على الرغم من استئناف محادثات جدة بين ممثلي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في 14 مايو 2023، فإن المشهد الميداني شهد تصاعداً حاداً في المواجهات خلال الأيام الأخيرة، وهو ما أعقبه جملة من القرارات التي أصدرها قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، في محاولة لفرض مزيد من الضغوط على قوات الدعم السريع، تضمنت تجميد الحسابات المصرفية للأخيرة، وإحالة عدد من قادة الجيش المنتدبين لدى الدعم السريع للتقاعد.
تصعيد ميداني لافت
تصاعدت وتيرة الاشتباكات بين قوات الجيش السوداني، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، بعد أيام قليلة من الإعلان عن توقيع ممثلي الطرفين على اتفاق "إعلان مبادئ" في جدة، والذي انبثق عن وساطة سعودية أمريكية بين طرفي الصراع، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- عودة الاشتباكات العنيفة: عادت الاشتباكات العنيفة مرة أخرى بين طرفي الصراع خلال الأيام الماضية، بعدما شهدت هدوءاً نسبياً، حيث قام الجيش السوداني بقصف جوي ومدفعي مكثف في الخرطوم وعدة مدن أخرى، فيما سيطرت قوات الدعم السريع على عدة ممتلكات مدنية. وتصاعدت حدة القتال في أعقاب توقيع طرفي الصراع على إعلان المبادئ في جدة، والذي بموجبه اتفق الطرفان على حماية المدنيين واستعادة الإمدادات الأساسية كالكهرباء والغذاء، لكنهما رفضا أي اتفاق على وقف إطلاق النار.
وتركزت المعارك العنيفة في الخرطوم وأم درمان وبحري، بالإضافة إلى مدينة الجنينة بإقليم غرب دارفور، حيث بلغ عدد القتلى في هذه المدينة أكثر من 100 قتيل خلال يومي 12 و13 مايو الجاري فقط، حيث تحول الصراع في هذه المدينة إلى مواجهات حادة بين القبائل هناك.
2- إخراج "الدعم" من الخرطوم: شنّت قوات الجيش السوداني، في 16 مايو 2023، هجمات عنيفة في منطقتي "أركويت" و"المعمورة" بشرق الخرطوم، ومنطقة جبرة في جنوب العاصمة، في مؤشر على محاولة الجيش السوداني إخراج قوات الدعم السريع من العاصمة السودانية، وقطع خطوط إمدادها اللوجستية، والعمل على تأمين مواقع استراتيجية لقوات الجيش داخل العاصمة، خاصة في المطار بوسط العاصمة ومصفاة "الجيلي" النفطية في بحري.
ورصدت تقارير إعلامية، غير مؤكدة، خروجاً جماعياً لقوات الدعم من تمركزاتها داخل الخرطوم، وهو ما استغلته قوات الجيش لاستهداف مقاتلي الدعم واعتقال آخرين.
3- تحركات مضادة للدعم: أشارت وكالة "رويترز" أن قوات الدعم السريع تمكنت من أسر مئات الجنود من الجيش السوداني في بحري بالعاصمة السودانية، وهو الأمر الذي نفته قيادة الجيش، بيد أن احتماليته تبقى قائمة، في ظل التصعيد الراهن للاشتباكات والمواجهات العنيفة بين طرفي الصراع. وكان حميدتي أصدر تسجيلاً صوتياً نفى خلاله الأخبار التي انتشرت أخيراً وتفيد بمقتله، حيث أكد أنه لا يزال يقيم داخل الخرطوم، ملوحاً بأنه متمسك بتقديم البرهان للمحاكمة.
إقالات البرهان الجماعية
تزامن التصعيد الميداني الأخير مع جملة من القرارات التي أصدرها البرهان، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- تجميد حسابات الدعم السريع: أصدر البرهان، في 14 مايو الجاري، قراراً بتجميد الحسابات المصرفية لقوات الدعم السريع وكافة الشركات التابعة لها، ومنع صرف أي استحقاقات أو ميزانيات لهذه القوات. كما قرر البرهان إعفاء محافظ البنك المركزي، حسين يحيى جنقول، من منصبه، وتعيين، برعي الصديق أحمد، خلفاً له، وذلك في مسعى من البرهان لإحكام الحصار المصرفي على قوات الدعم السريع، نظراً لأن جنقول يحتفظ بعلاقات وثيقة بحميدتي، وهو ما يكشف عن سعي البرهان للضغط المالي على قوات الدعم لدفع عناصرها إلى التخلي عن حميدتي بعدما باتت رواتب هذه القوات مهددة بسبب هذه القرارات.
2- إحالة قيادات بالجيش للتقاعد: أصدر البرهان أيضاً قراراً بإحالة أربعة من كبار ضباط الجيش السوداني المنتدبين لقوات الدعم السريع إلى التقاعد، وهم اللواء ركن، عثمان حامد، المسؤول عن العمليات الحربية بالدعم السريع، واللواء حسن محجوب الفاضل، مدير مكتب حميدتي، والعميد أبشر جبريل بلايل، قائد القوات المتنقلة التي أغلقت حدود السودان مع إفريقيا الوسطى، في يناير الماضي، بالإضافة إلى العميد عمر حمدان أحمد، الذي يترأس وفد قوات الدعم السريع في مفاوضات جدة.
وكان البرهان أصدر قراراً، في 16 إبريل الماضي، يقضي بإنهاء انتداب ضباط الجيش لدى قوات الدعم السريع وأمرهم بالعودة لصفوف الجيش، وذلك في أعقاب اندلاع الاشتباكات بين الطرفين، بيد أن الجنرالات الأربعة خالفوا هذا القرار وعمدوا إلى الاستمرار في العمل مع الدعم السريع. ويتسق ذلك مع تصريحات سابقة لحميدتي، أعلن خلالها تعرض قواته للخيانة من قبل 480 ضابطاً للجيش السوداني، تركوا عملهم مع قوات الدعم السريع في أعقاب الاشتباكات، ملوحاً إلى استمرار أربعة قيادات فقط من الجيش السوداني في عملهم مع الدعم السريع.
3- إقالة وزير الداخلية: أصدر البرهان قراراً آخر بإقالة وزير الداخلية بالوكالة، ومدير عام الشرطة، عنان حامد محمد عمر، وعين بدلاً منه خالد حسن محيي الدين، مديراً عام لقوات الشرطة، فيما تولى البرهان ذاته منصب وزير الداخلية بالإنابة، في مؤشر مهم على عدم ثقة قائد الجيش السوداني بولاءات القوات الشرطية، ومحاولته إحكام السيطرة عليها، ما يعني أن الفترة المقبلة ربما تشهد إقالات جديدة لقيادات شرطية.
4- إنهاء خدمة سفيرين من "الخارجية": تضمنت قرارات البرهان إقالة سفيرين بوازرة الخارجية السودانية، وهما عبد المنعم عثمان محمد أحمد البيتي، وحيدر بدوي صادق، وهو ما عزته تقديرات إلى موقفهما من الصراع الجاري، بالإضافة إلى اعتباره بمثابة تحذير للآخرين بأن اتخاذ أي موقف داعم لقوات الدعم السريع سيتم التعامل معه بحزم من قبل الجيش.
تحركات استباقية
تعكس قرارات البرهان الأخيرة في مجملها تحركات استباقية يستهدف من خلالها تعزيز موقفه في الصراع الجاري، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- التخلص من أنصار حميدتي: تستهدف قرارات البرهان التخلص من العناصر الداعمة لقائد الدعم السريع، حميدتي في كافة المؤسسات الحيوية، ولذلك يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من القرارات المماثلة من قبل البرهان، وذلك لإحكام السيطرة على قوات الشرطة وضمان دعمها للجيش، فضلاً عن التحكم في الخطاب الدبلوماسي الخارجي، خاصة وأن البرهان يعول كثيراً على وزارة الخارجية ومبعوثيها وسفرائها في أداء دور داعم لموقفه لدى القوى الإقليمية والدولية.
2- تعزيز شرعية البرهان: يستهدف البرهان من القرارات الأخيرة توصيل رسائل مباشرة للداخل السوداني والقوى الدولية والإقليمية مفادها أنه لا يزال يشكل القوة الشرعية الوحيدة في البلاد، وأنه متحكم بشكل كامل في الموارد الاقتصادية وكافة أجهزة الدولة السياسية والعسكرية، وإن كان من الملاحظ أن تأثير بعض قراراته يبدو محدوداً للغاية، في ظل الانهيار شبه الكامل للنظام المصرفي حالياً في السودان، ما يجعل قرار تجميد أصول قوات الدعم السريع الداخلية غير مؤثر. وبالنسبة للأصول الخارجية، فإن قرار تجميدها يعتمد بالأساس على شبكة علاقات طرفي الصراع بالدول التي تضم هذه الأصول.
3- هشاشة اتفاق جدة: يلاحظ أن اتفاق "إعلان المبادئ" الذي تمخض عن مباحثات جدة الأخيرة جاء هشاً للغاية، إذ لم ينص الاتفاق على وقف لإطلاق النار، بل أن طرفي الصراع لم يعلنا، بشكل رسمي، اعترافهما بهذا الاتفاق، في مؤشر آخر على فشل الوساطة في التوصل إلى أي تقدم بين الطرفين حتى الآن.
وبينما يسعى الجيش السوداني وقوات الدعم إلى إظهار درجة من التجاوب مع جهود الوساطة الإقليمية والدولية، إلا أن الطرفين باتا مقتنعين تماماً بأن الحرب لا تزال ممتدة، وأن أي مخرجات ستتمخض عن مباحثات جدة ستكون هشة وتؤول في النهاية للفشل، وهو ما يفسر القرارات الأخيرة للبرهان، ومحاولته محاصرة نفوذ الدعم السريع.
انعكاسات داخلية محتملة
في إطار المتغيرات الأخيرة التي شهدها الصراع السوداني، هناك عدد من الانعكاسات المحتملة التي ربما تطرأ على المشهد خلال الفترة المقبلة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تكريس الاستقطاب الداخلي: قد تؤدي قرارات البرهان الأخيرة إلى تكريس الاستقطاب في الداخل السوداني، خاصة حال تبعتها موجات متتالية من الإقالات الجماعية لقادة بعض المؤسسات الحيوية، حيث يمكن أن تؤدي هذه القرارات إلى انقسامات حادة داخل مؤسسات الدولة بين طرفي الصراع، بالتزامن مع تزايد الحديث عن اصطفافات قبلية وعرقية يجري توظيفها من قبل الطرفين في القتال الجاري، ولاسيما في الأقاليم الطرفية السودانية، الأمر الذي سيخلق في مجمله بيئة مواتية لاندلاع حرب أهلية شاملة ويزيد المشهد تعقيداً.
2- الاستعداد لحرب ممتدة: يكشف نص إعلان المبادئ الصادر عن مباحثات جدة تمسك طرفي الصراع بالاستمرار في حرب طويلة الأمد، خاصة وأن الإعلان ركز بالأساس على الخرطوم، على الرغم من اندلاع قتال عنيف بين طرفي الصراع في دارفور. ويتسق هذا الطرح مع تجميد البرهان لحسابات قوات الدعم، وهو ما يعكس قناعته أن أمد الحرب سيمتد لفترة أطول، الأمر الذي يفرض عليه الاستعداد لهذه الحرب الطويلة.
وهناك مخاوف من اتجاه السودان لتصبح بؤرة استقطاب للمقاتلين الأجانب، وهو ما عززته تصريحات الممثل الخاص للأمم المتحدة، فولكر بيرتس، والذي ألمح إلى وجود تدفقات متزايدة للمقاتلين الأجانب من منطقة الساحل الإفريقي، ولاسيما من تشاد والنيجر ومالي، إلى الداخل السوداني، للانخراط في الصراع المسلح الجاري هناك، واستغلال هذه الاضطرابات لنهب الثروات، وهو ما سيزيد من حالة الفوضى في السودان.
وفي الختام، يبدو أن المشهد السوداني يزداد قتامة، خاصة في ظل ترجيح غالبية التقديرات أن أي مباحثات ستجري في الوقت الراهن بين طرفي الصراع سيكون مآلها الفشل على الأغلب، بسبب تمسك كل طرف بالحسم العسكري وثقته في قدرته على تحقيق هذا الحسم. وربما يسعى البرهان إلى إخراج قوات الدعم من الخرطوم، غير أن مثل هذا السيناريو سيدفعها لإعادة تنظيم صفوفها في دارفور وشن هجمات جديدة على قوات الجيش في الخرطوم.