توفر وسائل التواصل الاجتماعي إمكانات مثالية لأنشطة الهجرة غير الشرعية، إذ تتيح قنوات للمعلومات والتواصل والتشبيك أقل تكلفة وأكثر أماناً للمهاجرين والمهربين على السواء، الأمر الذي زاد من مرونة تلك الأنشطة وقدرتها على تغيير تكتيكاتها للتحايل على أجهزة إنفاذ القانون، ليصير "التهريب الرقمي" أحد التهديدات الأمنية التي صار المجتمع الدولي يدرك خطورتها ويسارع إلى حصارها، وذلك من خلال التعاون مع الشركات التكنولوجية الكبرى المالكة لمنصات نشر وتداول هذا المحتوى.
في هذا الإطار، عقدت وكالة الجريمة الوطنية البريطانية اتفاقاً مع شركات ميتا وتيك توك وإكس، لتعقب المحتوى الذي يشجع أو يساعد على الهجرة بطرق غير شرعية إلى بريطانيا، وقد أعلن رئيس الوزراء ريتشي سوناك عنه في الأسبوع الأول من شهر أغسطس الجاري، في خطوة لمكافحة تلك الأنشطة الرقمية التي لا تخلو من جرائم للاستغلال والإساءة تصل لحدود الاتجار بالبشر.
خدمات التهريب الافتراضية:
وفقاً لإحصاءات المفوضية الأوروبية، بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين داخل دول الاتحاد الأوروبي 1.08 مليون من دول خارج الاتحاد عام 2022، بزيادة 59% مقارنة بعام 2021، وتم إصدار أكثر من 422 ألف أمر ترحيل خلال العام ذاته بما يزيد 23% عن 2021.
وتؤدي الوسائط الرقمية بشكل عام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص دوراً كبيراً في تسهيل تلك الأنشطة غير القانونية، وهو ما أكدته خطة عمل الاتحاد الأوروبي لمكافحة تهريب المهاجرين (2021 – 2025) التي تبنتها المفوضية الأوروبية في 29 سبتمبر 2021، حيث اعتبرت "التهريب الرقمي" تحدياً جديداً لسلطات إنفاذ القانون والسلطات القضائية، إذ يستخدم المهربون بشكل متزايد الخدمات والأدوات الرقمية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف المحمول للتجنيد والتواصل وتحويل الأموال والتقاط وتسليم المهاجرين، وتوفير إرشادات الطريق، ومشاركة الصور ومقاطع فيديو للوثائق والتذاكر، وحتى مراقبة أنشطة إنفاذ القانون.
فقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي من الآلية التي تتم بها عمليات تهريب المهاجرين ووفرت أدوات غير مسبوقة للوصول والتشبيك أمام أنشطة المهربين، وهو ما أشارت إليه دراسة نشرتها منظمة الهجرة الدولية مطلع عام 2023، كشفت فيها عن استخدام المهربين للشبكات الاجتماعية وتطبيقات التراسل الفوري للترويج لخدماتهم غير الشرعية عبر نشر مقاطع لعمليات العبور الناجحة، فضلاً عن استغلالها للتفاعل وتبادل المعلومات وتسهيل الرحلات والتخطيط لها، وقد شملت الدراسة المكسيك وأمريكا الوسطى وجمهورية الدومينيكان وتضمنت استطلاع531 مهاجراً عابرين في المنطقة.
وعلى صعيد المهاجرين أنفسهم، فقد وفرت منصات التواصل الاجتماعي أدوات لبناء مجتمعات افتراضية عززت أواصر التآزر المتبادل فيما بينهم، وهو ما سبق أن رصده الباحثان ريان ديكر وجودفرايد انجبيرسن من جامعة إراسموس روتردام في دراسة ضمن مشروع "تنظير تطور نُظم الهجرة الأوروبية"، اعتمدت على مقابلة 90 مهاجراً في هولندا من البرازيل وأوكرانيا والمغرب، وتوصلا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي عملت على تغيير شبكات الهجرة غير الشرعية وأنها سهلت في مجموعها بشكل عام تلك الحركة غير القانونية عبر أربعة طرق أساسية: (1) تعزيز الحفاظ على روابط قوية مع العائلة والأصدقاء، (2) تنظيم عملية الهجرة والاندماج، (3) تأسيس بنية جديدة من الروابط الكامنة التي تساعد على تعزيز رأس المال الاجتماعي داخل شبكات المهاجرين بما يسهم في خفض التكاليف والمخاطر التي تنطوي عليها الهجرة، (4) توفير مصدر غني بالمعلومات بشكل مستقل وغير رسمي بما يعزز خبرة ومعرفة المهاجرين بالصعوبات والمخاطر المحتملة التي قد يواجهونها في الحياة اليومية.
كما أكدت النتائج ذاتها دراسات أخرى مثل الاستبيان الذي أجرته مريام ديتشي وجوسي جوهياينن من جامعة توركو بفنلندا على 100 مهاجر غير شرعي وتم نشره عام 2021، بغرض التعرف إلى استخداماتهم لشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأظهر أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي هي أدوات مهمة لبناء العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها، والبقاء على اتصال مع العائلة، وإيجاد عمل وطعام وكساء ومأوى. وقال 35% من المهاجرين إن التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أثر في قراراتهم بالقدوم إلى فنلندا، فيما قال 85% إن استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف المحمول جعل حياتهم أسهل في فنلندا، إلا أنهم حذروا في الوقت ذاته من المعلومات الخاطئة والمضللة.
تهاون شركات التواصل الاجتماعي:
على الرغم من تأكيد الشركات التكنولوجية أن سياساتها تكافح الاتجار بالبشر، بل والنص على ذلك في مواقعها الرسمية على غرار شركة ميتا التي تخصص بنداً خاصاً لمكافحة "استغلال البشر" بما في ذلك أنشطة الاتجار والتهريب وذلك ضمن معايير مجتمع فيسبوك على موقع "مركز الشفافية" الخاص بها، فإن العديد من التقارير تؤكد أن شبكات التواصل الاجتماعي لا تبذل الجهد الكافي لمكافحة هذا النوع من المحتوى غير المشروع، ولاسيما مع إمكانات تعتيم الهوية واستخدام المجموعات المغلقة والمحتوى المشفر.
فقد اتهمت العديد من التقارير الشبكات الاجتماعية أنها صارت مرتعاً لأنشطة عصابات التهريب والاتجار في البشر، ففي إحصاء أجرته ولاية فلوريدا الأمريكية شمل وكالات إنفاذ القانون التابعة لها، ثبت استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي لتسهيل الاتجار بالبشر في 271 حالة منها 146 حالة تم فيها استخدام تطبيقات فيسبوك وواتس آب وإنستغرام وذلك بين عامي 2019 و2022.
وفي إبريل 2021 نشر مشروع الشفافية التقنية التابع لمنظمة "حملة المساءلة" المتخصصة في مراقبة سياسات الشركات التكنولوجية الكبرى، تقريراً رصد فيه 50 صفحة نشطة على فيسبوك تعرض معابر حدودية غير قانونية، وفي جميع الحالات تقريباً يوضح اسم الصفحات الخدمات التي تقدمها، فضلاً عن إمكانية مراسلة المهربين من مسؤولي تلك الصفحات، بل وتقوم الخوارزميات بإرشاد المستخدمين إلى المزيد من تلك الصفحات، حيث تعرض خدمات التهريب المشبوهة ضمن الترشيحات، وتنشر هذه الصفحات وصفاً تفصيلياً لترتيبات السفر وتكلفة المرور لشخص واحد، وصوراً مشفرة للحافلات، فضلاً عن استخدامها خصائص تصنيف الصفحات ضمن فئات شركات السفر بما يسهل الوصول إليها، وهو ما يلقى تفاعلاً بالآلاف فضلاً عن تمريره بين المستخدمين.
كما نشر المشروع ذاته في يوليو 2022 دراسة استندت إلى مقابلات مع 200 مهاجر من المكسيك إلى الولايات المتحدة، كشفت عن تعرض المهاجرين لعمليات الاحتيال، وأنشطة عصابات التهريب من خلال منصات التواصل الاجتماعي وتحديداً فيسبوك وواتس آب، حيث أفادوا بأنهم استخدموا التطبيقين للتواصل مع محتالين سرقوا أموالهم، أو تخلوا عنهم في ظروف غير آمنة، أو أعطوهم معلومات غير صحيحة. كما أعادت المنظمة تأكيد التدفق الهائل للمعلومات الكاذبة والمضللة التي تستهدف المهاجرين عبر الشبكات الاجتماعية، فيما لا تفعل الأخيرة الكثير من أجل وقفها. وينجرف وراءها العديد من المهاجرين اليائسين أو الفارين من العنف من أجل حياة أفضل، حيث لم يعد أمامهم خيار سوى الخوض في بحر الخداع على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعج بالأكاذيب بشأن قوانين وسياسات الهجرة، والقواعد الخاصة بالوالدين والنساء الحوامل، والظروف التي سيواجهونها على طول الطريق، والفرص المتاحة أمامهم، وغيرها من المعلومات غير الصحيحة التي تزيد من المخاطر التي يتعرضون إليها.
مساعٍ دولية غير كافية:
تأتي الشراكة المعلنة بين المملكة المتحدة وشبكات التواصل الاجتماعي لتعبر عن قلق دولي ممتد إزاء الدور المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي في أنشطة الهجرة غير المشروعة سواءً من جانب المهاجرين، للحصول على المعلومات والتواصل مع المهربين وبناء مجتمعات للتعزيز المتبادل، أم من جانب عصابات التهريب، التي تباشر عمليات الترويج والتجنيد عبر تلك الشبكات التي تواجه تهماً بعدم القيام بالجهد المطلوب لمكافحة ذلك النوع من المحتوى.
والحقيقة أن الاتفاق المعلن بين بريطانيا وشركات وسائل التواصل الاجتماعي لا يعد الخطوة الأولى من نوعها على الصعيد الدولي لمكافحة المحتوى الداعم للهجرة غير الشرعية، والذي ارتكز، إلى جانب التعاون مع تلك الشركات، على سياسات نشر الوعي، وعمليات الرقابة الأمنية.
فعلى صعيد نشر الوعي العام، قام مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة بتخصيص مقررات تعليمية لمكافحة "الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين" لمرحلة التعليم ما بعد الثانوي ضمن مبادرة "التعليم من أجل العدالة" التي أطلقها بالتعاون مع "اليونسكو". كما تنشر الأمم المتحدة أيضاً أدلة للتوعية بتأمين الحسابات والحماية من مخاطر أنشطة الاتجار بالبشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ولاسيما لحماية الأطفال والقصر وذلك عبر موقع مكتب المخدرات والجريمة، وهو ما تتبعه أيضاً بعض وكالات إنفاذ القانون الوطنية مثل وزارة الداخلية الأمريكية والتي تحث المواطنين أيضاً على التغريد ضمن وسوم مكافحة الاتجار بالبشر لنشر الوعي العام.
ويتكامل مع ذلك شن الحملات المضادة بهدف منع المهاجرين المحتملين من الانخراط في مثل تلك الرحلات الخطرة، مثل حملات "مراكب النجاة" بمصر، وصفحات مؤسسات مكافحة الهجرة غير الشرعية بالدول المختلفة.
أما على صعيد أعمال المراقبة، تقوم الأجهزة الأمنية بمراقبة المحتوى الضار عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتتبع وإغلاق الحسابات المشبوهة، وقد قامت وحدات اليوروبول (وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون) بتتبع 455 حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي تضمنت إعلانات تسهيلات الهجرة غير المشروعة وبيع هويات أو جوازات سفر أو تأشيرات مزورة، وإحالتها إلى الشركات المزودة للخدمة لمراجعتها وتم إغلاق العديد منها وفقاً للتقرير السنوي السادس للمركز الأوروبي لتهريب المهاجرين للعام 2022.
وتتعزز قدرة الأجهزة الأمنية ليس فقط على رصد تلك الأنشطة وحصارها، وإنما على تطوير آلياتها لمواجهتها عبر تحليلها وتحديد أنماطها، أخذاً في الاعتبار منهجية تلك المراقبة بما يحقق الهدف منها، إذ سبق أن أخضع إنجيليكي ديميتري، الباحث بالمؤسسة الهيلينية للسياسة الأوروبية، سياسات وكالات إنفاذ القانون الأوروبية في مراقبة المحتوى الاجتماعي المتعلق بتهريب المهاجرين للتحليل، ووجد أنها تركز على تقييم الإنذار المبكر لتحركات الهجرة، بدلاً من توليد معلومات عن شبكات التهريب، وذلك في دراسته ضمن تقييم المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط لسياسات الاتحاد الأوروبي لمواجهة تهريب المهاجرين عام 2021.
ويكشف رصد تلك الجهود عن تزايد الوعي الدولي بدور وسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل حركة الهجرة غير الشرعية، إلا أنه في الوقت ذاته يؤشر إلى عدم كفاية تلك الجهود وحاجتها للتقويم المستمر وتعزيز التكامل بين القنوات الرسمية وغير الرسمية، وتفعيل التعاون مع الشركاء المحليين والمؤسسات ذات المصداقية، مع وضع سياسات مشتركة لجمع ومشاركة المعلومات بما يعزز التعاون الدولي وتكامل الجهود بين دول المصدر والمقصد.