تستعد إسبانيا لإجراء انتخابات عامة في 23 يوليو 2023، وهي انتخابات مُبكرة دعا إليها رئيس الوزراء الحالي، بيدرو سانشيز، بعد أن خسر حزبه "العمال الاشتراكي" في الانتخابات الإقليمية والبلدية في شهر مايو الماضي، والتي حقق فيها حزب "فوكس" اليميني المتشدد نتائج فاقت كل التوقعات. وتُظهر استطلاعات الرأي أن الحزب "الشعبي"، وهو حزب سياسي يميني، سيأتي في صدارة الانتخابات العامة المقبلة، مع حصول حزب "فوكس" أيضاً على تأييد متزايد، وسط تراجع لحزب "العمال الاشتراكي".
وبالتالي يشكل صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسبانيا امتداداً لما تشهده العديد من الدول الأوروبية من موجة صعود لهذا التيار، حيث بدت مؤشراتها في تقدم اليمين المتطرف في نتائج انتخابات مختلفة (رئاسية/ برلمانية/ محلية)، إلى حد تشكيل أول حكومة إيطالية يمينية متطرفة في سبتمبر 2022. كما شارك اليمين أيضاً إما في دعم حكومات مثل السويد، أو اشترك في حكومات مثل فنلندا، بخلاف استمرار حكومات أخرى يمينية تخطى وجودها عقداً من الزمان مثل حالة فيكتور أوربان في المجر، أو تقترب من العقد مثل حزب العدالة والقانون في بولندا. ويأتي صعود التيار الشعبوي بكل طوائفه (اليساري واليميني) نتيجة تداعيات انتشار وباء "كوفيد19"، والحرب الروسية الأوكرانية.
مؤشرات الصعود:
تعددت مسارات صعود اليمين المتطرف في أوروبا بين شرق وغرب القارة وشمالها وجنوبها، فلم يتوقف الأمر عند دول الجنوب، خاصة المتوسطية التي تعاني من أزمات هيكلية، فسرها اليمين المتطرف على أنها نابعة من سياسات الهجرة، والبقاء في الاتحاد الأوروبي؛ لكن دولاً مثل السويد وفنلندا اللتين تحققان أعلى معدلات رفاهية صعد فيها اليمين المتطرف كبديل للأحزاب المعتدلة. ويمكن قراءة خريطة وجود اليمين في أوروبا عبر الجدول التالي:
ومن خلال الجدول السابق، يمكن استنتاج عدة ملاحظات، ومنها الآتي:
1- توقيت الصعود: طبقاً لتواريخ الاستحقاقات الانتخابية، يُلاحظ إجراؤها إما في العام الأول من الحرب الروسية الأوكرانية أو عامها الثاني، وهو ما يعنى التأثر التدريجي بتداعيات هذه الحرب. ففي الانتخابات الفرنسية، كانت برامج المرشحين مرتبطة إما بمواقفهم من الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا أو التداعيات الاقتصادية وكيفية معالجتها. ومع استمرار الحرب، تدفقت موجات من اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، مما عزز موقف اليمين المتطرف، وهو ما اتضح جلياً في انتخابات فنلندا التي برز فيها اللجوء كقضية محورية في هذه الانتخابات، ثم تشكيل الحكومة بمشاركة حزب "الفنلنديين" اليميني المتطرف.
2- جغرافيا الصعود: صعد اليمين المتطرف تقريباً في الدول الأوروبية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، مع تراجع اليسار في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، ولاسيما في فرنسا وإيطاليا والسويد وإسبانيا وفنلندا، مع استمرار سيطرته في شرق أوروبا عبر حزب "فيدس" في المجر.
عوامل دافعة:
قد تختلف حالة الناخبين من دولة لأخرى في التصويت للأحزاب التقليدية، وكذلك للأحزاب اليمينية المتطرفة، سواءً تبعاً للقيم الثقافية المنتشرة، من حيث الحنين للجذور القومية والتاريخية، أو للأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية. ويمكن توضيح أبرز عوامل صعود اليمين المتطرف في أوروبا خلال الفترة الأخيرة، فيما يلي:
1- الانخراط في تحالفات سياسية: في الانتخابات التشريعية الإيطالية عام 2018، صعد حزب "رابطة الشمال" وحركة "خمس نجوم" (الشعبوية) إلى سدة الحكم عبر تحالف ثلاثي ضم معهما حزب "فورزا إيطاليا" برئاسة برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا الراحل، وصُنفت هذه الحكومة على أنها شعبوية تضم اليمين واليسار المتطرف، لكنها لم تلبث أن تفككت بخروج حزب "رابطة الشمال" ودخول الحزب "الاشتراكي"، وبذلك يدعم حزب غير يميني حكومة شعبوية. ولا تُعد الحالة الإيطالية استثناءً، فقد شهدت انتخابات السويد عام 2022 حصول حزب "الديمقراطيين السويديين" على المرتبة الثانية خلف الحزب "الاشتراكي"، وبالطبع لم يتعاونا لتشكيل حكومة، لكن حزب "المعتدلين"، الذي جاء في الترتيب الثالث، اتفق على الحصول على دعم "الديمقراطيين السويديين" لتشكيل حكومة أقلية؛ نظراً لأن الأحزاب الليبرالية وأحزاب الوسط رفضت أن تشارك في حكومة بها يمين متطرف.
في المقابل، بدت الحالة الفنلندية الأكثر اندماجاً بين يمين الوسط واليمين المتطرف، حيث شكلا معاً ائتلافاً رباعياً ضم بجوارهما حزبين من "الليبراليين" و"الديمقراطيين المسيحيين"، وذلك عقب الانتخابات التي أُجريت في إبريل 2023، والتي جاء فيها حزب "الفنلنديين" المتطرف في المرتبة الثانية بنسبة 20.1%، خلف حزب "الائتلاف الفنلندي" الذي حصل على 20.8%.
2- اللجوء إلى "التصويت العقابي": يرمز هذا النوع من التصويت إلى تحول الناخبين تجاه تيار أو حركة أو حزب ليس إيماناً به، بقدر ما هو عقاب لحزب آخر لم يلتزم ببرنامجه الانتخابي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، الانتخابات المحلية الإسبانية التي أُجريت في شهر مايو الماضي التي شهدت تقدم الحزب "الشعبي" المحافظ وحزب "فوكس"، وتراجع الحزب "الاشتراكي". ونفس الحال في انتخابات اليونان عام 2019، حين صوت الناخبون لصالح حزب "الديمقراطية الجديدة" على حساب الحزب "الاشتراكي". وفي فرنسا لم يمنح الناخبون الرئيس إيمانويل ماكرون حرية تشكيل حكومة منفرداً، بل دعموا التيار الشعبوي بفرعيه اليساري "حركة فرنسا الأبية"، واليميني حزب "التجمع الوطني". إذن الثابت والمشترك في الحالات الثلاث السابقة أن "التصويت العقابي" أسهم في صعود وتعزيز اليمين المتطرف.
3- الاهتمام بالقضايا الاقتصادية: أثرت الحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من تداعيات اقتصادية في الانتخابات الأوروبية التي أُجريت منذ اندلاع الحرب. وانقسمت الأحزاب اليمينية في رؤيتها لهذه الحرب ما بين تحميل الولايات المتحدة المسؤولية مع رفضها التدخل العسكري الروسي، أو خفض الدعم لموسكو والتعبير عن التضامن مع أوكرانيا. وفي هذا السياق، بدأ التفكير أكثر في التركيز على القضايا الداخلية مثل تعزيز القدرة الشرائية، وخفض الضرائب، وتحقيق العدالة الاجتماعية. فهذه الأفكار جذبت العديد من الناخبين الأوروبيين نحو اليمين المتطرف، مما أكسبه قوة رفعت أسهمه مثلاً في انتخابات فرنسا (الرئاسية والبرلمانية)، والسويد (البرلمانية)، وفنلندا (البرلمانية)، واليونان (البرلمانية)، مع توقع تقدم تحالف حزب "فوكس" (المتطرف) مع الحزب "الشعبي" (المحافظ) في الانتخابات التشريعية الإسبانية القادمة المقرر إجراؤها يوم 23 يوليو الجاري
4- كسب تأييد الأسرة التقليدية: يُعرف عن الأحزاب اليمينية المتطرفة أنها، بالإضافة إلى كونها قومية، فهي كذلك متدينة، حيث يرفض أغلبها عدة ظواهر مثل الإجهاض، والإلحاد، والمثلية الجنسية، وأي قيم أخرى تخالف العقيدة الدينية. لذا يبرز اليمين المتطرف على أنه حارس قيم التدين والأسرة التقليدية التي تعيش في كنف الدين والأعراف التقليدية والتي بالطبع لها مواقف معارضة لما يخالف الدين أو القيم الأسرية.
تداعيات مُحتملة:
يصاحب عادة تغير الأنظمة السياسية الحاكمة في الدول تحولات داخلية بها، وتأثيرات في علاقاتها الخارجية، وأحياناً معالجة متباينة للأزمات. وفيما يخص صعود اليمين المتطرف وتولي بعض أحزابه الحكم في عدة دول أوروبية، ثمة تداعيات متوقعة يمكن إجمالها فيما يلي:
1- مزيد من التشدد بشأن الهجرة واللجوء: تُعد قضية الهجرة واللجوء هي المكون الرئيسي لليمين المتطرف في أوروبا، والذي يُعرف عنه شعارات "لا للاتحاد الأوروبي، لا للإسلام، لا للهجرة واللاجئين". ومن هنا انطلقت برامج الأحزاب اليمينية تُحمل تارة مسؤولية التراجع الاقتصادي في دولها لوجود لاجئين، كما هو الحال في إيطاليا واليونان على وجه الخصوص، أو تعارض خطط الاتحاد الأوروبي ونظام الحصص القائم على تقاسم أعباء اللاجئين. ففي الخامس من يونيو 2023، بعدما أعلنت الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي عن التوصل إلى اتفاق حول نظام الهجرة، يُلزم دول المتوسط مثل إيطاليا واليونان بترتيبات جديدة مع فرض قيود أكثر على اللاجئين، صوتت كل من بولندا والمجر ضد هذه المقترحات، وامتنعت عن التصويت دول أخرى مثل بلغاريا، ومالطا، وليتوانيا، وسلوفاكيا. كما أعلنت زعيمة حزب "الفنلنديين" اليميني المتطرف، ريكا بورا، أنها ترغب في إحداث نقلة نوعية في الهجرة، تجعل حصة بلادها تصل إلى 500 لاجئ فقط.
2- تصاعد العنف والعنصرية: سبق أن برر رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، في عام 2015، رفضه استقبال لاجئين، بالخشية من اختلاط العرق المجري بالأعراق الأخرى. وفي ألمانيا، بحسب تقرير رئيس وكالة الاستخبارات المحلية، توماس هالدينوانغ، فإن حوالي 10 آلاف من أصل 28500 عضو في حزب "البديل" متطرفون، وقد نُسب لبعض أعضائه الاشتراك في محاولة الانقلاب التي جرت في 7 ديسمبر الماضي. كما شهدت ألمانيا عام 2021 تسجيل الشرطة لما يفوق 55 ألف جريمة ذات دوافع سياسية أو دينية، منها حوالي 22 ألف جريمة اُرتكبت بدوافع يمينية متطرفة.
3- دعم التقارب مع روسيا: في خضم انتصار رئيس الوزراء المجري، أوربان، العام الماضي، صرح بأن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، "خصم له"، وهو ما يُعبر عن تضامنه مع روسيا، التي لطالما رفض أوربان استمرار العقوبات الغربية ضدها. كما يدعو حزب "البديل من أجل ألمانيا" إلى تحسين العلاقات مع موسكو. ويدعم هذا الاتجاه في ألمانيا استطلاعات رأي تقول إن ثُلث الألمان لا يحبذون سياسات المستشار شولتس في الحرب الأوكرانية، وأن 55% ممن تم استطلاع رأيهم يرغبون في بذل برلين وحكومتها المزيد من الجهود لوقف الحرب وإنهاء القتال.
إجمالاً، يمكن القول إن موجات صعود اليمين المتطرف في أوروبا مستمرة، وتغذيها عدة روافد، وصارت لا تتوقف على الحالة الاقتصادية أو وجود وباء أو حرب؛ بل إن الحنين للقومية والبطولات التاريخية والاعتزاز بالقيم الثقافية التقليدية، عوامل متحكمة أيضاً في مسارات اليمين المتطرف. ومن شأن هذا الصعود أن يؤثر في قضايا عديدة، وسيكون من بين الخاسرين في هذا الصعود، اللاجئون في أوروبا الذين يضيق عليهم الخناق يوماً بعد آخر.