مع تفاقم الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية، بدأت بعض الدول في تضمين مبادئ الاقتصاد الدائري كجزء من خططها لمواجهة الكوارث وعمليات إعادة الإعمار، حيث يُسهم ذلك في تحقيق الاستفادة القصوى من النفايات والحطام الناتج عن الكارثة، بالإضافة إلى تحسين قدرة الدولة على التعامل مع المتضررين من الكوارث. وعلى الرغم من الدور المتنامي للاقتصاد الدائري، لا تزال هناك بعض التحديات التي تعوق تبني مبادئه بشكل واسع النطاق على المستويين الكلي والجزئي.
أهمية الاقتصاد الدائري:
يشير مصطلح الاقتصاد الدائري إلى التحول لنظام اقتصادي يعتمد على تقليل الموارد المستخدمة، مع إعادة استخدامها أو إعادة تدويرها في عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، على النحو الذي يُسهم في تحقيق التنمية المستدامة، وتحسين الجودة البيئية، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية.
ولإيضاح مصطلح الاقتصاد الدائري، يمكن اعتبار نظامنا الاقتصادي الحالي "اقتصاداً خطياً"، مبنياً على نموذج يتمثل في استخراج المواد الخام من الطبيعة، وتحويلها إلى منتجات، ثم التخلص منها كنفايات. في المقابل، يهدف الاقتصاد الدائري إلى تقليل النفايات، وتعزيز الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية من خلال عمليات إعادة التدوير. كما يُسهم في معالجة مشكلة التلوث، والتعامل مع التحديات الخاصة بتغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي. ويُمكن تطبيق آليات الاقتصاد الدائري في العديد من القطاعات مثل الزراعة، والصناعة، والتشييد والبناء، وغيرها.
وتبرهن المؤشرات الاقتصادية والتقديرات المستقبلية على أهمية تعزيز التوجهات الدولية نحو الاقتصاد الدائري، وذلك بالنظر إلى ما يلي:
1- الرغبة في زيادة معدل إعادة التدوير: تتم حالياً إعادة تدوير 7.2% فقط من المواد المستخدمة إلى الاقتصاد بعد الاستخدام، وذلك مقارنة بنحو 8.6% في عام 2020، و9.1% في عام 2018. ويُمثل هذا التراجع في معدلات إعادة التدوير عبئاً كبيراً على البيئة، ويُسهم في تفاقم أزمات المناخ والتنوع البيولوجي والتلوث.
2- تقليل معدلات استهلاك المواد: ارتفع استهلاك المواد بأكثر من 65% على مستوى العالم خلال العقدين الماضيين، ليصل إلى 95.1 مليار طن متري في عام 2019. وحالياً، يستهلك الاقتصاد العالمي 100 مليار طن من المواد سنوياً، ومن المتوقع أن يصل إلى 190 مليار طن بحلول عام 2060، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، وهو ما يتطلب تطبيق استراتيجيات لإدارة المواد والاستخدام الفعال لها من خلال تطبيق الاقتصاد الدائري.
كما تشير الدراسات إلى أن العودة إلى حدود الاستهلاك الآمنة، تتطلب تقليل استخراج المواد واستهلاكها على مستوى العالم بمقدار الثلث. ويُعد الانتقال إلى الاقتصاد الدائري أحد أهم الآليات الضرورية لتحقيق ذلك، فاعتماد الحلول الدائرية عبر الأنظمة الرئيسية يمكن أن يلبي احتياجات العالم بنسبة 70% فقط من المواد التي يتم استخدامها حالياً.
3- خلق مزيد من فرص العمل: وفقاً لمنظمة العمل الدولية، إذا نفذت دول العالم المزيد من الأنشطة المتعلقة بالاقتصاد الدائري مثل إعادة التدوير والإصلاح وإعادة التصنيع، فإن ذلك من شأنه توفير 6 ملايين فرصة عمل على مستوى العالم بحلول عام 2030.
مواجهة الكوارث الطبيعية:
تشير تقديرات شركة التأمين العالمية "أيه أو أن" (AON) إلى أن حجم الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية على مستوى العالم بلغ حوالي 313 مليار دولار في عام 2022، من بينها 299 مليار دولار من الخسائر الناجمة عن الظواهر المناخية. وخلال النصف الأول من عام 2023، أوضحت تقديرات الشركة أن الخسائر قد بلغت حوالي 194 مليار دولار، وهي أعلى قيمة تم تسجيلها مقارنة بنفس الفترة خلال العقد الماضي (2013-2023). أما المنظمة العالمية للأرصاد الجوية فقد أشارت إلى أن الظواهر المناخية المتطرفة قد تسببت في خسائر اقتصادية قدرها 4.3 تريليون دولار.
ويؤدي الاقتصاد الدائري دوراً حاسماً سواءً في مواجهة الآثار السلبية الناجمة عن الكوارث وعمليات إعادة الإعمار، أم في الحد من الكوارث الطبيعية، خاصة تلك الناتجة عن التغيرات المناخية، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو الآتي:
1- مواجهة الكوارث وعمليات إعادة الإعمار: يسهم الاقتصاد الدائري في ذلك من خلال النقاط التالية:
أ- دمج الاقتصاد الدائري في خطط إدارة الكوارث: مع تزايد الخسائر الناجمة عن الكوارث، بدأت بعض الدول في تطوير خطط عمل إدارة الكوارث والحد من مخاطرها لتتضمن تطبيق آليات ومبادئ الاقتصاد الدائري، وذلك خلال جميع مراحل مواجهة الكوارث والتي تتضمن الاستعداد، والاستجابة، وأيضاً التعافي. مع الأخذ في الاعتبار أن تضمين الاقتصاد الدائري في خطط إدارة الكوارث يبدأ أولاً بالتغيير في ثقافة وعقلية الجهات الاقتصادية الفاعلة والحكومة والمجتمع المدني، لإدماج مبادئ الاقتصاد الدائري.
ب- تضمين الاقتصاد الدائري في التعامل مع المتضررين: يُمكن للاقتصاد الدائري أن يضطلع بدور مهم في عمليات توفير مساكن مؤقته للمتضررين من الكوارث الطبيعية، من خلال تصميم مساكن مؤقتة قابلة للتفكيك وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، بحيث يتم تفكيك الوحدة وإعادة تجميعها في مكان آخر لاستخدامات أخرى، سكنية أو غيرها، استجابةً للاحتياجات المحلية المتغيرة. وقد عُنيت بعض الدراسات العلمية بهذا الشأن من خلال تقديم نماذج وتصميمات مختلفة لهذه الوحدات السكنية.
ج- الاستفادة من الاقتصاد الدائري في عمليات إدارة النفايات والحطام: يُمكن تضمين مبادئ الاقتصاد الدائري في عمليات إعادة الإعمار في المناطق المتضررة من الزلازل، من خلال الإزالة السريعة للنفايات ومعالجتها، وإعادة تدويرها. ويتم ذلك من خلال نقل نفايات الكوارث المتولدة في المناطق المتضررة إلى مواقع التخزين، ثم يتم فصل النفايات حسب نوعها، على أن تتم الاستفادة من تلك النفايات إما في توليد الطاقة أو في عمليات إعادة التدوير. فعلى سبيل المثال، يمكن إعادة تدوير النفايات الخرسانية، من خلال استغلالها في عمليات الاستصلاح في المناطق المحفورة أو للأغراض الهندسية في تنسيق الحدائق.
وبشكل أكثر تفصيلاً، أوضح كل من برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن برامج وعمليات إدارة النفايات الناتجة عن الكوارث تتضمن أربع مراحل، وهي:
- المرحلة الأولى: تتضمن الإجراءات العاجلة وقصيرة المدى، وتركز على جمع النفايات الأكثر خطورة أو المطلوب إزالتها لإنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة وتسهيل عمليات الإنقاذ.
- المرحلة الثانية: تشمل الإجراءات متوسطة المدى، وتركز هذه المرحلة على تبسيط الخدمات اللوجستية لجمع النفايات، ومواقع التخلص المؤقت من الأنواع المختلفة من النفايات، ومواقع فصل النفايات.
- المرحلة الثالثة: تتضمن الإجراءات طويلة المدى، وتركز على ضمان توافق برنامج إدارة نفايات الكوارث مع توقعات المجتمع واحتياجاته، حيث يتم شراء أو إصلاح المصانع والآلات والمعدات اللازمة لإدارة النفايات. ويتعين أن تسفر هذه المرحلة عن معالجة جميع نفايات الكوارث، إما من خلال التخلص منها أو حرقها أو إعادة استخدامها أو إعادة تدويرها.
- المرحلة الرابعة: يُطلق عليها مرحلة التخطيط للطوارئ، وهي ليست جزءاً من الاستجابة للكارثة بالمعنى الدقيق، لكنها تتضمن إجراءات طويلة الأجل تُسهم في الاستعداد قبل وقوع الكارثة، ومنها وضع استراتيجيات للتعامل مع الحطام وإزالته، وتحديد أنواع النفايات والحطام المحتملة، والتنبؤ بكمياتها، فضلاً عن الاختيار المسبق لمواقع تخزين النفايات والحطام المؤقتة.
2- الحد من الكوارث الطبيعية المرتبطة بالمناخ: يُسهم تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، ومن ثم الحد من احتمالات حدوث الكوارث الطبيعية المرتبطة بالمناخ بشكل عام. فتطبيق تلك المبادئ يدعم المحافظة على النظم البيئية، فهي تركز على التحول نحو استخدام موارد أقل ولفترة أطول، فضلاً عن التحول نحو موارد الطاقة النظيفة، وتتمثل تلك المبادئ فيما يلي:
أ- استخدام أقل: تقليل استخدام المواد والطاقة، وتحسين فعاليتها.
ب- استخدام لفترة أطول: الحفاظ على المواد قيد الاستخدام لأطول فترة ممكنة، مما يؤدي إلى خفض الطلب على المواد على المدى الطويل، وخفض معدلات استخراج المواد.
ج- استخدام موارد نظيفة ومتجددة: تقوم على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري والمواد والعمليات الخطرة أو السامة، والاتجاه نحو موارد الطاقة المتجددة والنظيفة.
د- استخدام مرة أخرى: من خلال تدوير المواد وإعادة استخدامها، لتحقيق أقصى استفادة منها، ويُسهم ذلك في زيادة حجم المواد الثانوية التي تدخل الاقتصاد مرة أخرى.
كذلك، ثمة علاقة بين الاقتصاد الدائري والتخفيف من آثار المناخ، فالتحول إلى الاقتصاد الدائري يمكن أن يخفف من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تنشأ من الصناعات الاستخراجية وعمليات التصنيع والتشييد والبناء والنقل وغيرها. فعلى سبيل المثال، في قطاع التشييد والبناء فقط، من المتوقع أن تؤدي إجراءات الاقتصاد الدائري إلى خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 61%.
اليابان نموذجاً:
تُعد اليابان واحدة من أهم الدول على صعيد الاستعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية، كما أنها واحدة من أكثر الدول تبنياً لمفاهيم الاقتصاد الدائري، فمنذ عام 1999، أعلنت وزارة التجارة الدولية والصناعة عن "رؤية الاقتصاد الدائري"، كما سنت اليابان العديد من القوانين المتعلقة بإعادة التدوير. وتعمل الحكومة اليابانية على تطوير استراتيجيات لإدارة النفايات بشكل مستمر، بناءً على حجمها المتوقع. وتضمنت استجابة اليابان لزلزال شرق اليابان العظيم وما أعقبه من تسونامي عام 2011، ما يلي:
1- خطط الطوارئ: أتاحت خطط الطوارئ التي وضعتها بعض المحافظات قبل وقوع الزلزال، الاستجابة بسرعة أكبر لتحدي إدارة النفايات.
2- مذكرات إرشادية: قدمت وزارة البيئة اليابانية مذكرات إرشادية واضحة للبلديات حول كيفية التعامل مع حطام الكارثة، لضمان وجود اتساق في النهج الشامل للتنظيف والفصل والنقل خارج الموقع والتخلص النهائي من الحطام، وشددت على أهمية تعظيم فرص إعادة التدوير.
3- إعادة تدوير النفايات: تمت إعادة استخدام بعض النفايات بعد فصلها. فعلى سبيل المثال، تم استخدام جذوع الأشجار في مصانع الورق، واستخدام الأخشاب المقطعة كوقود في عمليات تصنيع الإسمنت، كما تمت إعادة تدوير الأنقاض واستخدامها كمواد بناء أو في تمهيد الطرق.
تحديات التطبيق:
على الرغم من أهمية الاقتصاد الدائري ودوره في التعامل مع الكوارث الطبيعية وعمليات إعادة الإعمار، توجد بعض التحديات التي قد تقلل فعاليته وتحد من انتشاره وتطبيق مبادئه، وتتضمن ما يلي:
1- ضعف معدلات تطبيقه دولياً: لا تعرف جميع الدول على مستوى العالم إمكانات الاقتصاد الدائري أو لديها استراتيجية واضحة لتطبيق آلياته ومبادئه. ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يتعين على الدول تضمين الاقتصاد الدائري في استراتيجياتها بشأن التعامل مع تغير المناخ وخفض الانبعاثات أو ما يُعرف بـ"المساهمات المحددة وطنياً". فحتى مايو 2023، كانت 27% فقط من المساهمات المحددة وطنياً تشمل الاقتصاد الدائري.
2- صعوبة الحصول على التمويل اللازم: غالباً ما تجد الشركات، وخاصة الصغيرة ومتوسطة الحجم، صعوبة في الحصول على التمويل الكافي للانتقال من نماذج أو أنظمة الأعمال الخطية إلى الدائرية.
ختاماً، يمكن القول إن الدور المهم للاقتصاد الدائري في التعامل مع الكوارث الطبيعية، يحتم ضرورة تبنيه دولياً على نطاق واسع، ومساعدة الشركات على تحويل الإنتاج من النظام الخطي إلى الدائري من خلال اتخاذ بعض الإجراءات التحفيزية، والتي تتضمن تخفيض الضرائب، وتقديم المنح لعمليات البحث والتطوير، بالإضافة إلى تقديم قروض منخفضة الفائدة لتمكين الشركات من شراء التقنيات اللازمة لعمليات إعادة التدوير.