تجتاح دول أوروبا موجة احتجاجات جديدة واسعة المدى من قِبل المزارعين، استمراراً لموجات واحتجاجات سابقة، ولاسيما تلك التي نشطت ما بين عامي 2019 و2023، وهي الفترة التي اصطدمت خلالها الاقتصادات الأوروبية والعالمية بأزمتي وباء "كوفيد19"، والحرب الروسية الأوكرانية، التي زادت وتيرة الاحتجاجات على إثر ارتفاع أسعار الطاقة، كالتي حدثت في هولندا عام 2022، وفي بولندا في إبريل 2023، وألمانيا في ديسمبر الماضي.
وبدأت في فرنسا سلسلة الاحتجاجات الأوروبية لعام 2024، في مشهد يعود بالأذهان إلى أزمة "السترات الصفراء" (2018-2019). وسرعان ما انتشرت هذه العدوى الاحتجاجية للمزارعين في دول عدة ما بين اقتصادات كبرى مثل: ألمانيا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا، ودول أخرى مثل: بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر وجمهورية التشيك.
احتجاجات متصاعدة:
انتهى شهر يناير 2024 واحتجاجات المزارعين تتزايد في أوروبا، ولا تتوقف في قرى الدول بل امتدت إلى مقر اجتماع المفوضية في بروكسل يوم الأول من فبراير الجاري، الأمر الذي دفع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إلى الإعلان عن حوار استراتيجي يجمع المزارعين المحتجين والمنظمات البيئية.
وقد ظهرت مؤشرات مختلفة تؤكد تصاعد الاحتجاجات الزراعية في العديد من دول أوروبا، أبرزها ما يلي:
1- حصار المدن والعواصم الأوروبية: تطورت الاحتجاجات في فرنسا من إغلاق الطرق السريعة غرب وجنوب غرب البلاد، والطرق الرئيسية المؤدية إلى باريس، مع حرص المحتجين على نصب خيمهم على بعد 30 كيلومتراً من الشانزليزيه، إلى النية لفرض حصار حول العاصمة الفرنسية. وألقى المحتجون المخلفات الزراعية في الطرق وأمام المقار الحكومية، وأنشأوا حواجز من القش، فضلاً عن قيادة الجرارات الزراعية ببطء من أجل إحداث اختناق مروري في الطرق الرئيسية.
وفي ألمانيا، اتبع المزارعون خُطى المحتجين الفرنسيين، إذ أغلق حوالي 30 ألف مزارع ومعهم 5000 جرار، العاصمة برلين، خلال الأسبوعين الثاني والثالث من شهر يناير الماضي. وبعد وعود حكومية بتحقيق مطالب هؤلاء المحتجين، تراجعت الاحتجاجات فترة قصيرة، لكنها سرعان ما عادت مرة أخرى في بداية شهر فبراير الجاري اعتراضاً على ضرائب الديزل.
وتكرر حصار المدن والعواصم الأوروبية الكبرى من قِبل المزارعين في إسبانيا وإيطاليا واليونان وغيرها من الدول. إذ انضم المزارعون الإسبان، في الأسبوع الأول من فبراير الجاري، إلى الاحتجاجات التي تجتاح أوروبا. واصطفت الجرارات على الطرق السريعة في المدن الإسبانية بما في ذلك مدريد وإشبيلية وتوليدو وغرناطة وهويلفا وسرقسطة وسيوداد وفالنسيا وملقة ومورسيا وتاراغونا، مما تسبب في اضطرابات مرورية، وإغلاق متقطع للطرق. واستمرت مظاهرات المزارعين الإسبان حتى يوم 10 فبراير، وسط إغلاق السلطات الطرق المؤدية إلى العاصمة مدريد. وأعلنت نقابات المزارعين الإسبان عن خطط للتعبئة في مدن مختلفة يومياً، وتنظيم مظاهرات كبرى في كتالونيا في 13 فبراير الجاري، ومدريد في 21 فبراير الجاري.
وفي إيطاليا، توجهت قافلة من المزارعين الإيطاليين بجراراتهم في مسيرة على طول طريق غراند راكوردو أنولاري الدائري حول العاصمة روما مساء يوم 9 فبراير الجاري. وصرحت رئيسة الوزراء، جيورجيا ميلوني، في وقت سابق، عقب مشاركتها في اجتماع لقادة الاتحاد الأوروبي ببروكسل، بأن الاتحاد ارتكب أخطاءً فيما يتعلق بالسياسات الزراعية، داعية إلى تغيير هذه السياسات.
2- التظاهر أمام مقار المؤسسات الأوروبية: وسع المحتجون نطاق احتجاجهم وتظاهراتهم إلى مهاجمة مباني الاتحاد الأوروبي، فذهب بعضهم إلى مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، وأغلقت الجرارات شوارع العاصمة البلجيكية، وتظاهر البعض الآخر أمام مقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ بفرنسا، ملقين عليه الزجاجات والبيض.
3- إغلاق الحدود بين الدول الأوروبية: عمد المحتجون في كل من بولندا وبلغاريا ورومانيا، والتي ترتبط بحدود جغرافية مع أوكرانيا، إلى اتباع سياسة مشتركة، تمثلت في غلق المعابر الحدودية التي تأتي منها الواردات الزراعية الأوكرانية، المنافسة للسلع الوطنية في هذه الدول. وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة البولندي الجديد، دونالد تاسك، اتفق مع المحتجين في بلاده على تقديم إعانات، مما دفعهم إلى تعليق حصارهم وغلقهم للحدود في 6 يناير 2024؛ فقد عاد المحتجون إلى التظاهر مجدداً في 14 من نفس الشهر.
في المقابل، استخدم المزارعون الهولنديون أسلوباً مزدوجاً ما بين حصار المدن وتعطيل الحركة وغلق الحدود. وتضامن المزارعون البلجيكيون مع نظرائهم في هولندا، وتم غلق المعابر الحدودية بين بلجيكا وهولندا، كما بنيت في الأخيرة حواجز عند طرق مثل: (A4) بين مدينتي بيرخن أوب زووم الهولندية وأنتويرب البلجيكية، و(A16) بين مدينتي بريدا الهولندية وأنتويرب، و(A67) بين مدينتي أيندهوفن الهولندية وأنتويرب، وحاصر المحتجون ميناء أنتويرب.
دوافع مشتركة:
يختلف سياق الاحتجاجات الزراعية في أوروبا من دولة لأخرى. ففي ألمانيا، لا يحتج المزارعون فقط بل الأطباء وعمال السكك الحديدية، وخاصة الفئة الأخيرة التي غالباً ما تمارس ضغوطاً سنوية لزيادة الأجور أو تعديل بيئة العمل. أما في فرنسا، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون يواجه احتجاجات متكررة، لعل جزءاً منها مرتبط بالسوابق التاريخية في البلاد، كالتي حدثت عادةً مع معظم رؤساء فرنسا السابقين منذ شارل ديغول وإلى الآن. وخرجت ضد الرئيس ماكرون تظاهرات عدة ما بين احتجاجات ضد قانون الهجرة، وقانون المعاشات التعاقدية. فيما جاء جزء آخر من الاحتجاجات نتيجة سياسات ماكرون الاقتصادية، والتي خرج ضدها أنصار "السترات الصفراء" في عام 2018، ثم المزارعون في عام 2024، إذ يرى المحتجون أن هذه السياسات الاقتصادية تميل نحو الطبقات الغنية والشركات الكبرى.
وتوجد دوافع مشتركة للاحتجاجات الزراعية في عموم أوروبا، منها ما يلي:
1- الدعم الأوروبي لأوكرانيا: منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، وكجزء من دعم الغرب لكييف، حصلت الأخيرة على تنازلات أوروبية فيما يخص الرسوم المفترض توقيعها على صادراتها، مما جعل هناك ميزة نسبية لمنتجاتها وخاصةً الغذائية والزراعية منها، ومن ثم تمتعت بتفوق تنافسي مقارنةً بالسلع والمحاصيل الزراعية لدول الاتحاد الأوروبي والتي يحتج مزارعوها على سوء أوضاعهم وتراجع الدخل العائد من بيع محاصيلهم الزراعية، فضلاً عن عدم التزام أوكرانيا بنفس المعايير الغذائية والزراعية التي تُطبق على الزراعة والغذاء لدى المزارعين في الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي ارتفعت فيه تكاليف الطاقة والأسمدة مما يزيد أيضاً من تكاليف الزراعة في الاتحاد الأوروبي.
ومما يزيد تفاقم الأوضاع أنه في حين هناك توجه لزيادة الضرائب على الديزل (في ألمانيا ودول أخرى)، مما يعنى زيادة جديدة لتكاليف الإنتاج الزراعي وارتفاعاً آخر في أثمان السلع الزراعية؛ فإن قادة الاتحاد الأوروبي وافقوا على دعم أوكرانيا بمقدار 50 مليار يورو.
2- معارضة الرأسمالية العالمية: تتحكم سلاسل التوريد والشركات الكبرى المالكة لمحلات الأغذية أو فروع تجارة التجزئة في نوعية وسعر المعروض، وهي ليست بالضرورة معنية بتحمل تكاليف السلعة الوطنية أو دعمها أو حتى تطبيق الحمائية التجارية نحوها، وهو ما انعكس بصورة كبيرة على منتجات المزارعين الأوروبيين في عدة أمثلة، منها اتفاقيات التجارة الحرة، التي تُعد إحدى أبرز النقاط المستهدفة من قِبل المحتجين في الاتحاد الأوروبي. فالمنافسة غير العادلة – طبقاً للمحتجين- تأتي من تلك الاتفاقيات، وعلى رأسها الاتفاق الأخير بين الاتحاد الأوروبي وكتلة "الميركوسور" التجارية (تضم البرازيل والأرجنتين وباراغواي وأوروغواي)، والذي من المُفترض أن يتم التصديق عليه والموافقة النهائية قبل شهر يونيو المقبل، وبموجبه سوف تزيد الواردات من كتلة "الميركوسور" من لحوم البقر والدواجن والسكر، والمُعفاة تقريباً من الرسوم الجمركية.
ويمكن تفسير خشية المحتجين من تلك الاتفاقية، في ضوء أن الاتحاد الأوروبي يُعد ثاني أكبر مستورد للحوم من البرازيل عام 2022، وأن السلع الزراعية والحيوانية من دول كتلة "الميركوسور" تتمتع بتكلفة منخفضة ومعايير بيئية مختلفة عن تلك المتبعة في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي يميل المواطن الأوروبي لشرائها على حساب المنتج المحلي. وهذا ما تجلى في زيادة واردات اللحوم البرازيلية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 27% في الأشهر الستة الأولى من 2023 مقارنةً بنظيرتها في 2022، وتصدرت هولندا وإسبانيا وإيطاليا ترتيب الدول المستوردة للحوم البقر البرازيلية. ونفس الأمر يطبق على اتفاقيات التجارة مع دول أخرى مثل نيوزيلندا.
3- انعكاسات استراتيجية "من المزرعة إلى المائدة": يحكم قطاع الزراعة في دول الاتحاد الأوروبي ما يُسمى بـ"السياسة الزراعية المشتركة" (CAP)؛ وهي سياسة بموجبها يحصل المزارعون على دعم سنوي يُقدر بـ60 مليار يورو. واستجابة لـ"الصفقة الأوروبية الخضراء"، يُفترض أن تُعدل "السياسة الزراعية المشتركة"، وفق استراتيجية "من المزرعة إلى المائدة"، التي تهدف إلى خفض المبيدات الحشرية بنسبة 50% بحلول 2030، وخفض استخدام الأسمدة بنسبة 20%، وترك نسبة 4% من الأراضي الزراعية دون استخدام أو تبويرها، مع مضاعفة الإنتاج العضوي بنسبة 25%. من جانبهم، يرى العديد من المحتجين وبعض النقابات الزراعية أن "الصفقة الأوروبية الخضراء" واستراتيجية "من المزرعة إلى المائدة"، سوف تؤدي إلى تقليص مساحة الأراضي الزراعية، ومن ثم التأثير في حجم الإنتاج الزراعي والحيواني في ظل بيئة تنافسية غير عادلة، تشمل واردات اتفاقيات التجارة الحرة، ودعم أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة وما يتبعها من مدخلات الإنتاج.
تداعيات مُحتملة:
اتسمت احتجاجات المزارعين في أوروبا منذ بداية عام 2024، بالتذبذب وعدم اليقين، فالحراك والتظاهرات ليسا على وتيرة واحدة في كل دول الاتحاد الأوروبي. ففي حين تنشط الاحتجاجات في دولة أوروبية ما، ليس بالضرورة أن يعم ذلك بقية الدول، لكن ثمة تداعيات محتملة لهذه الاحتجاجات الزراعية يمكن الانتباه إليها كما يلي:
1- اندلاع أعمال عنف: تعددت مظاهر العنف في الاحتجاجات الزراعية، ما بين الهجوم على المؤسسات العامة، والاشتباك مع الشرطة، فضلاً عن حوادث الوفاة، كالتي جرت في فرنسا بمقتل مزارعة تُدعى ألكسندرا سوناك، هي وابنتها، في يناير الماضي، نتيجة الاصطدام بسيارة أمام أحد الحواجز التي وضعها المحتجون في جنوب فرنسا.
2- صعود اليمين المتطرف: عززت الأحزاب اليمنية المتطرفة وجودها على الساحة السياسية الأوروبية خلال الأعوام الماضية، وذلك ما بين تشكيل حكومة (كما هو في إيطاليا)، أو شريك في ائتلاف حاكم (فنلندا)، أو ضامن لاستقرار حكومة (كما هو الحال في السويد). وليس هناك أفضل من الاحتجاجات كبيئة يتغذى عليها اليمين المتطرف، فهولندا – إحدى الدول التي تنشط بها الاحتجاجات الزراعية- يتصدر فيها المشهد السياسي تحالف اليمين المتطرف (حزب الحرية) مع "حركة المزارعين المواطنين" (BBB)، التي نشأت للدفاع عن المزارعين والفلاحين في خضم الاحتجاجات الهولندية التي تجري منذ خمس سنوات، واستطاعت في الانتخابات التشريعية في نوفمبر الماضي أن تحصد 6 مقاعد إضافية مقارنةً بالانتخابات السابقة في 2021. وفي فرنسا، دعمت زعيمة اليمين المتطرف، ماريان لوبان، الاحتجاجات الزراعية، في الوقت الذي ترجح فيه بعض استطلاعات الرأي تقدم أحزاب اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة.
3- زعزعة التماسك الأوروبي: يتصدر الخطاب العام في الاحتجاجات الزراعية، الرفض لـ"الصفقة الخضراء" واتفاقيات التجارة الحرة ودعم أوكرانيا، هذا بخلاف الانقسام الحادث بالفعل بين قيادات الاتحاد الأوروبي ذاته على التوافق في عدة قضايا، منها الاتفاق مع كتلة "الميركوسور"، وموقف فرنسا من عدم تمرير الاتفاق على شاكلته الحالية، ربما استجابة للاحتجاجات أو استمرار تبني "السياسات الحمائية" التي لطالما اختلفت بشأنها باريس مع برلين.
ويأتي تكرار الاحتجاجات الزراعية من حين لآخر ليوضح وجود فجوات بين الحكومات الأوروبية وشعوبها، مع العلم أن تراجع الاتحاد الأوروبي عن بعض السياسات والإجراءات لتهدئة الشارع الأوروبي، كتأجيل تطبيق "الصفقة الخضراء"، بما في ذلك من تقليل استخدام الأسمدة وإعفاء المزارعين لمدة عام أو أكثر من نسبة ترك الأراضي الزراعية بوراً؛ يصب في النهاية، بالإضافة إلى العوامل السابقة، في اتجاه تهديد تماسك الاتحاد الأوروبي وقدرته على فرض قراراته مستقبلاً.
4- تكلفة متزايدة للاحتجاجات: تنشأ عن الثورات والاحتجاجات عادة تكاليف تتنوع بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فسياسياً، قد تؤدي الاحتجاجات إلى زعزعة استقرار الحكومات، أو إحداث خلل في علاقة المواطنين بأجهزة الدولة السيادية كالمؤسسات الأمنية. ففي فرنسا، تعرض الرئيس ماكرون، خلال فترتي رئاسته الأولى والحالية، لعدة احتجاجات اهتزت فيها صورته، واصطدمت الشرطة الفرنسية مع المواطنين إما إبان احتجاجات "السترات الصفراء"، أو الاحتجاجات الزراعية الحالية. واقتصادياً، تؤدي الاحتجاجات، وما ينتج عنها من فوضى في الشوارع وغلق للطرق، إلى خلل في سلاسل التوريد وعملية نقل وإنتاج الغذاء، ومن ثم تؤثر في الأمن الغذائي، وما يرتبط بذلك من خسائر اقتصادية.
إجمالاً، يمكن القول إن الاحتجاجات الزراعية وتكرارها قبل وبعد أزمات "كوفيد19" والحرب الروسية الأوكرانية، يعنى أن هناك خللاً حقيقياً في رؤية قادة الاتحاد الأوروبي وخططه، وهو ما يتضح في عدم وجود حلول جذرية لأزمات متكررة منذ سنوات. وما قامت به الحكومات من وقف بعض الإجراءات، والوعود بتنفيذ بعض المطالب الخاصة بالمحتجين، قد يُسكن الاحتجاجات فترة، لكنها غالباً ما ستعود من حين لآخر، طالما ظلت سياسات الحكومة الأوروبية منفصلة في بروكسل عن باقي العواصم الأوروبية.