أقرّ مجلس النواب العراقي، في 12 يونيو 2023، مشروع قانون الموازنة العامة لثلاث سنوات (2023 – 2025)، بما فيها موازنة إقليم كردستان العراق، وذلك عقب حوالي ثلاثة أشهر من رفع الحكومة لمشروع الموازنة. وبلغت قيمتها نحو 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار)، وهو ما يجعلها الأكبر في تاريخ الموازنات بالعراق.
أبعاد الموازنة:
جاء إقرار الموازنة العراقية الجديدة، بعد عامين من استمرار العراق دون موازنة عامة، بسبب الخلافات بين القوى السياسية، ويمكن الوقوف على أبرز الأبعاد التي تتضمنها الموازنة الجديدة، على النحو التالي:
1- موازنة مُوسعة مقارنة بموازنة 2021: تشهد موازنة العراق الجديدة ارتفاعاً في بنودها الرئيسية بالنسبة لموازنة عام 2021، حيث بلغ إجمالي الإيرادات العامة للأخيرة حوالي 101 تريليون دينار، وبلغ حجم النفقات العامة قرابة 130 تريليون دينار، بينما بلغ حجم العجز حوالي 29 تريليون دينار.
وفي المقابل، بلغ إجمالي الإيرادات المتوقعة في الموازنة الثلاثية نحو 134.5 تريليون دينار (103,4 مليار دولار)، وقيمة النفقات المُقدّرة بها حوالي 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار)، لكل عام، وهو ما يُشير إلى ارتفاع الإيرادات والنفقات المتوقعة بشكل عام في الموازنة الثلاثية الجديدة، خاصة فيما يتعلق ببند الأجور والرواتب، حيث تستهدف الحكومة العراقية إضافة قرابة 600 وظيفة جديدة للقطاع العام، وهو ما سيزيد الأعباء على الموازنة.
2- اعتماد الموازنة على إيرادات النفط: تشكل العائدات النفطية حوالي 90% من الإيرادات الكلية المتوقعة في الموازنة الجديدة، بمتوسط تصدير 3.5 مليون برميل نفط يومياً، منها 400 ألف برميل يومياً من إقليم كردستان العراق، بسعر نفط 70 دولاراً للبرميل، وذلك في حال عدم وجود أي ظروف استثنائية، بينما كانت تشكل العائدات النفطية حوالي 80% من الإيرادات العامة في موازنة 2021.
3- ثبات حصة إقليم كردستان: بلغت حصة إقليم كردستان في الموازنة الثلاثية الجديدة حوالي 12,67%، وهي تقريباً نفس الحصة التي كانت في الموازنة السابقة. ومن الملاحظ أن الإقليم سوف يكون ملزماً بتسليم إيرادات إنتاجه النفطي إلى بغداد، وذلك عقب قرار محكمة باريس للنزاعات الاقتصادية، في مارس 2023، الذي أعطى الحق لبغداد في إدارة ملف النفط بالإقليم، وألزم حكومة أربيل بتسليم إيرادات حوالي 400 ألف برميل يومياً من النفط إلى بغداد.
وأكدت الموازنة الجديدة هذا الأمر، إذ نصت الفقرة "أولاً" من المادة (14)، على أن يتم إيداع الإيرادات الكلية للنفط المنتج من حقول الإقليم في حساب مصرفي واحد تودع فيه جميع الإيرادات المتأتية من تصدير أو بيع النفط الخام ومشتقاته من دون أي استقطاعات.
4- توافق الحد الأدنى: تم إقرار الموازنة الثلاثية الجديدة في العراق، بعد التعثر الذي شهدته عدة جلسات في ظل اتساع هوة الخلافات بين القوي السياسية، حيث كان من المُتوقع إقرار الموازنة مطلع العام 2023، إلا إنها تأخرت نحو خمسة شهور. ويُدلل إقرارها على حدوث قدر من التوافق السياسي حيال الموازنة الجديدة، وعلى الرغم من الخلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وبعض القوى السياسية الأخرى حول الآلية التي سيصدر بها الإقليم النفط، فإن الحزب وافق، في النهاية، على إقرار الموازنة، مبرراً ذلك برغبته في تمكين الحكومة من دفع الرواتب واستمرار الاستثمارات والحد من المشاكل، أي أن الحزب قدم تنازلاً للتفرغ لمواجهة الضغوط الاقتصادية الراهنة، وإن كان من الملاحظ أن موقف الحزب تباين بشدة بعد إقرار الموازنة، وذلك لتمرير الفقرة "ثامناً" من المادة (14)، في اللحظات الأخيرة، ودون موافقته، وهو ما سيتم تفصيله لاحقاً.
وبالتوازي مع ذلك، ثمّن رئيس تيار الحكمة، عمار الحكيم، جهود مجلس النواب في صياغة ومناقشة وإقرار الموازنة الثلاثية، وحثّ المجلس على المضي في إقرار القوانين التي تصب في الصالح العام، بالإضافة إلى مباركة كل من النائب الأول لرئيس البرلمان محسن المندلاوي، ورئيس كتلة صادقون في البرلمان قيس الخزعلي إقرار الموازنة، واعتبار ذلك إنجازاً لتحقيق التنمية والرخاء الاقتصادي.
5- التوجه نحو المشاريع التنموية: خصصت الموازنة الجديدة نحو 38 مليار دولار سنوياً، لصالح مشاريع بناء الطرق وقطاع الإسكان والمدارس والمستشفيات، أي البدء في تنفيذ العديد من المشاريع الخدمية، علاوة على وجود صناديق تنمية، كصندوق تنمية العراق، والذي خُصص له تريليون دينار عراقي، وكذلك صندوق تنمية المحافظات الأعلى فقراً، علاوة على صناديق تنمية لسنجار والمناطق الغربية والمناطق المتضررة، وهو بمثابة تطور جديد وضع في الموازنة. ويكشف ذلك عن سعي الموازنة لتنمية محافظات العراق السنية، والتي تضررت مناطقها من الحرب على "داعش".
وفي المقابل، رفض البرلمان المادة (42) من قانون الموازنة، والتي تنص على فرض ضرائب ورسوم على على عوائد مبيعات البنزين والنفط الأسود والوقود المستورد على كل مسافر عبر المطارات العراقية، وذلك تجنباً لإثقال كاهل الشعب العراقي بأعباء إضافية قد تتسبب في اندلاع موجات جديدة من التظاهرات الشعبية خلال الفترة المقبلة.
تحديات مُحتملة:
يُمثل إقرار الموازنة المالية الجديدة خطوة أولية في تحقيق التنمية والإعمار ومواجهة المشكلات الاقتصادية التي شهدها العراق خلال الفترة الماضية، إلا إنه من الملاحظ أن الميزانية قد تؤدي إلى صراعات جديدة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- غضب "الديمقراطي الكردستاني": جاءت الحصة المقررة لإقليم كردستان في الموازنة الجديدة، بخلاف ما كان يطمح إليه زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني، والذي كان يأمل في أن تصل حصة الإقليم من الموازنة إلى 17% منها، كما تم الاتفاق خلال الزيارة التي أجراها وفد كردي إلى العاصمة بغداد، في فبراير 2023.
وقد وضح حجم غضب الحزب الديمقراطي في تصريحاته التالية على تمرير الموازنة، والتي أكد فيها أن تمرير القانون جاء خلافاً للاتفاق الذي أبرم في وقت سابق بين حكومة الإقليم وحكومة بغداد، غير أن ما أثار غضب مسعود البارزاني هو تمرير الفقرة "ثامناً" من المادة (14)، والتي تسمح لمحافظات كردستان العراق بتقديم التماس إلى الحكومة الفدرالية للحصول على تمويل مباشر عندما تمتنع أربيل عن تقديم حصة عادلة.
وقد طرح هذا البند من قبل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يزعم منذ فترة طويلة أن غريمه "الديمقراطي الكردستاني" يرفض إعطاء حصة عادلة من موازنة الإقليم لمحافظتي السليمانية وحلبجة مقارنة بأربيل ودهوك التي يسيطر عليهما الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو ما يُعد إضعافاً لسلطة الأخير، وانتصاراً لـ"الاتحاد الوطني"، والذي لطالما كان يتهم "الديمقراطي الكردستاني" بالاستئثار بموارد الإقليم. ولذلك اعتبر مسعود البارزاني أن تمرير الموازنة بهذه المادة يُمثل "تجاوزاً وتقويضاً لكيان إقليم كردستان"، مضيفاً أن "إقليم كردستان ليس خطاً أحمر فحسب، بل هو خط الموت".
ومن جهة أخرى، فقد تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لتسوية الخلافات بين بغداد وأربيل في حال وقوع خلافات، غير أن "الاتحاد الوطني" نجح في النص على أن حسم هذه الخلافات يكون في يد رئيس مجلس الوزراء الاتحادي، وهو ما يُعد إضعافاً لحكومة إقليم كردستان العراق، المهيمن عليها من الحزب الديمقراطي الكردستاني، لصالح بغداد.
وفي الواقع العملي، فإن البارزاني لن يكون قادراً على تغيير ذلك الواقع، خاصة وأن الميزانية تم إقرارها، وبدعم من جانب حزب الاتحاد الوطني الكردستاني و"الإطار التنسيقي". ولذلك، فإن الخلافات سوف تتعمق أكثر ليس فقط بين "الديمقراطي الكردستاني" وحكومة السوداني، ولكن كذلك بين الأول و"الاتحاد الوطني".
2- خلاف محتمل على الزعامة الشيعية: يخشى البعض من إمكانية اندلاع خلافات داخل "الإطار التنسيقي" خلال الفترة المقبلة، وهي خلافات كانت قائمة من قبل، كما يتضح في الخلاف حول مقررات هيئة الحشد الشعبي، ضمن قانون الموازنة، على سبيل المثال، ولكن يرتبط الخلاف هذه المرة بالصراع على الزعامة الشيعية، وأن يقوم السوداني بتحركات إضافية لتدعيم رصيده السياسي خلال المرحلة المقبلة، عبر تعزيز شعبيته في الشارع العراقي على حساب الزعامات التقليدية، بما في ذلك نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون، وغيره من الزعامات الشيعية.
3- المدى الزمني للموازنة: جاءت الموازنة العراقية الجديدة لمدة ثلاث سنوات، وهو أمر غير مُفضل من الناحية الاقتصادية، على أساس أنه قد يكون من الصعوبة التنبؤ بالمتغيرات التي قد تشهدها تلك الفترة الزمنية الكبيرة، لذا ينصح الاقتصاديون بأن تكون الموازنة لمدة عام. وقد أشارت الموازنة الجديدة إلى أن الحكومة ستكتفي، ومن خلال وزارتي المالية والتخطيط، بالعمل على إجراء بعض التعديلات على فقرات الموازنة للعاميين الماليين المقبلين 2024 و2025، ثم ترفع التعديلات لمجلس النواب للمصادقة عليها دون الحاجة إلى تشريعات جديدة ضمن الموازنة.
ومن جهة أخرى، فإن إقرار الموازنة لثلاث سنوات قد يؤشر على استمرار الحكومة الحالية طوال هذه الفترة، وليس لعام واحد، مثلما تعهدت به في برنامجها الحكومي، بما قد يفتح المجال أمام مزيد من الخلافات بين القوى السياسية خلال المرحلة المقبلة.
4- ارتفاع نسبة العجز: بلغت نسبة العجز المالي في الموازنة الجديدة مستوى قياسياً عند حوالي 64.36 تريليون دينار عراقي، ويُعد العجز الأكبر من نوعه في العراق منذ سنوات طويلة، ما يضاعف الديون على الحكومة، ويضيف المزيد من أعباء خدمة الدين، من فوائد وأقساط على الموازنات القادمة، ويُقدر العجز تقريباً بضعف عجز الموازنة الماضية، أي ما يقارب 25% من إجمالي حجم الموازنة ليصل إلى نحو 40 مليار دولار، وهو ما قد يدفع الحكومة العراقية إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي لتغطية هذا العجز.
وفي التقدير، يمكن القول إن الموازنة العراقية الجديدة، قد أصبحت واقعاً حاكماً للعراق خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهو ما يعني أن السوداني سوف يكون قادراً على تنفيذ خططه التنموية، بما يساعده على رفع شعبيته في الشارع العراقي خلال الفترة المقبلة، ولكن في المقابل، فإن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني نجح في استثمار علاقاته القوية بـ"الإطار التنسيقي" لتمرير بنود في الميزانية تضمن له الحصول على حصته من موارد الإقليم من دون المرور بحكومتها في أربيل، على نحو يضعف من سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على الإقليم.