قالت وزارة الدفاع الروسية، في 30 مايو 2023، إن ثماني طائرات مسيرة على الأقل هاجمت موسكو، وتسببت في أضرار طفيفة. وأضافت الوزارة: "عُطلت ثلاث منها بواسطة الأجهزة الإلكترونية وفقدت السيطرة وانحرفت عن أهدافها المقصودة. وأسقطت أنظمة صواريخ بانتسير–أس أرض جو خمس طائرات مسيرة في منطقة موسكو".
أبعاد الهجوم الأوكراني:
تمثلت أبعاد الهجوم الأوكراني على العاصمة الروسية، موسكو، في التالي:
1- استهداف موسكو للمرة الثانية: قال عمدة موسكو، سيرجي سوبيانين، إنه لم يصب أحد بجروح خطرة، نتيجة لسقوط عدة طائرات مسيرة على ضاحية غربية خاصة يعيش فيها كبار المسؤولين الروس، وفقاً له. وفي المقابل، رجحت وسائل إعلامية روسية أن يكون هدف المسيرات ضرب طريق يسلكها عادة الرئيس الروسي خلال تنقله من مقر إقامته خارج موسكو إلى الكرملين.
وعلى الرغم من التقارير الإعلامية السابقة، فإن الكرملين لم يتبن هذه الرواية، فقد اكتفى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باتهام أوكرانيا بمحاولة ترويع المدنيين الروس من خلال شن الهجمات الأخيرة بالطائرات المسيرة على موسكو.
ويلاحظ أن الهجوم الأخير هو الثاني بعد هجوم آخر فاشل حاول استهداف مبنى الكرملين، في 3 مايو 2023، وعدته موسكو بشكل رسمي، محاولة أوكرانية فاشلة لتصفية بوتين. ويلاحظ أنه تم اعتراض الطائرات المسيرة المهاجمة في كلا الحالتين، ولم تحدث سوى أضرار محدودة.
2- اعتراف كييف ضمنياً: علّق مستشار الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودولاك، على هجوم موسكو قائلاً إن كييف لم تكن ضالعة بشكل مباشر، لكن أوكرانيا استمتعت بمشاهدة الأحداث، وهي تتكشف وتوقعت زيادة في مثل هذه الحوادث. ويلاحظ أن كييف دأبت في الآونة الأخيرة على التبرؤ من هجماتها ضد روسيا، بشكل رسمي، في حين أن المسؤولين الأوكران يلمحون بمسؤولية بلادهم عن هذه الهجمات، كما في تصريحات بودولاك الأخيرة.
3- الرد على الهجمات الروسية: لم تعلن أوكرانيا بشكل علني دوافعها من الهجوم على موسكو، غير أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكد في تصريحاته، في 30 مايو 2023، أن الهجوم على العاصمة الروسية جاء رداً على تدمير القوات الروسية مقر الاستخبارات الأوكرانية قبل يومين، أو ثلاثة، وعجز كييف عن ضرب الأهداف العسكرية الروسية، وذلك لجأت إلى استهداف المدنيين.
ومن جهة أخرى، يبدو أن كييف تسعى من استهداف موسكو إلى الرد على الضربات العسكرية المتتالية التي تتعرض لها كييف، وذلك على الرغم من نشر نظم دفاع جوية أمريكية وغربية لتأمين العاصمة الأوكرانية من الضربات الروسية، غير أنه من الواضح أن تتالي هذه الضربات، وارتفاع وتيرتها، يكشف عن سعي موسكو لتدمير هذه المنظومات.
فقد أكد وزير الدفاع الروسي في مؤتمر يوم 30 مايو 2023، أن القوات الروسية قصفت خلال الأيام الأخيرة، المنظومة الصاروخية الأمريكية للدفاع الجوي "باتريوت" في كييف، وذلك بعد إعلان الجيش الروسي عن تدمير منظومة مماثلة قبل أسبوعين. ووفقاً لـ"الفايننشال تايمز"، نشرت الولايات المتحدة حوالي منظومتين من نظم الدفاع الجوي "باتريوت" في أوكرانيا، أي أنه إذا صحت التصريحات الرسمية الروسية، فإن الجيش الروسي يكون بذلك دمر المنظومتين، وهو ما يعني أن الجيش الروسي يسعى لتأكيد سيادته الجوية فوق أوكرانيا، سواءً لضمان قدرته على استهداف مراكز صنع القرار الأوكرانية متى توفرت له معلومات حول أماكن وجودها، أو للتأكيد لأوكرانيا أن الدعم الغربي العسكري المتواصل لها لن يساعدها في تأمين نفسها من الهجمات الروسية المتواصلة.
4- نجاح الدفاعات الجوية الروسية: أعلنت وزارة الدفاع الروسية نجاحها في تدمير منظومتي الدفاع الجوي من طراز "باتريوت"، وذلك لتأكيد قدرتها على مواصلة الهيمنة على الأجواء الأوكرانية، وربما ذلك الأمر هو الذي دفع واشنطن إلى تغيير موقفها، والموافقة على إمداد أوكرانيا بطائرات "أف-16"، والتي يمكن توظيفها في عمليات دفاعية.
وفي المقابل، تمكنت روسيا من اعتراض كافة الطائرات المسيرة الأوكرانية، التي استهدفت موسكو، وذلك على الرغم من أن مثل هذه المنظومات تفرض تحديات كبيرة على استهدافها، وبالتالي، فإن روسيا أرادت ضمناً تأكيد نجاحها في تأمين مواقعها الحيوية من الضربات الأوكرانية.
دلالات الهجمات الأخيرة:
يبدو من الواضح أن الحرب الأوكرانية ستشهد جولة جديدة من التصعيد العسكري، خاصة في ظل الدعم الغربي المتواصل لكييف، واستعداد أوكرانيا للهجوم المضاد، فضلاً عن إعلان روسيا استعدادها للسيطرة على باقي إقليم دونيتسك، ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:
1- مواصلة واشنطن دعمها رغم التنصل: صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، في 30 مايو 2023، رداً على الهجمات الأوكرانية ضد مواقع مدنية في روسيا قائلاً: "إن الولايات المتحدة بشكل عام لا تؤيد تنفيذ هجمات داخل روسيا"، وموضحاً أن هدف واشنطن هو التركيز "على تزويد أوكرانيا بالمعدات والتدريب الذي تحتاجه لاستعادة السيادة على أراضيها".
وجاء التنصل الأمريكي من الهجوم رداً على اتهام الكرملين للغرب بالوقوف وراء الهجوم. ودأبت موسكو في الآونة الأخيرة على تأكيد أن الهجمات التي تشنها أوكرانيا ضد مواقع داخل روسيا، تتم بتخطيط من جانب مخططين عسكريين من حلف "الناتو". ويلاحظ أن هذه الاتهامات تعد مؤشراً على نفاد صبر موسكو من الضربات المتتالية الأوكرانية، وتلميحاً إلى أن موسكو قد تتجه للرد على الدول الداعمة لأوكرانيا، المتورطة في دعم هذه الهجمات، وإن بشكل غير مباشر.
ومع ذلك، فإن واشنطن تبدو ماضية في دعمها لأوكرانيا عسكرياً، وذلك ليس فقط عبر إعطاء ضوء أخضر لحلفائها لإمداد الجيش الأوكراني بمقاتلات "أف–16"، ولكن كذلك عبر دعم الهجوم المضاد الأوكراني المرتقب، فقد كشف السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، في 30 مايو 2023، عن أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ومساعديه قدموا له "تحليلاً مفصلاً" لخطط أوكرانيا العسكرية للهجوم المضاد ضد روسيا، مضيفاً أن الأيام المقبلة "ستشهد عرضاً رائعاً إلى حد ما لقوة الأوكران".
2- هجوم روسي قادم: أعلن رئيس جمهورية الشيشان الروسية رمضان قديروف، في 30 مايو، أن قوات "أحمد" الخاصة أعادت انتشارها وتستعد لبدء هجوم وتنفيذ أعمال عسكرية وتحرير البلدات في اتجاه جمهورية دونيتسك.
وسبق وأن أشارت التحليلات العسكرية إلى أن سقوط باخموت بأيدي روسيا سوف يفتح الطريق أمام الجيش الروسي للتقدم نحو مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك، وهما من المدن الرئيسية في إقليم دونيتسك، وبذلك تستكمل أوكرانيا سيطرتها على كامل الإقليم، وهو أحد الأقاليم الأوكرانية الأربعة التي أعلنت موسكو ضمها لها، وبالتالي تأكيد قدرتها على مواصلة تحقيق أهدافها العسكرية من الحرب.
ومن جهة أخرى، أوضح قديروف، أن وحدات "أحمد" الأخرى التابعة لوزارة الدفاع والحرس الروسي، الواقعة على أقسام بديلة من خط التماس بين منطقتي زاباروجيا وخيرسون، تلقت الأوامر نفسها لبدء الهجوم، وهو ما يعني أن الجيش الروسي يستعد لتصعيد المواجهة مع الجيش الأوكراني على طول خط المواجهة الممتد من دونيتسك إلى زاباروجيا وخيرسون، وهو ما قد تستهدف روسيا من خلاله استباق الهجوم الأوكراني المضاد، أو تشتيت الدفاعات الأوكرانية، ومنعها من إرسال قوات إضافية من جبهتي زاباروجيا وخيرسون إلى إقليم دونيتسك للدفاع عنه.
3- ضغوط متزايدة على أوكرانيا: تبدو أوكرانيا في حاجة بعد خسارتها مدينة باخموت الاستراتيجية إلى تأكيد أنها قادرة على شن هجوم مضاد، واستعادة مزيد من الأراضي من السيطرة الروسية، وذلك لدفع الدول الغربية لمواصلة دعمها، وتبرير النفقات الضخمة التي تتكبدها هذه الدول في سبيل دعمها لأوكرانيا، اقتصادياً وعسكرياً.
فقد كشف استطلاع للرأي نشرته كلية هاريس للسياسة العامة بجامعة شيكاغو، ومركز نورك التابع للجامعة، تراجع الدعم الشعبي الأمريكي لتسليح أوكرانيا، من حوالي 61% في إبريل 2022، إلى حوالي 50% في إبريل 2023، وكذلك تراجع الدعم لفرض عقوبات ضد روسيا، وذلك على الرغم من أن الأغلبية العظمى من الشعب الأمريكي (حوالي 70%) لا تزال ترى أن غزو روسيا غير مبرر، وهو ما يعكس أن نصف الشعب الأمريكي تقريباً بات رافضاً لتوجيه جانب من أموال الضرائب الأمريكية إلى دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.
ولا شك أن أي انتكاسة أوكرانية جديدة سوف تقوي هذه التوجهات، وتزيد من أصوات القوى المنادية بالتوصل لتسوية سلمية للصراع الأوكراني، سواءً داخل الولايات المتحدة، أو من جانب بعض الدول الأوروبية. وسوف تعني أي تسوية سلمية في ظل موازين القوة العسكرية الحالية أن تتنازل أوكرانيا عن جانب من أراضيها لصالح روسيا، وهو أمر سوف يكون شديد الصعوبة على النخبة الحاكمة في أوكرانيا، لجهة تأثيره في شعبيتها في الشارع الأوكراني.
4- تصعيد أوكراني لافت: نفذت أوكرانيا سلسلة من الهجمات بطائرات مسيرة على مرافق لأنابيب النفط داخل روسيا يوم 27 مايو 2023، بما في ذلك محطة ترانسنفت في منطقة بيسكوف، والتي تخدم خط أنابيب النفط الضخم "دروجبا"، الذي ينقل النفط الخام من سيبيريا إلى أوروبا، فضلاً عن استهداف خطوط الكهرباء في منطقة بيلغورود الروسية المحاذية لأوكرانيا، وهو ما أدى إلى اندلاع حريق في شركتين كبيرتين.
وفي 31 مايو 2023، أعلن حاكم إقليم كراسنودار الروسي حدوث حريق بسبب هجوم بمسيرة أوكرانية على مصفاة أفيبسك لتكرير النفط قرب عاصمة الإقليم، ويبدو من الواضح من هذه الهجمات أن كييف تقوم، بمساعدة الدول الغربية، بدراسة الثغرات في مواقع انتشار نظم الدفاع الجوي الروسية، وذلك لاستهداف مرافق البنية التحتية الروسية. ويضاف إلى الهجمات على البنية التحتية، تنفيذ أوكرانيا توغل فاشل داخل الأراضي الروسية في منطقة بيلغورود يوم 23 مايو 2023.
ويبدو أن هذه العمليات، وإن أخفقت في تحقيق أهدافها، في أغلبها، فإن أوكرانيا تستهدف بها تشتيت القدرات الدفاعية الروسية، خاصة قبيل الهجوم الأوكراني المرتقب، ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج مواصلة أوكرانيا تنفيذ هذه الهجمات على الرغم من تكلفتها الباهظة، إذ تلجأ روسيا للرد عليها عبر تنفيذ سلسلة هجمات قوية ضد العاصمة الأوكرانية كييف، وغيرها من المناطق الأوكرانية.
وفي الختام، يبدو من الواضح من التصعيد الأوكراني ضد روسيا بالطائرات المسيرة أن كييف تسعى إلى تشتيت الدفاعات الروسية، ومحاولة استهداف البنية التحتية الحيوية، وهو ما قد يكون مؤشراً على قرب الهجوم الأوكراني المضاد، والذي تستهدف من خلاله كييف استعادة أراضيها المحتلة من روسيا، غير أنه في المقابل، تتجه روسيا هي الأخرى لتوسيع هجومها على طول الجبهة الأوكرانية، خاصة دونيتسك، وذلك للسيطرة على كامل أراضيها، خاصة بعدما تمكنت من الاستيلاء على مدينة باخموت الاستراتيجية، وهو ما يرجح أن تشهد الفترة المقبلة تصعيداً كبيراً للصراع بين الجانبين.