عرض: عبدالله الشريف
لأن مستقبل التفاعلات العالمية غير مؤكد وحافل بالمفاجآت غير المتوقعة؛ فقد يكون من الأهمية بمكان فهم العوامل والاتجاهات التي تؤثر في أنواع المشكلات ومستويات التعقيد التي من المتوقع أن تشكل تطور النظام الدولي حتى عام 2030 وما بعده. تكمن أهمية ذلك في ظل وجود موجات من "الضجيج/ والضجيج المضاد" حول تسارع وتيرة الابتكار التكنولوجي وتأثيره المُحتمل، بينما يميل البعض إلى التركيز على العوامل غير التكنولوجية، خاصةً في التقاليد العسكرية الغربية.
ومع السعي إلى تحسين دورة عمل صنع واتخاذ القرار وضمان قدرة القيادة على اتخاذ قرارات عالية الجودة في مشهد استراتيجي يتسم فيه الصراع الدولي بأنه أسرع وأكثر تعقيداً من أي وقت مضى في التاريخ، طرحت مؤسسة راند ورقتين بحثيتين في يناير 2024، تحت عنوان "القيادة والسيطرة في المستقبل"؛ إذ اهتمت الورقة الأولى ببحث آليات التعامل مع التعقيد، في حين ركزت الثانية على مؤسسة القيادة والسيطرة الدفاعية، والتعاطي مع المتطلبات التي تنشأ من التعقيد في بيئة التشغيل المستقبلية خاصة بالنسبة للمملكة المتحدة.
القيادة والسيطرة في المستقبل:
لا يوجد تعريف متفق عليه لـ"القيادة والسيطرة" (C2)؛ نظراً لوجود جدل كبير حول نطاق المصطلح وأهميته في بيئة التشغيل المعاصرة، إلا أن دراسة "راند" تحدده كنظام اجتماعي تقني ديناميكي ومتكيف تم تصميمه لتنفيذ العمل المشترك بهدف توفير التركيز للأفراد والمنظمات، حتى يتمكنوا من دمج مواردهم وأنشطتهم وتعظيمها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، بكل ما يستتبع ذلك من ضرورة النظر في العناصر التنظيمية والتقنية والبشرية.
لذلك، هناك حاجة ماسة إلى إدخال تغييرات في دورة صنع القرار؛ فعلى سبيل المثال، يوفر التقدم في تقنيات الاستشعار والاتصالات فرصاً للحصول على مزيد من العمق واتساع قواعد البيانات، بما في ذلك البيانات المُتعلقة بالمشكلات المعقدة؛ ومن ثم فإن تحسين القدرة المعرفية أمر ضروري لفهم كل هذه البيانات، وتسخير فوائد الإنسان والآلة مع التخفيف من عيوب كلٍ منهما، خاصةً وأن تغيير أساليب صنع القرار سيتطلب أيضاً تغييرات في أنماط القيادة، وذلك لجعل صناع القرار أكثر راحة في التعامل مع الأنظمة التكيفية المعقدة.
ترى الدراسة أن هناك أشكالاً مختلفة للمشكلات المُعقدة التي قد يُطلب من وزارة الدفاع البريطانية معالجتها، فمن المُحتمل أن تكون هناك نماذج متوازية متعددة من القيادة والسيطرة في وقتٍ واحد، بدلاً من اتباع نهج متجانس. ولمعالجة ذلك؛ من المهم التعلم المستمر والتكيف والانفتاح على التغيير، وبالتالي يجب دمج تدابير التأثير وآليات التغيير في الخطط وفي أنظمة ومنظمات السيطرة والقيادة منذ البداية لتمكينها من التعلم والتكيف مع مرور الوقت استجابةً للظروف أو بيئات التشغيل المستقبلية.
يقتضي ذلك استكشاف تلك البيئات عبر الإجابة عن تساؤلات مثل: ما ملامح بيئة التشغيل المُحتملة لكلٍ من وزارة الدفاع البريطانية وشركائها الغربيين في ظل وجود منافسة مستمرة وعمليات متعددة المجالات؟ ما الطبيعة المُحتملة للتعقيد الذي ستواجهه أنظمة ومنظمات القيادة والسيطرة المستقبلية؟ ما الذي ستتطلبه تلك البيئة من قدرات وأنظمة ومنظمات القيادة والسيطرة المستقبلية؟ كيف سيختلف هذا عما هو عليه اليوم، ما الذي يجب تغييره؟ هل تستطيع المنظمات الاستجابة بفعالية لهذه المطالب؟ للإجابة عن هذه التساؤلات؛ تمحورت الدراسة حول مناقشة تعريفات لمصطلحات أساسية، كالقيادة والسيطرة والتعقيد. كما سعت للتعرف إلى دوافع التعقيد حتى عام 2030 وما بعده.
وترى الدراسة أن طبيعة القيادة والسيطرة كنظام اجتماعي تقني ديناميكي ومتكيف مصمم لتنفيذ العمل المشترك تستلزم النظر ليس فقط للدور المُحتمل للتكنولوجيا "الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي" في تقديم الحلول، لكن أيضاً التفاعل مع الإنسان عبر التطورات التي تتمحور حول تغيير المعايير والقيم والأخلاق والتصورات، بمعنى الطرق الممكنة لدمج الإنسان والآلة داخل النظام، مع الأخذ في الاعتبار نقاط قوة وضعف كلٍ منهما.
وكما تشير الدراسة، فغالباً ما تنتج الأنظمة المُعقدة تحديات تُعرف باسم "المشكلات الشريرة"، وهي مواقف غير مستقرة تقاوم الحل عن طريق حل المشكلات الكلاسيكية، كما تفتقر إلى السلطة المركزية أو التنسيق الذي يمكن تطبيقه لحل المشكلة. وتشبه هذه المشكلات "الفوضى الاجتماعية" لأنها تتعلق بأصحاب مصلحة متعددين ولا يوجد حل واحد متفق عليه للمشكلة، ناهيك عن كيفية حلها. كذلك، تصور بعض المنظرين فئة مشكلات أخرى "فائقة الشر"، مثل تغير المناخ، التي تُعد غير قابلة للحل، بسبب خصائصها الآتية؛ فالوقت المناسب لحلها ينفد، وكذلك يُترك الحل في أيدي الأشخاص الذي يخلقون المشكلة.
الدوافع الرئيسية للتعقيد:
إن طبيعة بيئة التشغيل المستقبلية، وأنواع المهام التي من المتوقع أن تقوم بها أنظمة ومنظمات القيادة والسيطرة يخيم عليها قدر كبير من عدم اليقين؛ مما يتطلب الحذر بشأن أية توقعات مستقبلية. مع ذلك، توجد مجموعة اتجاهات من المتوقع أن تشكل تطور النظام الدولي حتى عام 2030 وما بعده، من أبرزها ما يلي:
- تنامي المنافسة العالمية: إذ تزخر وثائق الاستراتيجية والسياسات الحكومية والمصادر الأكاديمية أو مؤسسات الفكر والرأي بالإشارة إلى المنافسة المُتزايدة بين القوى الكبرى، والعالم متعدد الأقطاب والفوضوي بشكل متزايد، والتحديات "التعديلية" للنظام الدولي القائم على القواعد الليبرالية ما بعد عام 1945، والذي يقوم على هيئات مثل: الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، ونظام "بريتون وودز" ومبادئه مثل قدسية الحدود السيادية.
يُنظر إلى هذه الاتجاهات الجيوسياسية والجيواقتصادية على أنها تقود إلى التعقيد من خلال زيادة التحديات المُتزامنة والمتقاربة التي تواجه المجتمعات، وبالتالي الحكومات والجيوش، من حيث تزايد عدم الثقة في تفاعلات الساحة الدولية؛ مثلما حدث مع التدخل الروسي في أوكرانيا، والتحدي الصيني، والصعوبات المستمرة التي تمثلها أنظمة مثل: كوريا الشمالية وإيران، فضلاً عن توسيع نطاق المنافسة العالمية، والتي تتمثل في استخدام جميع أدوات القوة؛ عبر مزيج من الوسائل السرية والغامضة والعلنية والقابلة للإنكار.
- تأثير تغير المناخ: قد تؤدي الاتجاهات الاجتماعية والبيئية إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار والصراع حتى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الحادي والعشرين، والأمثلة هنا تشمل التغير البيئي والطقس المتطرف؛ إذ قد يؤدي تسارع تغير المناخ والتلوث إلى تغيرات شاملة وغير متوقعة في جميع مناطق العالم. ومن المُرجح أن يؤثر كل هذا في مؤسسات الدفاع في بريطانيا، من حيث المهام التي يُطلب منها القيام بها (على سبيل المثال، المساعدة العسكرية للسلطات المدنية، والمساعدات الإنسانية والإغاثة في حالات الكوارث).
من المتوقع أيضاً أن تؤدي حالة الطوارئ المناخية والوعي المتزايد بالمخاطر المُحتملة لأمن الطاقة (على سبيل المثال، في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية) إلى استمرار الاستثمار في الطاقة المتجددة، على الرغم من أنه من المتوقع احتفاظ النفط والغاز بدور مهم خلال العقود المقبلة. كذلك قد يؤدي تغير المناخ والتلوث إلى انقطاع إمدادات الغذاء والمياه، مما قد يزيد الهجرة وعدم الاستقرار والعنف الطائفي، خاصةً في المناطق الهشة في العالم.
يرتبط ما سبق بالتحولات الديمغرافية وندرة الموارد؛ فمن المرجح أن يؤدي تزايد عدد سكان العالم إلى زيادة الطلب على تقاسم الموارد والتنافس على الأراضي والمواد الخام. وستكون الاتجاهات الديمغرافية متفاوتة بين المناطق، مع طفرة سكانية من الشباب في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا. كذلك، من المتوقع أن تؤدي الأحداث المُتعلقة بتغير المناخ مثل: الفيضانات والتصحر إلى زيادة الهجرة الداخلية وعبر الحدود وتدفقات اللاجئين. وسيشمل ذلك الهجرة نحو أوروبا والمملكة المتحدة بطبيعة الحال.
- تأثير التكنولوجيا والرقمنة: مع استمرار التحول الرقمي في العالم، تحظى الاتصالات التكنولوجية بدور محوري داخل أنظمة القيادة والسيطرة العسكرية، مدفوعة باتجاهات التغير التكنولوجي وتسارع وتيرة الابتكار؛ إذ يتميز الابتكار التكنولوجي بطبيعته المنتشرة والمتعولمة. لكن مركز الابتكار تحول بعيداً عن القطاع العام (بما في ذلك مختبرات الدفاع) نحو القطاع الخاص، ومن الشركات الكبيرة المتكاملة رأسياً إلى شبكة منتشرة وموزعة عالمياً من الشركات المُبتكرة والشركات الصغيرة والمتوسطة المتخصصة.
فاليوم، تفوق ميزانيات البحث والتطوير الخاصة بالشركات الكبرى المتعددة الجنسيات ميزانيات وزارة الدفاع في المملكة المتحدة بكثير، ومن المتوقع استمرار هذا الاتجاه في المستقبل، مع تزايد التركيز على التكنولوجيات المدنية وذات الاستخدام المزدوج (تطبيقات مدنية وعسكرية على حد سواء)، وهذا يعني ضمناً تقلص دور الحكومة، والدفاع على وجه التحديد في تشكيل اتجاهات الابتكار والأسواق.
- عدم وضوح المجالات التقليدية والجديدة: قد تتضاءل الفروق التقليدية بين المجالات مع ظهور الأنظمة والشبكات العالمية عبر العالم، ويصبح مترابطاً بشكل متزايد؛ من حيث المنافسة في الفضاء السيبراني؛ إذ يؤدي تزايد اعتماد كلٍ من الجيوش والمجتمعات على البيانات والشبكات إلى الحاجة إلى الأمن السيبراني والدفاع السيبراني الفعال، وينعكس ذلك في التقدم المستمر في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بما في ذلك تقنيات الجيل الخامس والسادس، وكذلك في قدرات الحرب الإلكترونية (مثل أنظمة الحرب الإلكترونية الإدراكية، وإشارات التشويش أو الانتحال).
- تحول المعايير الدولية ومجموعات القيم: هنالك تحديات تواجه الثقة والشرعية في أنظمة الحوكمة خاصة مع الفشل في الوفاء بالتعهدات المُتعلقة بالنمو الاقتصادي، أو تخفيف الأثر السلبي للتكنولوجيا، أو مكافحة تغير المناخ. وكذلك هنالك تحديات السيادة، من حيث تآكل احتكار الدولة للعنف المشروع والمبادئ الأساسية للسيادة. ومع تزايد تأثير المنظمات غير الحكومية والشركات المتعددة الجنسيات ووسائل الإعلام وشركات التكنولوجيا الكبرى، من المتوقع أن يؤدي أولئك الفاعلون دوراً متزايداً في تشكيل المعايير والقوانين واللوائح الدولية، فضلاً عن أن الصراع بين الدول (مثل حرب أوكرانيا، أو ربما حرب أخرى محتملة على تايوان) قد يزيد من تقويض قدسية مبادئ ما بعد عام 1945 مثل حل الخلافات من خلال الدبلوماسية بدلاً من العدوان المسلح.
ختاماً؛ لا يوجد اتجاه واحد أو رئيسي يقود التغيير أو التعقيد في البيئات المستقبلية؛ بل إن التقاء عوامل مُتعددة وتفاعلاتها غير المتوقعة هو الذي يثير القلق. فقد لا ترغب المملكة المتحدة دائماً في أن يتخذ خصومها قرارات سيئة، لأن ذلك قد يؤدي إلى وضع غير مناسب لجميع الأطراف؛ لذلك فهي تحتاج إلى بعض الضمانات بأن عدم اليقين العميق لن يدفع المعارضين إلى الوقوع في تصرفات تمثل نتيجة صافية أسوأ بالنسبة للمملكة المتحدة حتى لو كانت ضارة أيضاً لخصومها.
كما يجب أن تعمل أنظمة ومنظمات القيادة والسيطرة في المستقبل على تعزيز الخصائص الشاملة الرئيسية مثل: المرونة والقدرة على التكيف والقدرة على التعلم. خاصةً وأن وفرة البيانات، والتحديات التي تواجه سلامة هذه البيانات ومصداقيتها، تؤدي إلى إجهاد القدرات المعرفية المحدودة وتخاطر بتحميل المعلومات الزائد وشلل اتخاذ القرار، فالتحدي الأساسي الذي يواجه القيادة والسيطرة هو تعزيز قوة المعالجة الأولية والقدرة على تنظيف هذه البيانات ودمجها وتحليلها، وهو ما يوفره التقدم المستمر في تكنولوجيا المعلومات، وتحليلات البيانات الضخمة.
المصادر:
Black, J., Lucas, R., Kennedy, J., Hughes, M., & Fine, H. (2024, January 29). Command and Control in the Future: Concept Paper 1: Grappling with Complexity. RAND. Avaialable at:
https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA2476-1.html
Lucas, R., Ellis, C., Black, J., Carlyon, P., Kendall, P., Kendall, J., Coulson, S., & Jeffries, L. (2024, January 29). Command and Control in the Future: Concept Paper 2: The Defence C2 Enterprise. RAND. Avaialable at:
https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA2476-2.html