربما حتى طرح عملة جديدة للسنغال، بدلاً من فرنك الاتحاد المالي الإفريقي، الذي يكرس الهيمنة الفرنسية. لكنه يشير إلى أن إنشاء العملة يتطلب التروي واستيفاء متطلبات معينة مثل: تنفيذ سياسة اقتصادية كلية سليمة، وفصل البنوك التجارية عن بنوك الودائع، وتوفير الوسائل التقنية اللازمة لذلك. بيد أن الأكثر راديكالية يتمثل في تأكيد فاي، قطع العلاقات الاقتصادية التي كان يُنظر إليها على أنها غير عادلة وطفيلية، وبقايا الاستغلال الاستعماري التي لا تزال تعوق التقدم في السنغال. ومن خلال الدعوة إلى إزالة الوجود العسكري الفرنسي والسياسات الفرنسية الأبوية، يشير فاي إلى الالتزام باستعادة السيادة ورسم الطريق نحو تقرير المصير.

إن مسالة النفوذ الفرنسي ليست مجرد مسألة رمزية، فهي تتقاطع مع السياسات الاقتصادية التي طالما ألحقت الضرر بالأمة والدول الإفريقية الأخرى، وفي حين أن المصالح الاقتصادية الفرنسية ربما أسهمت في النمو في بعض الحالات، إلا أنها جاءت في كثير من الأحيان على حساب سيادة السنغال والتنمية العادلة فيه.

4- الإقليمية الجديدة: يتعهد الرئيس السنغالي الجديد باستعادة السيادة، وهي الكلمة التي استخدمها ما لا يقل عن 18 مرة في بيانه الانتخابي، والذي يتضمن الالتزام بإعادة التفاوض على عقود التعدين والمواد الهيدروكربونية التي من المُقرر أن تدخل حيز التنفيذ هذا العام، كما يريد فاي إعادة تقييم اتفاقيات الصيد مع القوى الأجنبية؛ إذ تتضاءل الموارد السمكية التي تدعم حوالي 600 ألف أسرة سنغالية، ويتم نهبها، كما يقولون، من قِبل سفن الصيد الأوروبية والآسيوية. علاوة على ذلك، يؤكد بيانه ضرورة تطوير القطاع الزراعي لضمان الأمن الغذائي والتحرك نحو الاكتفاء الذاتي.

 ومن أجل تحقيق التكامل دون الإقليمي والإفريقي الحقيقي، يخطط الرئيس فاي لقيادة مبادرة لإصلاح المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من خلال تعزيز برلمان ومحكمة "إيكواس" والحد من هيمنة مؤتمر رؤساء الدول والحكومات، وتضيف الوثيقة الخاصة بحزب "باستيف": "سنضع برنامجاً حقيقياً للتعاون اللامركزي يشمل دول غرب إفريقيا"؛ موضحة أنه سيتم الحفاظ على هذا التعاون من خلال تنظيم المعارض التجارية على مستوى المدن، والفعاليات الاجتماعية والثقافية والتوأمة بين مدن غرب إفريقيا.

وعلى الرغم من أن خطة حزب "باستيف" التي سوف يحملها الرئيس السنغالي الجديد تتضمن بعضاً من ملامح راديكالية فكرة "البان أفريكانزم" مع مسحة إسلامية معتدلة نتيجة احتكاك الشباب بمنظمة عباد الرحمن، فإن تفكيك الوجود الفرنسي الناعم والخشن يحتاج إلى وقت وحكمة. لقد حملت السنغال دوماً لقب "فرنسا الصغيرة"؛ إذ ولاء النخب السياسية والمالية والدينية وحتى الأمنية موجه لباريس، ومن المرجح ألا يكرر شباب "باستيف" بزعامة فاي تجربة النظم العسكرية الثورية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ إذ إن السياق السنغالي مختلف وبالغ التعقيد والتشابك.

تحديات منتظرة:

دعم الناخبون السنغاليون ومعظمهم من الشباب فاي، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، على الرغم من كثرة عدد المرشحين، لأنهم يرون أنه الرجل الذي سوف يحقق القطيعة مع الماضي المضطرب للبلاد ويحقق التغيير المأمول، بيد أن التحدي يرتبط دوماً بتحويل الوعود إلى نتائج ملموسة. فالوقت اللازم للتكيف مع تعقيدات الحكم، إلى جانب السياق الدولي المتغير، يمكن أن تقف حجر عثرة أمام الحكومة الجديدة؛ كي تحقق نتائج سريعة تُلبي طموحات الناخبين.

وعليه، فإن التحدي الأول يتمثل في مدى وجود الوسائل والإرادة اللازمة لتحقيق الإنجاز. وتتمثل الصعوبة الأخرى في أن حزب "باستيف" يتمتع بأقلية في البرلمان؛ لذلك لم يستبعد فاي حل المجلس النيابي إذا وجد أغلبية تعارضه وتمنعه من تنفيذ إصلاحاته.

لقد ترك الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، على الرغم من مناوراته السياسية، سجلاً اقتصادياً يمكن قياسه بالعدد الكبير من مشروعات البنية التحتية الكبرى التي تم تنفيذها خلال فترة ولايته، وشمل ذلك مدينة ديامنياديو الجديدة، بالإضافة إلى القطارات والمطارات والملاعب والطرق السريعة والمستشفيات الجديدة. كما قادت حكومته خطة تنمية طارئة للمجتمعات الريفية الصغيرة، ولكن العواقب الاقتصادية لجائحة "كورونا" والحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى زيادة حدة البطالة بين الشباب وأوجه عدم المساواة الاجتماعية، بالرغم من الدعم المالي للفقراء. فهل يستطيع تحالف فاي سونكو التغلب على هذه التحديات؟