زعم تقرير لوكالة "رويترز"، نهاية مايو 2023، أن الحكومة الكينية تعرضت لسلسلة هجمات سيبرانية وعمليات اختراق إلكتروني من قبل مجموعة من القراصنة الصينيين، وهو ما ربطته هذه التقارير بمحاولة بكين الحصول على معلومات متعلقة بديونها المستحقة لدى نيروبي، وتحديداً محاولة بكين فهم كيف ستقوم كينيا بدفع ديونها للصين.
هجمات سيبرانية مزعومة:
شهدت الأيام الأخيرة حالة من الجدل بسبب التقارير الغربية التي كشفت عن هجمات سيبرانية تعرضت لها الحكومة الكينية من قبل بعض القراصنة الصينيين، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- اتهامات بالتجسس على نيروبي: نشرت وكالة "رويترز" تقريراً مطولاً زعمت خلاله أن مجموعة من القراصنة الصينيين، تُعرف باسم "باكدور دبلوماسي" (Backdoor Diplomacy)، قامت بسلسلة موسعة من الهجمات السيبرانية، منذ عام 2019، ضد عدد من المؤسسات والوزارات في نيروبي، بما في ذلك المكتب الرئاسي ووزارات الدفاع والخارجية والمالية، بالإضافة لوكالة المخابرات الكينية، وأن هدف هذه الهجمات هو الحصول على المعلومات المتعلقة بالديون المستحقة لبكين على نيروبي، بالتزامن مع ضغوط متزايدة باتت تعاني منها الأخيرة بسبب أعباء الديون.
2- رفض صيني للاتهامات: نفت الخارجية الصينية علمها بأي اختراق من قبل عناصر صينية ضد مؤسسات الحكومة الكينية، فيما استنكرت سفارة بكين لدى نيروبي هذه الاتهامات، معتبرة أن بكين تكافح كافة أشكال الهجمات الإلكترونية، وأن هذه الاتهامات الغربية تستهدف بالأساس إثارة الخلافات في علاقة الصين بدول القارة الإفريقية.
3- نفي وجود اختراق: يلاحظ أن موقف الحكومة الكينية جاء متضارباً، غير أنه أكد في النهاية نقطتين أساسيتين، وهما أن الصين لم تنجح في اختراق مؤسساتها، وكذلك رفض الإساءة للعلاقات الصينية الكينية. فقد أكد المكتب الرئاسي الكيني أن "الادعاءات بشأن محاولات اختراق من قبل كيانات حكومية صينية ليست فريدة من نوعها"، مضيفاً أن الحكومة استهدفت بـ"محاولات اختراق متكررة" من قراصنة صينيين وأمريكيين وأوروبيين، مضيفاً أن أياً من هذه المحاولات لم تنجح، وهو ما يعني أن الصين ليست وحدها هي المتورط في مثل هذه العمليات.
من ناحية أخرى، نفى السكرتير الرئيسي للأمن الداخلي والإدارة الوطنية الكينية، ريموند أومولو، ما ورد في تقرير "رويترز"، لافتاً إلى أن التقرير لم يُقدم أي دلائل موثوقة تدعم مزاعمه بشأن تعرض الحكومة الكينية لعملية قرصنة صينية، ومعتبراً أن هذا التقرير يشكل إحدى صور الدعاية الغربية التي تستهدف إضعاف النفوذ الصيني في إفريقيا، وهو ما يتفق مع التقييمات الرسمية الصينية. وفي المقابل، تمسكت "رويترز" بصحة تقريرها حول الهجمات السيبرانية الصينية ضد نيروبي.
تنافس دولي حاد:
يعكس الهجوم الإلكتروني الصيني المزعوم ضد الحكومة الكينية أحد ملامح التنافس الدولي الحاد في منطقة القرن الإفريقي. وفي هذا الإطار يمكن عرض ملامح التنافس الدولي في كينيا على النحو التالي:
1- تعزيز التقارب مع الغرب: انتهجت كينيا خلال إدارتي الرئيسين السابقين، مواي كيباكي، وأوهورو كينياتا، سياسة "التوجه شرقاً"، من خلال الانفتاح أكثر على الصين، مع الاحتفاظ بالعلاقات الاستراتيجية التي تربط نيروبي بواشنطن. ومع وصول إدارة الرئيس الكيني الحالي، ويليام روتو، للسلطة، في سبتمبر 2022، رأت بعض التقارير أن هذه الإدارة ستنتهج استراتيجية جديدة تعتمد على "التوجه غرباً"، واستندت في ذلك إلى تصريحات روتو، المتكررة بشأن مساعيه لتعزيز التقارب مع الولايات المتحدة والغرب، خاصةً وأن واشنطن تُعد أكبر سوق للمنتجات الكينية، فضلاً عن لقاءات روتو، المكثفة مع المسؤولين الأمريكيين، مقابل لقاءاته المحدودة للغاية بالمسؤولين الصينيين، بالإضافة لحديثه عن رغبة إدارته في الكشف عن الاتفاقات الحكومية السرية الموقعة مع بكين، وإنهاء طفرة القروض الصينية، وترحيل العمال الصينيين الذين يمكن للكينيين القيام بوظائفهم.
وثمة اهتمام كيني أيضاً بتعزيز التقارب والشراكة الاقتصادية مع الدول الأوروبية، وهو ما انعكس في منتدى الأعمال الأول بين الاتحاد الأوروبي وكينيا، في فبراير 2023، بالعاصمة نيروبي، والذي شهد التوقيع على حزمة تمويلية لتعزيز الصادرات الكينية إلى الأسواق الأوروبية، فضلاً عن التمهيد لتوقيع شراكة اقتصادية بين بروكسل والكتلة الإقليمية لمجموعة دول شرق إفريقيا. كما زار روتو، ألمانيا وبلجيكا، في مارس 2023، بغية التوصل إلى صفقات تجارية جديدة مع الدولتين، وزيادة حجم استثماراتهما في كينيا.
2- مصالح استراتيجية للصين: تُشكل كينيا أهمية خاصةً للصين، ولاسيما فيما يتعلق بمبادرة "الحزام والطريق"، وهو ما انعكس في حجم القروض التي حصلت عليها نيروبي من بكين، والتي بلغت 9 مليارات دولار، من إجمالي 160 مليار دولار قدمتها الصين للدول الإفريقية خلال الفترة من عام 2000 وحتى 2020، حتى إن الصين باتت أكبر دائن لكينيا على المستوى الثنائي، حيث شاركت في تمويل عدد كبير من مشروعات البنية التحتية في نيروبي، مثل "طريق نيروبي السريع"، وخط السكة الحديدية الذي يربط ميناء "مومباسا" بالعاصمة نيروبي.
وعلى الرغم من تحركات روتو، لتعزيز التقارب مع الولايات المتحدة والغرب، إلا أن كينيا تسعى كذلك للحفاظ على شراكاتها الاقتصادية والتجارية مع الصين، وهو ما انعكس في استئناف نيروبي لمباحثاتها مع بكين، في مايو الماضي، بشأن عملية تمديد خط السكة الحديد السابق ليصل إلى الحدود الأوغندية. وعكست التصريحات الكينية الرسمية المُشككة في صحة تقرير "رويترز" الأخير، مؤشراً مهماً بشأن حرص نيروبي على الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية مع بكين.
3- تنامي التقارب الروسي الكيني: أجرى وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، زيارة إلى نيروبي، في 30 مايو 2023، عقد خلالها اجتماعات موسعة مع المسؤولين هناك، بما في ذلك الرئيس الكيني، ويليام روتو. وجاءت الزيارة قبيل القمة الروسية الإفريقية المرتقبة في سان بطرسبرغ، في يوليو المقبل، والتي يتوقع أن يحضرها روتو.
وأعلنت موسكو، في إبريل 2023، اعتزامها إرسال 200 ألف طن من الأسمدة لنيروبي، فضلاً عن إرسال تبرعات من الزيت المقوى، بقيمة بلغت مليون دولار، لدعم كينيا في مواجهة تحديات الغذاء التي تعاني منها. كما اتفق الجانبان على توقيع اتفاقية تجارية مشتركة قبل نهاية 2023، في مؤشر مهم على انفتاح كينيا على مختلف القوى الدولية، وهو ما انعكس بشكل واضح في طبيعة الاستقبال الحافل للوزير الروسي.
4- اهتمام ياباني متزايد بنيروبي: تسعى طوكيو إلى تدعيم شراكاتها الاقتصادية والتجارية مع نيروبي، في إطار مساعيها لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في إفريقيا، ومنطقة القرن الإفريقي بشكل خاص.
وتنظر طوكيو إلى نيروبي باعتبارها فاعلاً رئيسياً في استراتيجيتها الخاصة بـ"منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة"، وهو ما انعكس في زيارة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، إلى نيروبي، مطلع مايو 2023، في إطار جولته الإفريقية، حيث تم الاتفاق على تسريع بناء منطقة "دونغو كوندو" الاقتصادية الخاصة بمدينة مومباسا الساحلية في كينيا، بالإضافة إلى زيادة حجم الاستثمارات اليابانية في مجال الطاقة المتجددة بنيروبي، وهو ما يكشف عن استعداد كينيا للانفتاح على اليابان لتقليل اعتمادها على الصين.
انعكاسات محتملة:
في إطار الاهتمام الدولي المتزايد بتعزيز التعاون مع كينيا، هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي ربما تتمخض عن الحراك الدولي الراهن، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- موازنة كينيا لعلاقتها الخارجية: تسعى كينيا لتحقيق التوازن الجيوسياسي في علاقتها بالقوى الدولية المختلفة، بما يُعظم من مكتسباتها ونفوذها. ولعل هذا ما انعكس في تصريحات وزير الخارجية الكيني، ألفريد موتوا، الذي ألمح إلى أن بلاده تستهدف تعزيز الشراكة مع الشرق والغرب في المجالات ذات الاهتمام المشترك، لافتاً إلى أن نيروبي تعمل على توسيع علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مع الاحتفاظ بشراكتها مع قوى الشرق، بما في ذلك الصين.
ومن جهة أخرى، يتطلع الرئيس الكيني، ويليام روتو، لتقليل اعتماد بلاده على الدولار الأمريكي في المعاملات التجارية بين الدول الإفريقية، فقد حث روتو، الدول الإفريقية على ضرورة معالجة المدفوعات من خلال المنصة التي تم تطويرها عبر بنك "التصدير والاستيراد الإفريقي" للتعامل بالعملات المحلية في التجارة البينية للدول الإفريقية، باعتبار أن ذلك قد يحد من أزمة توفير الإمدادات الدولارية التي تعاني منها كثير من الدول الإفريقية.
وعلى المنوال ذاته، رغم أن كينيا كانت من أوائل الدول التي عارضت التدخل الروسي في أوكرانيا، في فبراير 2022، لكنها سرعان ما تماهت مع الموقف السياسي للاتحاد الإفريقي القائم على الحياد والدعوة للحوار بين طرفي الصراع.
2- زيادة التنافس الدولي على نيروبي: أظهرت بيانات وزارة الخزانة الكينية تراجعاً في حجم القروض الصينية المقدمة لنيروبي في الميزانية الجديدة، التي تُعد أول ميزانية كاملة للرئيس الحالي ويليام روتو، حيث تراجع التمويل الصيني لموازنة السنة المالية المقبلة إلى 12.7 مليون دولار، مقارنة بنحو 216 مليون دولار في السنة المالية الحالية، في المقابل رصدت بعض التقارير الغربية أن تراجع حجم القروض الصينية، جاء متزامناً مع زيادة حجم القروض الثنائية الأوروبية، خاصةً من ألمانيا وفرنسا، ما رأته هذه التقارير مؤشراً مهماً على زيادة حدة التنافس الدولي للحصول على صفقات جديدة في كينيا.
3- تفاقم أزمة الديون الكينية: على الرغم من ارتفاع حجم الاقتراض الكيني من الصين بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، ولاسيما في ظل الإدارة السابقة للرئيس أوهورو كينياتا، فإن القروض الصينية وإن مثلت حوالي 64% من الدين الخارجي الثنائي لكينيا، فإنها تُمثل فقط 17% من إجمالي ديون نيروبي الخارجية، حيث يُعد البنك الدولي أكبر دائن خارجي لكينيا، حيث اتجهت الأخيرة خلال العقد الماضي إلى مجموعة من القروض المجمعة ذات التكلفة الباهظة، ما تمخض عنه ارتفاع خدمة الدين، خاصةً مع ضعف قيمة الشلن الكيني.
وعلى الرغم من تحركات روتو، لمحاولة معالجة ضغط الديون، مع إلغاء الدعم الحكومي للغذاء والوقود، بيد أن إشكالية الديون الخانقة يتوقع أن تستمر في المدى المنظور، وربما تعمد نيروبي إلى محاولة الاستفادة من قمة باريس المقبلة بشأن قضية التمويل، في يونيو 2023، لإيجاد استجابة أكثر منهجية لأزمة ديونها.
وفي الختام، يسعى الرئيس روتو، إلى تبني سياسة خارجية متوازنة، وتجنب الاصطفاف مع أي من الكتلتين المتنافستين، الشرقية والغربية، الأمر الذي يجعله في النهاية غير محسوب على أي منهما، وذلك من خلال تنويع شراكاته الخارجية، وتقديم نيروبي باعتبارها بوابة العالم للقارة الإفريقية، ومحاولة توظيف ذلك لتعزيز مركزها التفاوضي إذا ما سعت للدخول في مفاوضات مع الدائنين لإعادة هيكلة ديونها، أو استقطاب استثمارات جديدة.