تشهد علاقات الصين مع الاتحاد الأوروبي تفاعلات كثيفة، ليس فقط في المجال التجاري والاستثماري، وإنما في المجال السياسي والأمني، وكذلك الثقافي والاجتماعي. هذه الكثافة في التفاعلات لا تخفي بعض الاختلافات والاحتكاكات، بعضها قديم وبعضها مُستحدَث. وقد باتت هذه التفاعلات بمختلف أبعادها محل تساؤلات كثيرة خاصة في شقها التعاوني في ظل تزايد تعقيدات المشهد الدولي من ناحية أولى، والخيارات الاستراتيجية لطرفي العلاقة في هذا الواقع من ناحية ثانية، والتغير الذي يحدث في إدراك كل طرف للطرف الآخر من ناحية ثالثة.
ولقد برزت آخر التطورات بهذا الخصوص في تصريحات وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، التي ذكر فيها أن توصيف الاتحاد الأوروبي للصين غير واقعي وغير عملي، بل واعتبر أن هذا التوصيف الأوروبي قد أصاب العلاقات بالتشويش، وأن ذلك قد أدى إلى خلق عقبات في مسيرة العلاقات... فما هي التوصيفات الأوروبية للصين التي رتب عليها المسؤول الصيني تلك التداعيات؟ وإذا كانت الصين لا توافق على توصيف الاتحاد الأوروبي لها فكيف تُوصِّف هي نفسها علاقاتها مع الاتحاد؟ ومن ثم كيف تنظر إلى الاتحاد الأوروبي؟ وبطبيعة الحال، لا يقف الأمر عند التوصيفات، وإنما هناك سياسات وإجراءات في ظل كثافة التفاعلات، فما هي محصلة ذلك؟ وكيف سيكون مستقبل علاقات الجانبين في ضوء هذه التوصيفات والتفاعلات؟
بين التوصيفات الأوروبية والصينية:
توصيف الاتحاد الأوروبي للصين الذي نفى عنه وزير الخارجية الصيني صفتي الواقعية والعملية، واعتبره من بين أسباب التشويش في العلاقات وخلق العقبات في مسيرتها، يتمثل فيما أصبح الاتحاد الأوروبي يكرره حول كون الصين شريكاً ومنافساً وخصماً نظامياً في ذات الوقت. هذه التوصيفات اعتبرها المسؤول الصيني بمثابة إضاءة لإشارات المرور بألوانها الثلاث في ذات الوقت، متسائلاً حول الكيفية التي يمكن بها القيادة في مثل هذه الوضعية؛ إذ قال وانغ يي، نصاً إن ذلك "شأنه شأن إضاءة إشارات المرور الثلاث الحمراء والصفراء والخضراء في آن واحد عند مفترق الطرق، فكيف نقود السيارة للعبور؟".
ربما كان من اليسير فهم كون الشريك منافساً، وهذا يوجد حتى في حالات التحالف العسكري؛ إذ توجد منافسة قوية في مجالات أخرى، وهذا هو الحال في علاقات الولايات المتحدة بمعظم حلفائها، سواءً في أوروبا أو في آسيا، لكن أن تجتمع الشراكة مع المنافسة مع الخصومة النظامية؛ فتلك مسألة، وإن لم تكن جديدة تماماً -إذ يمكن تلمُس أبعاد لها في زمن الحرب الباردة وربما لو روجع تاريخ العلاقات الدولية لوجدت حالات مماثلة كثيرة- فإنها تثير السؤال التالي: هل يعكس هذا التوصيف الأوروبي للصين عودة أجواء الحرب الباردة؟
الصين من جانبها لا تكل من تكرار اتهام الولايات المتحدة بالتصرف بعقلية الحرب الباردة والسعي لخلق التحالفات التي ترى الهدف النهائي منها احتواءها. ولا تقف الصين في هذا الأمر عند المسائل العسكرية، وإنما تُدرِج في ذلك طيفاً واسعاً من الممارسات، من بينها فرض العقوبات على الشركات الصينية وممارسة الضغوط على دول أخرى لفرملة علاقاتها مع الصين خاصة في المجالات التكنولوجية المتقدمة التي قد تشكل تهديداً للأمن القومي.. فهل انضم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في نهجها حيال الصين؟
لا يمكن القول إن هناك تطابقاً في الرؤى الأمريكية والأوروبية للصين؛ إذ ما زالت هناك هوامش للاختلاف بين الرؤيتين، ولكن الملاحظ أن الرؤية الأوروبية آخذة في الاقتراب من الرؤية الأمريكية، خاصة منذ مجيء إدارة الرئيس جو بايدن، والتي عملت على استعادة متانة التحالف مع أوروبا بعد الهزة التي تعرضت لها في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب. وقد جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتزيد من تقارب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ ومن ثم اقترابه من المنظور الأمريكي من الصين؛ ومن ثم فقد بات الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على شركات صينية على خلفية تعاملاتها مع روسيا. ويحدث هذا على الرغم من أن هناك أصواتاً أوروبية تنادي بما يسمى "الاستقلال الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي.
الصين من جانبها لا تخفي تأييدها لمثل هذه الأصوات انطلاقاً من قناعتها بأن الانسياق الأوروبي خلف الولايات المتحدة من شأنه أن يخلق المشكلات أكثر مما هو عنصر استقرار، ولاسيما في ظل عدم مراعاة اعتبارات أمن ومصالح الدول الأخرى، وهذا لا يصب في تحقيق ما تنادي به الصين من نظام دولي متعدد الأقطاب قائم على العدالة للجميع. يأتي هذا في الوقت الذي ترى فيه واشنطن أن الصين تُعد بمثابة أكبر تهديد للنظام الدولي القائم على القواعد. وبشكل أو آخر تجر واشنطن القوى الأوروبية معها إلى هذا التوصيف، ولو عبر تجمعات دولية مثل مجموعة الدول الصناعية السبع. وربما يكون هذا أحد أبعاد تفسير التوصيف الأوروبي للصين بالخصم النظامي. وقد لا يقف الأمر عند مسألة النظام الدولي، وإنما يستدعي التوصيف الاختلافات الأيديولوجية التي كان يُعتقَد أنها قد تراجعت كثيراً أو تلاشت في خطاب العلاقات الدولية؛ ومن ثم فإن الصين تدعو الاتحاد الأوروبي للانضمام إليها في معارضة الحرب الباردة الجديدة، التي ستحمل أضراراً للطرفين.
ولم تقف الصين عند مجرد الاستغراب من التوصيف الأوروبي لها، وبيان ما يؤدي إليه من عثرات للعلاقات الثنائية، وإنما ذهبت إلى أنه "ينبغي أن يكون التوصيف الصحيح للجانبين هو الشراكة، وأن يكون التعاون نقطة مميزة للعلاقات، والاستقلالية الذاتية قيمتها الرئيسية، والفوز المشترك مستقبلها"، على حد وصف وزير الخارجية الصيني. هذه التوصيفات الصينية تعكس نهجاً عاماً في السياسة الخارجية الصينية عنوانه المباراة غير الصفرية، وفيه تندرج الكثير من المبادرات التي طرحتها على مدار سنوات من بينها مبادرة الحزام والطريق ومبادرة الأمن العالمي.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي تحديداً، فإن الصين ترى أنه لا توجد بينهما تناقضات استراتيجية وجيوسياسية، كما أنه لا يوجد تضارب كبير في المصالح، والأهم من ذلك أن المشترك من المصالح يحد من الخلافات. وتواصل الصين القول باعتقادها إن قوة كل طرف بمثابة مصلحة أساسية للطرف الآخر، فقد اعتبر وانغ يي، أن التعاون المتبادل المنافع بين الجانبين من شأنه الحيلولة دون نجاح محاولات خلق المواجهة بين المعسكرات، كما أن التزام الطرفين بالانفتاح سوف يحول دون سيادة التيار المضاد للعولمة.
هذه الرؤية الصينية فضلاً عما قد تُوصَف به من المثالية التي قد لا توجد على أرض الواقع، فإنها في الكثير من جوانبها تعزف على لحن مغاير للحن الأمريكي فيما يتعلق بما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين القوى الدولية والصين.
القضايا الأساسية في علاقات الطرفين:
إن إدراك كل طرف للطرف الآخر يرتب سياسات في اتجاهات معينة، ومجمل تفاعل هذه السياسات ينتج مجمل العلاقات. وهنا يُلاحَظ أن الاتحاد الأوروبي يَعتبِر علاقاته الاقتصادية مع الصين في موضع القلب بالنسبة لتلك العلاقات. وإذا كانت تلك العلاقات قد نمت بكثافة وبسرعة في العقود القليلة الماضية، فإن هذا النمو وتلك الوتيرة قد أدت إلى خلل مزمن في الميزان التجاري لصالح الصين وصل إلى حوالي 425 مليار دولار في عام 2022. ولم يخف الاتحاد الأوروبي انزعاجه من هذه المسألة، بل جاءت أزمة وباء "كورونا" لتكشف عن جوانب مهمة في درجة اعتماد الاتحاد الأوروبي العالية على الصين بالنسبة لبعض المنتجات. ولا يقف الانزعاج الأوروبي عند مسألة الخلل في الميزان التجاري، وإنما يتحدث المسؤولون الأوروبيون كثيراً عما يعتبرونه عقبات أمام دخول شركاتهم ومنتجاتهم إلى السوق الصينية، في ظل بيئة استثمارية يرون أنها ما زالت تحتاج إلى إصلاحات.
الصين من جانبها لا تخفي الانزعاج من العوائق التي باتت تواجه شركاتها في الأسواق الأوروبية، وتطالب بمعاملتها بعدالة. ودائماً ما تؤكد أهمية عدم الإضرار بسلاسل الإمداد، وعدم اتخاذ إجراءات تمييزية ضد الشركات الصينية، ناهيك عن رفض فرض العقوبات عليها. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى التنامي الكبير في حركة قطارات الشحن بين الصين وأوروبا، والتي كانت قد بدأت في عام 2013، فقد أصبحت هذه القطارات تصل إلى 219 مدينة في 25 دولة أوروبية. وهنا تكفي الإشارة إلى أن الفترة من يناير إلى نوفمبر 2023 قد شهدت نقل 1.75 مليون حاوية على متن 16145 قطاراً. وخلال شهري يناير وفبراير من العام الجاري 2024 بلغ عدد رحلات القطارات 2928 بزيادة 9% عن نفس الفترة من العام السابق. ولا يخفى تأثير أزمة الملاحة في البحر الأحمر في تزايد الطلب على النقل بالقطارات بين الصين وأوروبا. وبغض النظر عن تلك الأزمة، فإن الاتجاه العام لهذه الخدمة آخذ في التزايد، خاصة في ظل التحسن الذي يطرأ على ظروف الشحن وكذلك التراجع في الفترة الزمنية التي تستغرقها الرحلة.
وإلى جانب الخلافات حول العلاقات الاقتصادية تحضر القضايا السياسية والأمنية أيضاً، ليس فقط في السياق الثنائي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي. وعلى رأس هذه القضايا ما يتعلق بحقوق الإنسان في الصين، فدائماً ما يثير الاتحاد الأوروبي هذه القضايا سواء في السياق الثنائي أم في السياقات الدولية. ومن حيث المبدأ تَعتبِر الصين أن هذه القضايا من قبيل المسائل الداخلية التي لا تقبل تدخلاً فيها، وإن قبلت بالدخول في حوارات بشأن بعضها.
وقد كانت بعض هذه القضايا مؤثرة في العلاقات خاصة فيما يتعلق بعقد لقاءات مهمة من قبيل القمة بين الصين والاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال، أجلت الصين عقد القمة الـ 11 مع الاتحاد الأوروبي التي كانت مقررة في شهر ديسمبر من عام 2008 احتجاجاً على زيارة الدالاي لاما، زعيم التبت بعض دول الاتحاد وجدولة لقاءات له مع مسؤولين أوروبيين من بينهم الرئيس الفرنسي آنذاك، نيكولا ساركوزي، والذي كانت بلاده تترأس الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت.
وبالطبع تأتي تايوان على رأس أهم القضايا السياسية والاستراتيجية بالنسبة للصين، التي تقف بالمرصاد لأي نوع من الاتصالات السياسية مع تايوان أو أي إجراء آخر ترى فيه إخلالاً بمبدأ الصين الواحدة. وإذا كانت الصين قد تصرفت بحزم مع زيارات كبار المسؤولين الأمريكيين إلى تايوان، فإنها تطالب الدول الأوروبية بالتوقف عن إرسال أي من الإشارات التي تعتبرها خاطئة فيما يتعلق بتايوان؛ إذ كانت بكين قد طالبت جمهورية التشيك في يناير 2023 بتصحيح خطئها المتمثل في قيام رئيسها المنتخب، بيتر بافيل، بإجراء مكالمة هاتفية مع رئيسة تايوان تساي إنغ ون.
وبينما تكرر الصين تأكيدها أهمية منظمة الأمم المتحدة وضرورة احترام ميثاقها، يذهب الاتحاد الأوروبي إلى مطالبة الصين بالتعامل بشكل شامل مع ميثاق المنظمة الدولية؛ ومن ثم يطالب الاتحاد الصين بالتأثير في روسيا حتى تُوقِفَ حربها في أوكرانيا. وبعيداً عن الدخول في تفاصيل الموقف الصيني من الوضع في أوكرانيا، فإن المنطلق الأوروبي في التعامل مع هذه القضية مختلف تماماً مع المنطلق الصيني، وهذا الاختلاف عائد إلى مسائل تتعلق بالرؤية الاستراتيجية فيما يتعلق بالأمن وطرق تحقيقه والتحالفات العسكرية ومجالات عملها ومراعاة المصالح الأمنية للدول الأخرى.
أخيراً، يبدو من الواضح أن العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي قد تطورت كثيراً، ومع هذا التطور ازدادت تشابكاً وتعقداً، بما يمكن القول معه إن هناك درجة كثيفة من الاعتماد المتبادل خاصة على الصعيد الاقتصادي والتجاري، وهو ما لا يمكن أن تنفك عراه بفعل الحسابات الأمنية والسياسية. كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن التأثير الأمريكي في مسيرة علاقات الصين مع الاتحاد الأوروبي، لكن هذا التأثير متقلب إلى حد كبير بسبب التغيرات المصاحبة لكل إدارة أمريكية. أيضاً، فإن الحديث عن علاقات الصين مع الاتحاد الأوروبي لا بد أن يأخذ في الاعتبار التفاوت في السياسات الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الرغم من كل ما حققه المشروع الوحدوي الأوروبي. والحاصل من كل هذه العوامل أنه طبقاً للتوصيف الذي قدمه وزير الخارجية الصيني لعلاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي، فإن تلك العلاقات أصبحت على مفترق طرق مجدداً، وأنها تشبه الآن سيارة أمامها إشارات مرور، خضراء وحمراء وصفراء، وهي إشارات يمكن القول إن الطرفين يمتلكان جزءاً من التحكم في مفاتيح الإضاءة الخاصة بها.