يأتي البيان المشترك لقمة الرياض، التاريخية والأولى، بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان"، التي عُقدت يوم 20 أكتوبر 2023، في توقيت مهم ودقيق؛ وذلك في ظل الأبعاد الدولية والمستجدات المهمة التي تعكس صراع النفوذ بين القوى الدولية الثلاث الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا).
وفي الوقت نفسه، فرضت الأبعاد الإقليمية نفسها على هذه القمة، حيث أخذت تداعيات التصعيد الإسرائيلي الفلسطيني حيزاً لا بأس به من أعمال القمة، وحرصت الدول المشاركة من الجانبين (الخليجي والآسيوي) على تأكيد مواقفها نحو الرغبة في تحقيق استقرار العالم، خاصة أن دول الخليج و"آسيان" يمكن اعتبارها "دولاً وازنة"، سواءً فيما يحدث في العالم بشكل عام، أو تحديداً في إقليميهما؛ نظراً لاهتمامهما بالتنمية والرخاء، والذي يعني في النهاية أن الاستقرار أولاً.
ويمكن القول إن "قمة الخليج آسيان" تُعد نواة للعمل الثنائي والجماعي بين الجانبين، وستشكل أساساً يسهم بقوة في رسم خارطة طريق للتعاون بين الكتلتين الخليجية والآسيوية في المجالات والملفات الثنائية والإقليمية وكذلك العالمية.
رسائل إيجابية:
هدفت قمة الرياض إلى اعتماد إطار التعاون المشترك للخمس سنوات المقبلة (2024-2028)، الذي يشمل التعاون السياسي والأمني، والاقتصادي والاستثماري، إضافة إلى التعاون في مجالات السياحة، والطاقة، والأمن الغذائي والزراعي، والتعاون الاجتماعي والثقافي.
وفي القراءة الأولية لفعاليات هذه القمة، ثمة رسالة مهمة يتضمنها تشكيل الوفود المشاركة، حيث ظهر بوضوح الحرص على أن تكون المشاركة على مستوى سياسي رفيع وعالٍ؛ بما يؤكد توافر الإرادة السياسية ليس فقط لإنجاح القمة، لكن أيضاً لتأكيد أهمية ودور العلاقات بين الجانبين مستقبلاً. وليس أدل على ذلك من حضور شخصيات بوزن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات.
ولم تكن "قمة الخليج آسيان" المظهر الوحيد ولا الأول الذي يؤكد تلك الإرادة ويشير إلى وجود استراتيجية خليجية واضحة تركز نحو "الاتجاه شرقاً"، حيث إنها تعد مُكملة لما يمكن وصفه بـ"العقد الآسيوي"، بعد القمة التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في ديسمبر 2022، ثم لقاء رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، بمسؤولين خليجيين في يوليو الماضي، وبعده قمة مجموعة العشرين بالهند في سبتمبر الماضي والتي طرحت مشروع "الممر الاقتصادي".
وينطلق التعاون بين الكتلتين الخليجية والآسيوية من بعدين؛ الأول جيواستراتيجي، حيث يوجد اقتناع وتوافق لدى دول المجموعتين على رفض الزج بهما في الخلافات العالمية، والتمسك على الأقل بالوقوف على الحياد، حيث إن جوهر التنافس العالمي بتداعياته بات متركزاً على هذين الإقليمين. أما البعد الثاني فهو الدافع للتعاون بينهما في المؤشرات التنموية الاقتصادية، بالإضافة إلى الطموحات الكبيرة لكل منهما. وهذا ما يجعل من قمة الرياض فرصة للتعاون الثنائي في المجالات كافة، وهو ما تم النص عليه في بنود البيان المشترك، ما يعني تمكين العلاقات بين الجانبين بطريقة تجعل تمديد التعاون وتوسيعه فيما بعد عام 2028 وارداً وبقوة.
إن دبلوماسية دول مجلس التعاون الخليجي النابضة بالنشاط والحيوية، لا ترتكز فقط على الأهداف أو المصالح الخاصة بكل منها، ولا تنظر إلى التعاون المتبادل على أنه شأن ثنائي فقط يخص كلاً منها مع الدول الآسيوية المقابلة. ففي ظل الحراك العالمي وتلاحق الأحداث في اتجاهات متعددة، تسعى دول الخليج إلى أن تجعل من الدول العربية عموماً طرفاً مشاركاً بقوة وفعالية فيما يحدث في العالم من تغيرات كبيرة.
كما أن الاهتمام بالمداخل الاقتصادية والثقافية للتعاون، يخلق أرضية لتوثيق العلاقات وتقويتها بنمط مستدام وغير تقليدي. لهذا فإن المضمون والمغزى في بيان قمة الرياض بين دول الخليج و"آسيان" الذي جاء في 42 بنداً، يؤكد أن دول مجلس التعاون الخليجي تُحفز خطوطاً عميقة ومسارات راسخة للتعاون والتحالف، وتطبق دبلوماسية واعية لاستقطاب الشركاء الاستراتيجيين الفاعلين في المجتمع الدولي. والأهم أن هذا كله ليس فقط لتحقيق أهداف خليجية، سواءً خاصة بكل دولة أم خليجية عامة، وإنما أيضاً لتحقيق أهداف وتلبية مصالح عربية.
دلالات القمة:
ثمة عدة دلالات لقمة الرياض الأولى بين دول مجلس التعاون الخليجي ورابطة "آسيان"، تتمثل في الآتي:
1- توجهات خليجية واحدة: بات يظهر هذا التوجه الخليجي مؤخراً بصفة واضحة، حيث إن "الصوت الخليجي" في الملفات الدولية يمثل رأياً مشتركاً، فقد سبق هذا اللقاء القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى الخمس في يوليو الماضي. وهو ما يعني أن هذا التوجه التوافقي الجماعي مرشح بقوة لاحتلال موقع بارز في الدبلوماسية الخليجية. وبالتالي فإن الخليجيين أكثر تقارباً وتنسيقاً في التخطيط لمصالح دولهم، وهو أمر طبيعي للغاية لكون تلك المصالح متشابهة ومتسقة إلى حد بعيد.
2- الواقعية والمصالح: إن البنود الـ42 التي شملها البيان الختامي لقمة الرياض يمكن تقسيمها من حيث الموضوع إلى جزءين؛ الأول هو الأمن والاستقرار ببعديه الدولي والإقليمي، أي الأمن الخليجي وأمن رابطة "الآسيان"، خاصة الأمن البحري. فالتكتلان يطلان على البحار المفتوحة ولهما أهمية خاصة في الاستراتيجية العالمية، وبالتالي هما عُرضة لتهديد الاستقرار بسبب التنافس الدولي على السيطرة والنفوذ والمصالح، ويمكن إيجاد هذه الجوانب في البيان من خلال البنود 1 و2 و3.
أما الجزء الثاني فهو خاص بالتعاون الثنائي في كل المجالات، وهو ما يؤكد الواقعية السياسية الخليجية في البحث عن مصالحها، باعتبارها الموجه الأساسي لأي دولة في العالم، والطريق الأقصر في تعزيز التفاهم والاختلاف بين الدول. لهذا نستطيع تسجيل ملاحظة أن البنود الباقية تركز على "استكشاف"، وهي كلمة بليغة -تكررت كثيراً- في تأكيد للرغبة في التعاون الثنائي، واعتراف من الطرفين بأن هناك جوانب يمكن لكل طرف أن يمثل فيها "قيمة" تضيف للآخر.
3- الحياد عالمياً: يدرك قادة الخليج و"آسيان" أن حالة التنافس الدولي بين الصين والولايات المتحدة تدفع القوتين الدوليتين إلى العمل بقوة وبمختلف الوسائل على استقطاب الدول والأطراف الإقليمية. وسيساعد العمل المشترك عبر التكتلات على تخفيف الضغوط عن هذه الدول، خاصة أن دول الخليج توسعت في علاقتها الدولية مع الأقاليم الفاعلة في النظام الدولي مؤخراً. وهنا يجب تسجيل الاحترام للدبلوماسية الخليجية المُعتمدة على التشاور مع الدول الصغيرة والمتوسطة لنسج الحلول والاقتراحات التي تحاول من خلالها الحيلولة دون تفاقم الصراعات والاحتقانات السياسية وبالتالي منع زيادة تعقيد الوضع العالمي.
ما بعد القمة:
سيكون للاتفاقات والتفاهمات بين دول مجلس التعاون الخليجي و"آسيان"، إيجابيات كثيرة في تنمية واستقرار الإقليمين. ومن أبرز ملامح تلك الإيجابيات ما يلي:
1- اقتصادياً: هذا هو الجانب الأكثر بروزاً في البيان المشترك لقمة الرياض. فقد بلغ حجم التبادل بين دول مجلس التعاون ودول رابطة "آسيان" 137 مليار دولار أمريكي، حسب إحصائيات عام 2022، ومن المتوقع أن ينمو بشكل كبير؛ نظراً لتنوع واتساع مجالات التبادل التجاري. فضلاً عما سيضيفه مشروع "الممر الاقتصادي" الذي سيحتاج في إنشائه إلى عديد من الخبرات والكفاءات الفنية، ولن تكون دول الخليج و"آسيان" بعيدة عن توفير هذه المتطلبات.
2- سياسياً: أي منع الاستقطابات السياسية أو إضعافها، وهذا من منطلق أن دول مجلس التعاون الخليجي (خاصة السعودية والإمارات اللتين تتزايد مكانتهما العالمية بعضوية تجمعات دولية مهمة مثل مجموعة بريكس مؤخراً)، ستسهم بالتعاون مع رابطة "آسيان" في تكوين جبهة سياسية وازنة أمام صراع الكبار في العالم على النفوذ والمصالح والتحالفات.
ختاماً، يمكن القول إن قمة دول مجلس التعاون الخليجي مع رابطة "آسيان" جاءت بعد أشهر قليلة من القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى، والاثنتان بدعوة خليجية وبحضور سياسي على مستوى القادة، ما يؤكد الاهتمام الخليجي بتعميق هذا الاتجاه الجديد داخل شبكة العلاقات الخارجية لدول مجلس التعاون. وهذا ليس فقط من منطلق إيجاد تأثير سياسي لهذه الدول في التحولات الجديدة بالنظام الدولي، وإنما أيضاً من منطلق أن يكون لدول الخليج مجتمعةً موقف دولي يسهم في التقليل من حالة التشاحن السياسي الذي يفرضه التنافس على النفوذ الدولي. وفي المقابل، تتطلع دول رابطة "آسيان"، بعد جائحة "كورونا"، إلى إحياء العديد من الشراكات الثنائية والتعددية، لذا فإن قمة الرياض مثلت فرصة سانحة لتحقيق هذا الهدف بالتعاون مع دول تمتاز بمزايا تنافسية عالية.