نقل تقرير فريق "الدعم التحليلي ومراقبة العقوبات" المرفوع لمجلس الأمن الدولي والمنشور يوم 25 يوليو الماضي، قلق دول أعضاء في المجلس من تحول حركة طالبان الباكستانية الإرهابية، المعروفة باسم "تحريك طالبان باكستان" "TTP"، إلى مظلة تتيح للجماعات الأجنبية العمل أو حتى التحالف في ظلها، فيما أشارت إحداها إلى إمكانية "التحام" تنظيم القاعدة الإرهابي في شبه القارة الهندية و"تحريك طالبان".
ومن شأن هذا "الالتحام" أن يعزز طموح "تحريك طالبان" في تحقيق انتصار مماثل لانتصار شقيقتها الأفغانية، باستفادتها من خبرة القاعدة في الدعاية والتجنيد وإدارة المعسكرات والتخطيط الحربي، وبالتالي التطلع لتوسيع حاضنتها الشعبية. كما من شأنه خلق كيان جدير بمنافسة تنظيم داعش الإرهابي الذي كثف عملياته في هذه المنطقة، وكان آخرها هجوماً انتحارياً، يوم 31 يوليو الماضي، على حزب جمعية علماء الإسلام، في شمال غربي باكستان. وهذا هدف يخدم القاعدة و"تحريك طالبان"، فضلاً عن حركة طالبان الأفغانية التي سبق لها استخدام جماعات إرهابية في عمليات ضد تنظيم الدولة في خراسان.
لكن إلى أي حد يمكن نجاح سيناريو "الالتحام" بين "تحريك طالبان" وتنظيم القاعدة؟ سؤال نلتمس جوابه من استقراء عومل التقارب والتباعد بينهما.
مُحفزات التقارب:
شهدت أواسط ثمانينيات القرن الماضي توافد الجهاديين، ومنهم أيمن الظواهري وسيد إمام، إلى المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، قبل ارتباطهم بأسامة بن لادن وتأسيس القاعدة في أواخر الثمانينيات. حينها خلقت تأثيرات الجهاد ضد السوفييت ظروفاً ملائمة للعناصر الجهادية لتوطيد العلاقات بينها على أساس عقيدة "الولاء والبراء"، التي تجلت في دعم القاعدة للخيارات العسكرية والسياسية لحركة طالبان الأفغانية واستيطان "دار الإسلام الوليدة" المُعلنة عام 1996، وأداء ولاء البيعة لزعيمها، فتوثقت علاقتها بطالبان برباط "شرعي" يُلزمها بالدفاع عن "إمارتها" التي أسقطها الأمريكيون في ديسمبر 2001. إذ دخل حينها كل الطيف الجهادي في أفغانستان في الحرب العالمية ضد الإرهاب، وكان من هذا الطيف المجاهدون الباكستانيون الذين شكلوا، بحسب أبو مصعب السوري، "خليطاً من تلاميذ العلماء والمدارس الدينية في باكستان" التي تُعد "امتداداً لطالبان فكراً ومنهجاً". وبالنظر إلى القرب الجغرافي والتداخل القبلي بين مكونات المجتمعين الباكستاني والأفغاني، تنامى دور الجهاديين الباكستانيين في المناطق الحدودية التي شكلت معاقل رئيسية للجهاديين ضد القوات الغربية، فتعزز ارتباطهم بالقاعدة.
كما توثق ارتباطهما بتنامي الميول السلفية لدى النخبة السياسية والعلمية المرتبطة بـ"تحريك طالبان"، مثل حكيم الله مسعود الذي تولى قيادتها خلال (2009 - 2013)، والمحدث نظام الدين شامزي، الذي تبنى عناصرها فتواه، في سبتمبر 2001، قبل ست سنوات من تأسيسها، باعتبار الجهاد في حال إسقاط طالبان سيصير "فرض عين"، ومن وحيها قاتلوا الحكومة الباكستانية؛ لأن الفتوى اقتضت "إن ساعد حاكم دولة إسلامية دولة كافرة في عدوانها على الدول الإسلامية، فعلى المسلمين خلعه شرعاً، واعتباره خائناً للإسلام والمسلمين"، على حد وصفهم.
كما مثّلت القاعدة مصدر إعجاب وتأثير لدى "تحريك طالبان"، وهو ما اتضح في فظاعة عملياتها، بعد أن صارت قوة رئيسية في المنطقة تتكون من حوالي 40 فصيلاً. وهذا التأثير أقنع المجتمع الدولي بإدراجها في لوائح الإرهاب، مثل اللائحة الأممية، في يوليو 2011، بصفتها كياناً مرتبطاً بتنظيم القاعدة. وكان من أبشع عملياتها التفجير الذي أودى بحياة رئيسة الوزراء السابقة، بنظير بوتو، في ديسمبر 2007، ومجزرة ضد مدرسة في بيشاور، في ديسمبر 2014، خلَّفت أكثر من 150 قتيلاً. وهي المجزرة التي وقعت إثر تلقي الحركة "ضربة الغضب" (Zarb-e-Azb) من الجيش الباكستاني، في يونيو 2014، وأدخلتها في مرحلة من التفكك والتقهقر، الذي تعافت منه بعد مبايعة أكثر من 11 فصيلاً لمفتي نور والي محسود الذي تزعم طالبان باكستان عقب مقتل سلفه في يونيو 2018.
ويُفسر نجاح القائد الجديد في بعث التنظيم بتبنيه للخيار الفدرالي الذي يسمح لمكونات الحركة بدرجة كبيرة من الاستقلالية، وهو ما أتاح لها، بين ديسمبر 2019 وأغسطس 2020، انضمام جماعة "شهريار محسود" وجماعة "الأحرار" وحزب "الأحرار" وجماعة "أمجد فاروقي" وجماعة "عثمان سيف الله". وهذه النجاحات تعود في جزء منها لجهود القاعدة، بحسب تقرير فريق "الدعم التحليلي ومراقبة العقوبات"، الصادر في 1 يونيو 2021. كما أشارت مصادر إلى أهمية الدعم والاستشارات التي قدمتها القاعدة لـ"تحريك طالبان" ومست كل المستويات، بما فيها الجوانب السياسية المتمثلة في إقناعها بالتخلي عن إسقاط الحكومة الباكستانية مقابل العمل على انفصال المناطق البشتونية القبلية وتحكيم الشريعة بها، ثم الجوانب القتالية مثل هجر العنف العشوائي ضد المسلمين، وذلك بعد أن عدَّلت القاعدة من سياستها القتالية لتمييز نفسها عن عمليات الزرقاوي وحلفائه في العراق الذين اتخذوا مساراً مغايراً لخيارات التنظيم المركزي للقاعدة.
عوامل التباعد:
ينظر قادة "تحريك طالبان" لأنفسهم على أنهم أصحاب فضل وسابقة على المجاهدين الأجانب، ولهم في أرضهم حق التكييف الفقهي للتدبير السياسي والعسكري. بينما ينظر قادة القاعدة لأنفسهم على أنهم أهل معرفة بالدين، ولهم بحكم علمهم حق النصح والرقابة الشرعية على الآخرين. لذلك حرصت "تحريك طالبان"، في فبراير 2021، على نفي صلتها بالقاعدة، وتأكيد تمايزها عنها من حيث اهتماماتها المحلية، كما أنكرت دورها في إعادة توحيدها.
وهذه العلاقة "الندية" و"التنافسية" كشفت عنها وثائق آبوت آباد بنشر رسالة لعطية الله الليبي، القيادي في القاعدة، إلى حكيم الله محسود، زعيم حركة طالبان باكستان سابقاً، في 3 ديسمبر 2010، يوبخه فيها على المخالفات الشرعية في "فكر ومنهج وسلوك" حركته، وذكر منها "اعتبار حكيم الله محسود الأمير الأوحد الذي يجب على الجميع مبايعته"، و"التوسع في مسألة القتل" و"تكفير المسلمين". كما انتقد سعي الحركة لاستقطاب أحد جنود القاعدة دون التحدث إلى مسؤوليه حسب "ما يقتضيه الفقه وأصول وآداب العمل الجماعي". وحذره بالقول "فإن لم نرَ منكم سعياً جاداً فورياً وخطوات عملية فعلية واضحة للإصلاح والتبرؤ من تلك الأخطاء الشـرعية الفاحشة، فإننا سنكون مضطرين لاتخاذ خطوات شرعية علنية حاسمة".
وتعكس رسالة الليبي، التي تمت صياغتها بأسلوب تعليمي واستعلائي، عوامل التباعد بين "تحريك طالبان" وتنظيم القاعدة في الرؤيتين الاستراتيجية والأيديولوجية، كالتالي:
1- الرؤية الاستراتيجية: أشار إليها عطية الله الليبي بتأكيد "عالمية" القاعدة؛ فهي "تنظيم إسلامي جهادي عالمي لا يتقيد بوطن ولا جنس"، وبالتالي تُمثل مشروع أمة. لذلك حتى عندما ذكر مبايعتها للملا محمد عمر مجاهد، أصر على التذكير بالسماح لها "بالعمل الجهادي العام" لإضفاء التميز والسمو عليها، فهي "ليست عالة على غيرها وليست بحاجة لفضل الآخرين عليها"، وهذا ما قصده بالقول "نسمع من بعض الناس تسميتنا بالضيوف" وهذا وصف "لا يتعلق به حكم شرعي.. لذلك ندعوكم وكل المجاهدين لترك استعمال هذا الوصف".
ومن هذه "العالمية"، بادرت القاعدة، في سبتمبر 2014، إلى تأسيس "قاعدة الجهاد في شبه الجزيرة الهندية" لتمديد وجودها بالمنطقة، وهو التنظيم الذي غير اسم مجلته "نواي الجهاد الأفغاني" (صوت الجهاد الأفغاني) إلى "نواي غزوة الهند" (صوت غزوة الهند)، ابتداءً من إبريل 2020، لتأكيد الحدود الجغرافية لتطلعاته الجديدة.
2- الرؤية الأيديولوجية: أشار إليها الليبي بالتطرق إلى المخالفات الشرعية لـ"تحريك طالبان"، وذلك لاختلافهما في المفاهيم الدينية. فالقاعدة يؤطرها الفقه الحركي الذي يصوغه النشطاء، أما "تحريك طالبان" فتعتد بالفقه التقليدي الصادر عن العلماء، وهذا يطرح خلافات مرتبطة بالعلم الشرعي خصوصاً حول المذهبية والعلماء.
وتنسجم "تحريك طالبان" مع الثقافة المحلية، التي أشاعتها المدارس الدينية خاصة "الديوبندية"، وبالتالي تخالف سلفية القاعدة التي تستهجن التصوف والتمذهب في الفقه والعقيدة، وتراه من التقليد المنهي عنه، وتقول بـ"فقه الدليل" الذي يُوجب الرجوع للنصوص وفهمها بالاتباع وليس بالتقليد. فالقاعدة، على خطى مشايخها السلفيين، ترى المذهبية مُفرقة للمسلمين، وهي وإن لم تحاربها علناً فلأنها كيان عملي بطموح سياسي يتجنب المعارك الجدلية.
وبخصوص العلماء، فإن "تحريك طالبان"، بالرغم من انفتاحها على الفكر الحركي، لم تتبرأ من حقهم في توجيه التنظيم انسجاماً مع التقاليد البشتونية التي تبجلهم. فهي تخالف فقه تنظيم القاعدة القائم على مبدأ "لا يفتي قاعد لمجاهد"؛ إذ لا يشكل العلماء مرجعية للقاعدة إلا من كان منهم منخرطاً في القتال. وحول ذلك، كتب بن لادن "القاعد لا يُسمع له ولا يُطاع"، واعتبر قعود العلماء "ناتجاً عن خلل غير عادي في الفقه". كما أن الليبي عندما أوصى الزرقاوي بعدم التعرض للعلماء، برَّرَ ذلك بأنه "تألفاً لهم ولمن وراءهم من العامة وهم جمهور الأمة".
السيناريو الأقرب:
إن العلاقة بين "تحريك طالبان" وتنظيم القاعدة اخترقها الفتور حيناً والتنافس المحموم حيناً آخر، وبالتالي فالتحام الكيانين في وحدة اندماجية تُحولهما لكيان ثالث، يعتبر سيناريو غير واقعي؛ بالنظر إلى التباينات الاستراتيجية والأيديولوجية بينهما.
لذا يتمثل السيناريو الأقرب لأي تطور محتمل لعلاقتهما، بما يتعدى أشكال التعاون والتحالفات التقليدية، في انضمام فرع القاعدة إلى فيدرالية "تحريك طالبان"؛ لأنه يسمح بتكامل الوظائف والمصالح بين تنظيم كبير وآخر صغير، فليس من مصلحة "تحريك طالبان" وهي في أوج قوتها القبول باندماج يفقدها جزءاً من هويتها أو يُلزمها بمراجعة أولوياتها، خاصة أن القاعدة لم تعد تمتلك قوة مادية لإغراء غيرها بالرضوخ لها.
وبهذا ستستفيد "تحريك طالبان" من انضمام فصيل جديد لشبكتها بحوالي 200 مقاتل إلى تعداد مقاتليها الذي يبلغ، حسب البعض، 10000 بحساب أسرهم ومناصريهم، بحيث يعوضها عن نزيف داخلي مرجح جراء التفاهمات مع حركة طالبان الأفغانية. إذ تحدثت مصادر عن انفصال مخلص يار محسود عنها، وذكرت صحيفة (The Friday Times) الباكستانية أخيراً إمكانية انضمام فصائل من "تحريك طالبان" لفرع داعش في خراسان؛ بفعل ضغوط طالبان الأفغانية عليها لنقل عناصرها بعيداً عن المنطقة الحدودية. كما أكد تقرير أممي نقل بعض عناصر "تحريك طالبان" بعيداً عن المنطقة، خلال يونيو الماضي، استجابة للضغوط الباكستانية.
كما ستستفيد "تحريك طالبان" بمؤهلات فرع القاعدة وخبراته، خاصة أن التقرير الأممي تحدث عن توجيهه لها لزيادة هجماتها داخل باكستان. فيما سيضمن تنظيم القاعدة، بفضل التركيب الفدرالي لـ"تحريك طالبان"، احتفاظ الفرع بهويته على غرار جماعة الأحرار التي تحتفظ باستقلالية أوسع، وسيخرج عناصره من الخمول للانخراط في العمل الجهادي الذي جُندوا من أجله.