أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية، في تغريدة على "تويتر" يوم 26 مايو 2023، أن كييف بحاجة إلى 48 مقاتلة أمريكية من طراز "أف–16" للعودة إلى ما سمته بـ"حدود عام 1991"، أي ما قبل عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وكان الرئيس الأمريكي، جون بايدن، قد وافق خلال لقائه بالرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على هامش قمة مجموعة السبع في هيروشيما، على تدريب الطيارين الأوكران على قيادة مقاتلات "أف–16". وأكدت الدنمارك وهولندا عزمهما على أن تكونا في طليعة أولئك الذين يدربون الطيارين الأوكران على المقاتلة الأمريكية.
أهداف الخطوة الأمريكية:
يلاحظ أن الدعم الأمريكي لأوكرانيا بمقاتلات "أف–16" يستهدف تحقيق عدد من الأهداف، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تعويض أوكرانيا عن أسطولها الجوي: يلاحظ أنه مع استمرار المعارك مع روسيا، فإن أسلحة الجيش الأوكراني ذات التسليح السوفيتي تنفد، وهو ما يدفع الدول الغربية الداعمة له إلى إمداده بنظم أسلحة غربية لتعويض نقص الأسلحة السوفيتية، والتي تنتجها روسيا الآن.
وفي هذا الإطار، أمدت الدول الغربية أوكرانيا بالدبابة الألمانية "ليوبارد 2"، والأمريكية "أم 1 أبرامز"، والبريطانية "تشالنجر"، وذلك لتعويض الجيش الأوكراني عن الدبابات روسية الصنع من طراز "تي 72"، فضلاً عن مئتي دبابة أخرى من نفس الطراز حصل عليها من دول بولندا وجمهورية التشيك وعدد صغير من البلدان الأخرى، وذلك بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا، في فبراير 2022، غير أن دمار أو تعطل أغلبها دفع الدول الغربية إلى إمداد أوكرانيا بدبابات بديلة، خاصة "ليوبارد الألمانية"، والتي يمتلكها عدد كبير من الدول الأوروبية.
وبالمثل، فإن الدول الغربية أمدت كييف بنظم دفاع جوي من طراز "باتريوت"، وذلك لتعويضها عن نظام دفاعها الجوي الروسي من طراز "أس 300"، والذي تمكن الجيش الروسي من استهداف أغلبه، فضلاً عن نفاد الذخيرة الخاصة بها. ولذلك، فإن إمداد أوكرانيا بطائرات "أف–16" إنما يهدف إلى تمكين أوكرانيا من شن هجمات خاطفة ضد روسيا، غير أن مثل هذا السلاح الجديد لن يساعد في تغيير موازين القوى الحالية بالضرورة.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى استمرار موسكو في توجيه ضربات عسكرية مكثفة إلى كييف، وذلك على الرغم من نشرها نُظم الدفاع الجوي الأمريكية من طراز "باتريوت"، فقد كان من اللافت أن أوكرانيا شنّت حوالي 14 هجوماً مكثفاً ضد أوكرانيا، خلال شهر مايو، وذلك حتى يوم 29 مايو، والتي ركزت خلالها روسيا على استهداف منشآت عسكرية وبنى تحتية حيوية، فضلاً عن استهداف بعض منظومات الدفاع الأمريكية من طراز "باتريوت"، كما في هجومي 17 و29 مايو.
2- التغطية على خسارة باخموت: خسرت أوكرانيا مدينة باخموت الاستراتيجية، وذلك على الرغم من أنها استماتت في الدفاع عن المدينة، وتكبدت خسائر وصلت إلى آلاف المقاتلين، وفقاً للصحف الأمريكية. وعلى الرغم من إعلان موسكو سيطرتها على المدينة في 21 مايو، فإن الجيش الأوكراني رفض الاعتراف بسقوطها، وربما يرجع ذلك إلى أن الاعتراف بسقوط المدينة سيُعد مؤشراً محتملاً عن عجز أوكرانيا عن تنفيذ هجوم ناجح ضد روسيا، حتى في ظل الدعم الغربي. ويلاحظ أن إعلان سقوط باخموت تزامن مع لقاء زيلينسكي ببايدن، وموافقة الأخير على تدريب الطيارين الأوكران على المقاتلة "أف–16"، وهو ما قد يكون مؤشراً على رغبة واشنطن في دعم أوكرانيا معنوياً في مواجهة هذه الخسارة الاستراتيجية.
3- دعم تنفيذ الهجوم المضاد: تسعى أوكرانيا إلى شن هجوم مضاد ضد الجيش الروسي لاستعادة أراضيها المحتلة، غير أن أوكرانيا تشتكي من نقص الأسلحة والذخيرة الغربية التي تؤهلها لتنفيذ مثل هذا الهجوم، وهو المبرر الذي ساقته لتبرير تأخر هجومها المضاد ضد الجيش الروسي، وإعلان مواعيد متضاربة حيال الأمر.
وعلى الرغم من أن مثل هذه التصريحات المتضاربة حول الهجوم المضاد قد يكون الهدف منها إخفاء موعد الهجوم، غير أن الانتكاسة العسكرية التي منيت بها أوكرانيا بخسارتها لمدينة باخموت، تكشف عن أن القوات الأوكرانية لا تزال تواجه تحديات هائلة أمام تنفيذ مثل هذا الهجوم.
وعلى الجانب الآخر، فإن تأخر أوكرانيا في تنفيذ الهجوم المضاد ربما يرجع إلى انتظارها للحصول على مزيد من الأسلحة المتقدمة، خاصة وأن تقييمات الجيش الروسي ترى أن القوات الأوكرانية المدربة في الدول الغربية، والتي سوف يتم الاعتماد عليها في تنفيذ الهجوم المضاد، لم يتم نشرها بعد على خطوط التماس مع القوات الروسية بعد.
دلالات الدعم الأمريكي:
يلاحظ أن دعم واشنطن لأوكرانيا عبر إعطاء الضوء الأخضر لدول أوروبية بتدريب الطيارين الأوكران على المقاتلة "أف-16"، في خطوة تهدف في النهاية إلى إمداد أوكرانيا بها، يحمل عدداً من الدلالات، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- دعم معنوي مهم: نشرت وكالة بلومبيرغ الأمريكية تقريراً أشارت فيه إلى أن المقاتلة الأمريكية من طراز "أف–16" لن تستطيع مواجهة أحدث المعدات العسكرية الروسية، وفقاً لجون فينابل، الطيار السابق للمقاتلة في الجيش الأمريكي، إذ أشار إلى أن المقاتلة لن تتمكن من تدمير مدفعية العدو، أو دفاعاته الجوية، أو مقاتلاته، لأنها سوف يتم رصدها بسهولة من قبل رادارات الجيش الروسي، خاصة وأن نظم الدفاع الجوي "أس 400" مصممة لإسقاط مقاتلات الجيل الرابع، مثل المقاتلة "أف-16". ولذلك، فإن الفائدة الأساسية للمقاتلة هي في تنفيذ عمليات دفاعية بحتة، أو القيام بهجمات انتحارية، أي القيام بتوجيه ضربات ضد الجيش الروسي في مهمة هجومية واحدة، يترتب عليها في الغالب إسقاط المقاتلة.
ومن جهة أخرى، فإن هذه المقاتلة لن تكون مفيدة في دعم الهجوم الأوكراني المضاد، خاصة وأن المعارك في جنوب وشرق أوكرانيا سوف تتم في سهول منبسطة، وبالتالي، فإن المقاتلة لن تستفيد من التخفي عبر التحليق خلف الجبال ثم الارتقاء فوقها لتنفيذ ضربات، ثم الاحتماء خلفها مجدداً من الهجمات المضادة المتوقعة.
وشكك طيار أمريكي سابق للمقاتلة، وهو دان هامبتون، في فائدة المقاتلة الأمريكية، حتى في اعتراض الصواريخ المجنحة الروسية، نظراً لأن هناك هامشاً زمنياً محدوداً بين اكتشاف الرادار للصاروخ المجنح، واعتراضه. ولكن الهدف الأكبر، وفقاً له، هو تأكيد التزام حلف "الناتو" بدعم أوكرانيا عسكرياً على المدى الطويل.
2- تقييمات مماثلة متحفظة للبنتاغون: أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، مارك ميلي، أن "10 طائرات أف-16 تكلف مليار دولار"، أي أن 48 طائرة من هذا النوع قد تكلف 5 مليارات، ولا تبدو وزارة الدفاع الأمريكية مستعدة لدفع تلك التكلفة، إذ أكد ميلي أنه "إذا تم إرسال الطائرات الآن، فسيكون ذلك على حساب تمويل القدرات الأخرى التي جعلت أوكرانيا تتقدم، في إشارة إلى أنظمة الدفاع الصاروخية المتطورة". كما شدد على أن تلك المقاتلات المتطورة لن تكون سلاحاً سرياً يقلب الموازين، كما تُصوره أوكرانيا.
3- تورط أمريكي أكبر في الصراع: اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بتعرض منظومة للدفاع الجوي "باتريوت" للتلف في كييف يوم 17 مايو 2023، نتيجة لتعرضها لهجوم روسي. وكانت روسيا أعلنت تدمير خمس منصات إطلاق "باتريوت" بصاروخ "كينجال" فرط الصوتي، وهو ما نفته أوكرانيا.
وأعلن بعض المحللين وكذلك مواقع عسكرية أمريكية أنه من المحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد فقدت بعضاً من مواطنيها في هذا الهجوم، وذلك على أساس أن المنظومة تم نشرها بسرعة، وذلك قبل أن تتمكن القوات الأوكرانية من التدرب على استخدامها وصيانتها، وهو ما يعني أنه تم إرسال متعاقدين لتشغيلها، سواءً من الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى، وهو ما يعني أن الانخراط الأمريكي في الصراع يزداد. وفي حالة قررت واشنطن نشر مقاتلات "أف–16" في أوكرانيا بسرعة، فإن هذا الأمر سوف يعني قيادة طيارين غربيين غير أوكران لها، وهو ما يعني أن الحرب تدريجياً تتحول من حرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى حرب بين روسيا من جهة والقوات الأوكرانية والغربية من جهة أخرى.
4- تصعيد الصراع مع روسيا: حذر وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في 28 مايو، من أن الغرب "يلعب بالنار" بعدما أعربت واشنطن أخيراً عن استعدادها للسماح لدول أخرى بتزويد كييف بمقاتلات "أف-16" التي تطالب بها، مندداً بهذا الأمر باعتباره "تصعيداً غير مقبول". وقال لافروف: "إنه لعب بالنار. لا شكّ في ذلك".
وحذر دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، في معرض تعقيبه على نفس الموضوع قائلاً: "إنه كلما كانت الأسلحة الموردة لكييف أكثر تدميراً.. كان سيناريو نهاية العالم النووي أكثر احتمالاً، في رسالة تحذير بإمكانية استخدام روسيا للسلاح النووي". وتظل جدية هذا التهديد مقترنة بنجاح المقاتلة الأمريكية في إحداث تحول حاسم في المعارك، وهو أمر تبدو فرصه، وفقاً للتقييمات العسكرية الأمريكية السابقة، محدودة.
5- إطالة أمد المعركة: سبق وأن صرح ميلي أمام الكونغرس الأمريكي، في مطلع إبريل، مؤكداً أن أوكرانيا لن تستعيد كل أراضيها في المستقبل القريب، وهو ما يشير إلى أن الحرب الأوكرانية تحولت إلى حرب استنزاف طويلة. وعلى الجانب الآخر، فإن تقييم أجهزة الاستخبارات الأمريكية استبعد أن تتوصل روسيا إلى اتفاق سلام في عام 2023، أو أن تغير سلوكها الحالي، وهو ما يعني أن كلا الطرفين لا يزالان يعولان على الحسم العسكري، خاصة وأن روسيا لم تحقق بعد أهدافها من العملية العسكرية، والتي تتمثل في السيطرة الكاملة على أقاليم لوهانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون.
وفي الختام، يمكن القول إن إمداد أوكرانيا بالمقاتلة "أف-16" لن يغير موازين القوة العسكرية بشكل كبير، وفقاً للتقييمات الأمريكية نفسها، إذ أن هدفه الأساسي هو تعويض أوكرانيا عن سلاح الجو السوفيتي الذي دمر أغلبه في المعارك، فضلاً عن تأكيد استمرار حلف "الناتو" في تقديم الدعم لأوكرانيا على المدى الطويل.