ثمة تغيرات في البيئة العالمية للتهديد النووي في القرن الحادي والعشرين بطرق قد لا تستطيع الولايات المتحدة إدارتها أو السيطرة عليها بمفردها دون تحالفات، خاصة مع تصاعد التهديدات الروسية المبطنة باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، والمساعي الصينية لزيادة حجم وتنويع ترسانتها النووية، فضلاً عن القدرات النووية لكوريا الشمالية ومحاولات إيران لتطوير إمكاناتها النووية.
في هذا الإطار، يستعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) خلال تقريره المنشور في مايو 2023 مستقبل السياسة النووية الأمريكية خلال العقد المقبل، مستهدفاً الإجابة عن تساؤلات منها، ما الدوافع الاستراتيجية التي ستقود الموقف الأمريكي تجاه تلك السياسة؟، وكيف ستؤثر مواقف واشنطن تجاه السياسة النووية في قراراتها لردع منافسيها بشكلٍ متكامل؟، وما السيناريوهات الأكثر احتمالاً لحدوثها في المستقبل، وفقاً للمؤشرات والدلائل الحالية؟
التحالف والردع المتكامل:
ينطلق التقرير من أهمية وجود حلفاء للولايات المتحدة في أي مستقبل نووي مرتقب، لما يمثله ذلك من مركز ثقل وقوة مضاعفة، حيث إن وجود شبكة تحالف متماسكة مدعومة بقوة ردع موسعة سوف يصب في المصلحة الاستراتيجية لواشنطن، خاصة أنها ستردع التهديدات الروسية والصينية بأي مخاطرة باستقرار العالم ككل.
ووفقاً للتقرير، فالقدرات النووية للخصوم ومدى تماسك التحالف سيكونان المحرك الاستراتيجي الرئيسي لمهمة الدفاع الأمريكية خلال العقد المقبل، والقدرات النووية العدائية للخصوم ستتأثر بمجموعة عوامل، منها: التقدم في التقنيات غير النووية، والطموحات الإقليمية، والقيود الاقتصادية الداخلية، كما أن تواطؤ الخصوم مع بعضهم بعضاً ومدى توافق المصالح بينهم سيكون أحد المتغيرات المهمة في السياسة النووية المستقبلية، كما سيتأثر تماسك التحالف الذي تقوم واشنطن به بتصورات التهديد الخارجي والضغوط الداخلية ومصداقية الضمانات الأمنية الأمريكية وتفسير الحلفاء لمفهوم الردع المتكامل.
هنا، فإن عمليات الردع المتكامل سيكون لها تداعيات مهمة على الأقل بالنسبة للقوى النووية المضادة بشكلٍ موسع، حيث من المتوقع أن تحتاج الولايات المتحدة إلى الاستمرار في الاعتماد على الأسلحة النووية لغرض الدفاع طويل الأجل، وبالمقابل أيضاً ستحتاج إلى الاستمرار في الاستثمار في القدرات غير النووية المتقدمة لإبقاء المنافسة مع روسيا والصين مفتوحة.
وقد أبرز التقرير أن ثمة منهجية مستقبلية لفهم متطلبات الدفاع الأمريكية الموسعة لتحديد الاتجاهات والدوافع الرئيسية التي ستُشكِّل مهمة الردع طويلة الأجل لدى الولايات المتحدة، والتي تعتمد على قياس ثلاثة عناصر أساسية، وهي: الإمكانات، والمصداقية، والتواصل، وذلك كالتالي:
الإمكانات: يمكن قياسها بنمو وتنويع الترسانات النووية نوعاً وكماً، وزيادة نطاق ودقة أنظمة الأسلحة المعادية، بما في ذلك القدرات غير النووية، التي تهدد الأصول الأمريكية وأصول الحلفاء، وتوسيع المنافسة عبر مجالات متعددة، بما في ذلك الفضاء والإنترنت، وزيادة الشفافية من خلال منصات التواصل الاجتماعي والبيانات مفتوحة المصدر.
المصداقية: حيث يتم قياس تحديات المصداقية التي تسبب ضغوطاً لوجستية وسياسية على شبكات التحالف، وأيضاً قياس نسب ارتفاع حجم الطلب على الصادرات الأمريكية من قبل الحلفاء والشركاء مثل "مبيعات الأسلحة"، لمعرفة مدى تأثيرها في البنية التحتية الأمريكية لإنتاج الأسلحة واستمرارية الدعم السياسي لإنتاج السلاح، وارتفاع حجم الطلب على الأصول الاستراتيجية الأمريكية التي سيتم نشرها في المستقبل من قبل الحلفاء والشركاء في ظل بيئة جيوسياسية متوترة بسبب حالة المنافسة والخطاب المتأزم.
التواصل: إذ يتم قياسه من خلال حجم الرسائل المشوشة وغير الواضحة في ظل التصريحات المتبادلة بين الحلفاء والخصوم سواءً من خلال القنوات الخاصة أو العامة المتعددة، وتأثر التواصل خلال تزايد التهديدات النووية والابتزاز من قبل الخصوم، حتى خلال أوقات الأزمات.
سيناريوهات الردع:
تفترض سيناريوهات الردع النووي التي طرحها التقرير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ سيظلان على رأس السلطة في البلدين حتى عام 2032، وأنهما سيواصلان السعي وراء الطموحات الإقليمية وتحدي النظم الدولية القائمة على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وأن الزعيمان سيتعرضان لضغوط متزايدة لإظهار التقدم في تحقيق أهدافهما الاستراتيجية، وأن بوتين سيسعى لترسيخ إرثه وإعادة روسيا إلى عصر القوى العظمى في أعقاب الحرب في أوكرانيا، فيما سيتعرض بينغ لضغوط للوفاء بوعوده لتعظيم القوة الصينية، خاصة مع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
أما بين الحلفاء، فتفترض السيناريوهات أن منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" ستظل قائمة، وكذلك التحالفات في المحيطين الهندي والهادئ، ولن توجد جهات فاعلة نووية جديدة في عام 2032، وأن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) ستظل سارية المفعول ولن يتم تمديد أو استبدال معاهدة "ستارت" الجديدة، أما فيما يتعلق بالسيناريوهات المتوقعة، فتتمثل في:
- السيناريو الأول: التنافس على انتهاز الفرص: هذا السيناريو يُبرز تعاظم قدرات الخصوم مقابل محاولات تماسك التحالف، ويرى أنه في المستقبل، ستعمل الصين وروسيا على توسيع ترسانتيهما النوويتين كماً ونوعاً، في الوقت الذي ستكافح فيه الولايات المتحدة للحفاظ على تحالفاتها القوية، وأن الحلفاء الأوروبيين ستساورهم حالة من القلق بسبب اهتمام واشنطن بالوضع في آسيا بشكلٍ كبير، في الوقت الذي يرى فيه الحلفاء الآسيويون أن الولايات المتحدة مشتتة بالأساس بسبب التهديد الحاد والدائم من قبل موسكو.
ويتناول السيناريو الحالة المفترض أن تعيشها واشنطن، حيث تنشأ تساؤلات لدى صانعي القرار هناك بشأن أهمية دور حلف "الناتو" وغيره من التحالفات، وأن صانعي القرار سيقومون بالضغط على الحلفاء للمساهمة بشكل أكبر في الخطط الدفاعية، وهو ما سيستغله الخصوم (روسيا والصين) لتنفيذ مخططاتهم النووية، خاصة خلال فترات الأزمات.
- السيناريو الثاني: تنافس التكتلات: هذا السيناريو يبرز قدرات الخصوم العالية مقابل تماسك التحالف القوي، حيث يتشابه هذا السيناريو مع السيناريو السابق، في قيام الصين وروسيا بتوسيع ترسانتيهما النوويتين كماً ونوعاً، بالإضافة إلى استخدامهما الأسلحة النووية ضد أعدائهما في المناطق المحيطة بهم، وسعيهما لإحداث الوقيعة بين حلفاء الولايات المتحدة والتلاعب بهم لتحقيق مصالحهما.
إلا أنه على عكس السيناريو السابق، في تنافس التكتلات، ستتحِد الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد تهديدات أكبر منافسيها وستقوم بتطبيق أدوات سياسية وتقنية عملية لمزامنة جهودهم في ردع موسكو وبكين، وفي ظل ذلك ستعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها ككتلة موحدة ذات آليات جيدة التنسيق لتبادل المعلومات الاستخبارية والقيام بعمليات ردع مشتركة.
كما يطرح السيناريو احتمالية أن حلف "الناتو" سيقترب من إكمال تحوله إلى تحالف سياسي وعسكري قوي وعملي، وأن أعضاءه سيحافظون على التزاماتهم بالإنفاق الدفاعي ودمج القوات والقدرات بنجاح، ليس هذا فحسب، بل يفترض هذا السيناريو أن الولايات المتحدة ستنجح في توسيع نطاق التعاون بينها وبين اليابان وكوريا الجنوبية، وستنجح كذلك في إدماج مبادراتها الأمنية والاقتصادية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في هذا السيناريو، لا تزال احتمالات الحد من التسلح محدودة، حيث قد يشجع الحلفاء الولايات المتحدة على متابعة الحد من التسلح الثنائي أو الثلاثي مع بكين وموسكو لتقييد ترسانتيهما النوويتين وإدارة مخاطر التصعيد الموجودة في المستقبل بشكلٍ أفضل، لكن الضغوط السياسية والتركيز العام على المنافسة من المرجح أن تحد مما يمكن التفاوض عليه، إن وجد.
- السيناريو الثالث: تغير مراكز المنافسة: يرى التقرير أن هذا السيناريو يعزز فكرة انخفاض قدرات الخصم (النووية) وانخفاض تماسك التحالف، ومن ثم سيتوقف التوسع النووي الصيني والروسي، وستتحول المنافسة إلى مجالات أخرى، وستكافح الولايات المتحدة للحفاظ على تحالفات قوية داعمة لها، كما أنه وفقاً لهذا السيناريو فمن المحتمل أن يخشى الحلفاء من تخلي الولايات المتحدة عنهم؛ بسبب تغير أولوياتها، وخوفاً من الوقوع في فخ تصعيد الأزمات المستقبلية من قبل الولايات المتحدة دون استشارة الحلفاء.
- السيناريو الرابع: المنافسة والتعاون: وهو سيناريو يتعلق بتراجع قدرات الخصم وزيادة التماسك بين قوى التحالف، حيث سيتوقف التوسع النووي الصيني والروسي، وتحافظ الولايات المتحدة على شبكة تحالفات قوية وفعَّالة، كما في السيناريو السابق، ولكن تعوق التحديات الاقتصادية إلى حدٍ كبير تطوير روسيا والصين لقدراتهما النووية المتقدمة، ولكنهما سيقومان بتشكيل شراكة قوية مدعومة بتكامل اقتصادي وعسكري وسياسي أعمق.
كما يفترض هذا السيناريو أن روسيا والصين سيقومان بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة منتظمة، وسيسعيان لشق التحالف بين الولايات المتحدة وحلفائها من خلال حملات تضليل، في الوقت الذي ستتغلب فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها على تحديات تبادل المعلومات وسيقومون بتطوير آليات أكثر فعالية لمواجهة الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل.
- السيناريو الخامس: الورقة الرابحة: أبرز التقرير أن السيناريوهات الأربعة المذكورة أعلاه تم قياسها أو تحليلها من خلال عاملين أساسيين هما "قدرات الخصوم وتماسك التحالف"، لكن مع هذا السيناريو تم استخدام سياسة الورقة الرابحة، والتي قد تغير المشهد الكُلي وقد تتضمن الآتي: الغزو الصيني لتايوان لتحقيق التوحيد بالقوة، وتغير مكانة إيران النووية، وانتصار روسيا في الحرب في أوكرانيا باستخدام السلاح النووي، وتغير السياسة الداخلية للولايات المتحدة، واستخدام كوريا الشمالية لأسلحة الدمار الشامل، وحدوث كساد اقتصادي عالمي.
ختاماً، خرج التقرير ببعض التوصيات لصانعي السياسة الأمريكية منها، العمل على تعزيز تماسك تحالفاتها من خلال مزيج من الاستثمار المتبادل في المشروع النووي، وتطوير الإمكانات لإدارة المخاطر النووية، وتحسين أطر التواصل والتشاور مع الحلفاء، وتعزيز مصداقية الولايات المتحدة كشريك استراتيجي، فضلاً عن حفاظها على الاستثمار في المشروع النووي والتقنيات غير النووية.
كما يمكن للولايات المتحدة أن تعزز التماسك مع حلفائها من خلال الالتزام علناً وبشكلٍ متكرر بأهمية التحالف بالنسبة إليها، بالإضافة لاعتماد سياسة التشاور والتخطيط المشترك بينها وبين الحلفاء، كذلك لا بد من الاستعداد لعصر مستمر من المنافسة مع روسيا والصين، مع تقديم الضمانات الأمنية لصالح الحلفاء باستمرار.
كذلك يوصي التقرير، ببناء مؤسسة نووية مرنة قادرة على مواجهة التهديدات الجديدة والناشئة عند ظهورها. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك تفاهم مشترك بين الحلفاء حول دمج القدرات النووية وغير النووية اللازمة لردع الخصوم خاصة روسيا والصين بشكل فعال، والمتابعة عن كثب لكيفية عمل المؤسسة النووية الأمريكية وبنيتها التحتية الدفاعية لسد أي ثغرات، فضلاً عن الاستثمار في بنية تحتية نووية سريعة الاستجابة وقابلة للتكيف.
*لينك المقال في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين*