يمثل 19 سبتمبر 2023، تاريخ سيطرة أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ عسكرياً، عقب عملية لم تستغرق سوى يوم واحد، بداية مرحلة انتقالية في جنوب القوقاز؛ تلك المنطقة التي تزداد أهميتها في الاستراتيجية الدولية والتنافس بين الفاعلين الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا، وبين الفاعلين الإقليميين ومنهم تركيا وإيران وإسرائيل التي دخلت على الخط من خلال ترتيب علاقات جيدة مع أذربيجان.
وفي هذا الإطار، يتناول هذا المقال التحولات المتوقعة في منطقة القوقاز خلال عام 2024، استناداً إلى عدد من المحددات والعوامل الرئيسية المؤثرة في تفاعلات هذه المنطقة.
موازين القوى:
تُعد منطقة القوقاز بثرواتها من النفط والغاز، ومرور طرق التجارة الدولية ونقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، أحد أهم الرهانات الاستراتيجية في هذه الآونة. فالقوى الدولية والإقليمية لها مصالح في هذه المنطقة تتعلق بالتداخل العرقي والثقافي والديني، علاوة على المصالح الاقتصادية.
وجاءت سيطرة أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ المُتنازع عليه مع أرمينيا منذ التسعينيات، لتكشف عن تغير في موازين القوى بين الدولتين لصالح أذربيجان. وتسعى باكو لتعزيز علاقاتها الدولية مع الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، حتى إن تصريحات بعض المسؤولين الأذريين تتحدث عن أمة واحدة في دولتين، خاصةً أن تركيا تحلم ببناء فضاء لها يمتد من البوسفور إلى آسيا ومن ضمنه بالطبع أذربيجان. كما زوّدت أنقرة حليفتها باكو بالأسلحة كالطائرات المُسيّرة وغيرها لدعمها في صراعها ضد أرمينيا لاستعادة إقليم ناغورنو كاراباخ.
فيما لم تتمكن أرمينيا من الحصول على الدعم الغربي الكافي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تضاءل فيه حضور الدعم الروسي، بالرغم من العلاقات الوطيدة بين البلدين، فكلاهما عضو في منظمة الأمن الجماعي (CSTO) التي ترعاها موسكو؛ وذلك بسبب انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية. وقد أسهم في تقليص الدعم الروسي لأرمينيا في صراعها مع أذربيجان، تولي رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، منذ عام 2018، الحكم إثر "ثورة ملونة" على حساب النخبة المؤيدة للعلاقات الوثيقة مع روسيا. كما أن أرمينيا لم تكتفِ بذلك، بل رفضت إجراء تدريبات على أراضيها من قِبل منظمة الأمن الجماعي، وعمدت إلى إجراء تدريبات مع القوات الأمريكية في سبتمبر 2023 وقدمت مساعدات إنسانية لأوكرانيا.
تحولات محتملة:
في ضوء حسم الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، يمكن رصد بعض التحولات التي من المُحتمل أن تشهدها منطقة القوقاز في عام 2024، وأهمها يتمثل في احتمالية إعادة هيكلة التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز من خلال حدوث تغيير في الديناميكيات السياسية بهذه المنطقة، بالإضافة إلى بعض التحولات التي قد تنجم عن تغيرات سياسية داخلية. ويمكن رصد أبرز هذه التحولات فيما يلي:
1- زعزعة الاستقرار الداخلي في أرمينيا: قد تدفع خسارة أرمينيا للصراع مع أذربيجان باتجاه تصاعد حالة الاستياء الداخلي من الحكومة الحالية، فقد اندلعت تظاهرات متزايدة تطالبها بالاستقالة. وتُرجح التقارير الغربية تفاقم هذا الاستياء، ومن ثمّ الاتجاه نحو مزيد من عدم الاستقرار مع مطالبة الأحزاب الموالية لروسيا في أرمينيا بضرورة استقالة الحكومة وإبعاد يريفان عن النفوذ الغربي.
2- تراجع الدور الروسي: من المُتوقع أن يتراجع الدور الروسي في منطقة القوقاز، في ظل تغير الأجندة الروسية بعد حرب أوكرانيا. وعلى الرغم من التنبؤ بتضاؤل دور موسكو في القوقاز الجنوبي، فإنها ما تزال تحتفظ بـ10 آلاف جندي يتمركزون في أرمينيا، بالإضافة إلى 2000 آخرين في ممر "لاتشين"، وذلك مقارنة ببعثة المراقبين المدنيين التي كان الاتحاد الأوروبي قد أرسلها العام الماضي ولا يتجاوز عددها عدة مئات.
3- محدودية الدور الأوروبي: تتزايد الشكوك حول قدرة الاتحاد الأوروبي على أداء دور مهم في القوقاز لصالح أرمينيا أو ملء الفراغ المُحتمل الذي يتنبأ به البعض نتيجة تراجع الدور الروسي. وتستند هذه الشكوك إلى أن أوروبا لم تدعم أرمينيا في صراعها مع أذربيجان، واكتفت ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار، وأن موقفها إزاء الصراع حول إقليم ناغورنو كاراباخ كان متناقضاً. ففي حين أكد الاتحاد الأوروبي وحدة أذربيجان الإقليمية، شدد في الوقت ذاته على حق تقرير المصير للأرمن القاطنين في الإقليم. هذا فضلاً عن التصدعات الداخلية في الاتحاد الأوروبي وتقلص الدور المُوحد لأوروبا إزاء الملفات الحيوية.
4- تعزيز الوجود الأمريكي: تعمل الولايات المتحدة على توسيع انخراطها في منطقة القوقاز من خلال توظيف العلاقات مع أرمينيا وخلافات الأخيرة مع روسيا، في تعزيز محاولة استقطاب يريفان بعيداً عن موسكو. وكشفت بعض التقارير التي نُشرت في وسائل الإعلام الأمريكية عن مساعٍ أمريكية مكثفة لاستغلال تراجع النفوذ الروسي في جنوب القوقاز ومحاولة التمدد في هذه المنطقة الجيوستراتيجية، ويعزز هذا الاحتمال القبول الضمني من الغرب، ولاسيما واشنطن، بتحركات أذربيجان الأخيرة لضم إقليم ناغورنو كاراباخ نهائياً.
5- صعود الدور التركي: تنطوي المعادلة الجيوسياسية الجديدة التي ترتبت على حسم مصير إقليم ناغورنو كاراباخ، على خلق توازنات جديدة في القوقاز، إذ برز الدور التركي الطامح إلى خلق فضاء ممتد من البوسفور حتى جنوب القوقاز، بحيث يتأسس على جاذبية النموذج التركي في الديمقراطية والمزاوجة بين الإسلام وروح العصر. وعلى الرغم من أن معظم الأذريين يدينون بالمذهب الشيعي، فإن الرابطة التركمانية والدعم الذي تلقته أذربيجان من تركيا خلال صراعها حول الإقليم قد منح أنقرة الأولوية في الأجندة الأذرية.
6- تنافس إيراني إسرائيلي: تفقد إيران الكثير من أوراقها في منطقة القوقاز، إذ يتنامى نفوذ إسرائيل في أذربيجان التي تقيم معها علاقات تجارية واستخباراتية بالقرب من حدود إيران، وهو ما لم تقبله طهران من جانب جارتها القوقازية. وكانت إيران قد عقدت مشاورات مع الهند وأرمينيا لتدعيم العلاقات الاقتصادية وقنوات الاتصال الإقليمية، في محاولة لاستعادة التوازن الجيوسياسي، وذلك في مواجهة التعاون الثلاثي بين أذربيجان وتركيا وباكستان، بعد إجراء مناورات عسكرية بين هذه الدول الثلاث في سبتمبر 2021.
عوامل مؤثرة:
لا شك أن التنافس الدولي والإقليمي حول القوقاز يرتبط بالتحولات الراهنة في آسيا الوسطى، التي تشهد تنافساً حاداً بين الولايات المتحدة من ناحية، والصين وروسيا من ناحية أخرى، إذ عقد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للمرة الأولى في 20 سبتمبر عام 2023، أول قمة أمريكية مع رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيزستان)، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك.
ويتوقف مستقبل منطقة القوقاز على الديناميكيات السياسية الداخلية، وقدرتها على تحقيق الاستقرار في المنطقة، ومعالجة أبعاد التنوع والتعدد الثقافي والعرقي، وتحقيق تسويات بناءة للصراعات في الإقليم. كما أنه يتوقف أيضاً على التحولات الراهنة في النظام الدولي، والصراع بين أطرافه الرئيسية؛ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، وارتباط هذه التحولات بالنهايات الممكنة للصراعات الحالية في أوكرانيا أو في غيرها من أقاليم العالم، وإدارة التنافس بين تلك القوى.
إن التفاعل بين المكونات والديناميكيات الداخلية في منطقة القوقاز وبين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على النفوذ والمصالح الاقتصادية والطاقة فيها، سيؤثر في تشكيل خريطة المستقبل والتفاعلات الممكنة في هذه المنطقة الحيوية، إذ تبحث دول القوقاز عن تعزيز تحالفاتها لموازنة الضغوط التي تمارسها روسيا، والتي ما تزال حتى اللحظة الراهنة – بالرغم من التنبؤات بتراجع دورها- الفاعل المهيمن في القوقاز. ويمكن القول أيضاً إن حرب اليوم الواحد التي شنتها أذربيجان وضمت بموجبها إقليم ناغورنو كاراباخ، قد لا تمثل نهاية الصراعات في هذه المنطقة الاستراتيجية.