إعداد: د. إسراء أحمد إسماعيل
ثمة ترجيحات تشير إلى انتهاج إيران استراتيجية تستند إلى توفير ما يسمى "غطاء نووي"، بدلاً من السعي المباشر لامتلاك قنبلة نووية. وتتمثل قيمة هذا "الغطاء النووي" في اعتباره أداة للتأثير أو الإكراه أو الردع، وبالتالي فهو يمنح طهران مزيداً من القوة، حتى لو كانت قوة كامنة.
ومن هذا المنظور، فإنه في حين قد يقيد الاتفاق النووي مع الغرب الذي تم إبرامه مؤخراً من نطاق ووتيرة الأنشطة الإيرانية النووية، إلا أن طهران ستظل محتفظة بقوة كامنة وبقدرة على امتلاك أسلحة نووية بسرعة نسبياً إذا قررت أن تفعل ذلك.
استناداً إلى ما سبق، نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" في يوليو 2015 دراسة تحت عنوان: "التعايش مع الغطاء النووي.. الآثار المترتبة على استراتيجية إيران النووية"، والتي أعدها كل من "وين بوين" Wyn Bowen و"ماثيو موران" Matthew Moran- الباحثان في مركز الدراسات الأمنية والعلمية (CSSS) في لندن. وقد تناولت هذه الدراسة مفهوم "الغطاء النووي"، والتداعيات الإقليمية والدولية للاتفاق النووي مع إيران، وسبل مواجهة هذه التداعيات.
مفهوم الغطاء النووي
توضح الدراسة أن مفهوم "الغطاء النووي" Nuclear hedgingليس حديثاً، ففي عام 2002 نُشرت أول دراسة شاملة حوله أعدها "أرييل ليفيت" Ariel Levite، حيث عرَّف "الغطاء النووي" أنه: "استراتيجية وطنية للحفاظ على أو إظهار الحفاظ على خيار امتلاك الأسلحة النووية، بحيث يكون قابلاً للتطبيق، اعتماداً على القدرات الفنية المحلية لإنتاج الأسلحة النووية في غضون فترة زمنية قصيرة نسبياً، تتراوح بين عدة أسابيع إلى بضعة سنوات".
وتوجد ثلاثة عناصر مترابطة توضح كيفية تطبيق إيران لمفهوم "الغطاء النووي":
1 ـ التعتيم:
يعني القدرة على أو محاولة الحفاظ على مستوى عالِ من السرية والغموض فيما يتعلق بنيّة الدولة وقدرتها على حيازة الأسلحة النووية. وفي هذا الصدد، تتسبب أنشطة إيران النووية في إثارة القلق لعدة أسباب:
أ- وجود فجوة كبيرة بين التصريحات الرسمية، ومستوى تطور البرنامج؛ حيث يتوفر لدى طهران القدرة على إنتاج كميات من اليورانيوم المُخصب أكثر بكثير مما تحتاجه حالياً (نحو 19,000 جهاز للطرد المركزي)، الأمر الذي يوضح وجود خطط طموحة للتوسع النووي، وما يؤكد ذلك إمداد طهران مؤخراً لوكالة الطاقة الذرية بتفاصيل 16 موقعاً مرشحاً لبناء مفاعلات جديدة.
ب- لدى إيران سجل حافل من الإخفاء والعمل على تطوير خططها النووية بشكل سري، الأمر الذي أساء إلى التزامها المُعلن بمعاهدة حظر الانتشار النووي. ففي عام 2002 انكشف أمر التسهيلات غير المعلنة المرتبطة بالمنشأتين النوويتين "ناتانز" و"آراك"، فضلاً عن الرفض المستمر للسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة موقع "بارشين" العسكري.
ج- تشير التحركات الإيرانية إلى وجود ارتباط بين البرنامج النووي وأنظمة التسليح، إلى جانب التداخل العسكري في البرنامج. ففي عام 2011 قدمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفاصيل عن أنشطة للبحث والتطوير مرتبطة بتسليح المرافق العسكرية بتنسيق من وزارة الدفاع.
2 ـ التبرير والتعبئة الداخلية:
يكشف الخطاب السياسي والنقاش الداخلي الذي أُثير حول البرنامج النووي الإيراني الكثير عن الوظيفة السياسية للبرنامج ودوره وحدوده؛ فمنذ المرحلة التي أُثيرت فيها الشكوك في عام 2002، دافعت طهران باستمرار عن برنامجها النووي باعتباره برنامجا سلمياً، وقد صوّر النظام السياسي إيران كضحية للمحاولات الغربية للسيطرة على انتشار التكنولوجيا النووية المدنية.
وتلعب تبريرات النظام - التي تنعكس في تصريحاته - دوراً محورياً في مواجهة المعارضة الدولية والمحلية للبرنامج النووي الإيراني، كما يتم توظيفها لخدمة هدف استراتيجي هو إضفاء الشرعية على الأنشطة النووية الإيرانية، بخلاف الاستخدامات النووية المدنية.
وفي الوقت نفسه، تضع هذه التبريرات بعض القيود على مسار إيران النووي، فعلى الرغم من وجود اتفاق بين السياسيين على أن البرنامج النووي يعد ضرورياً لحماية حقوق الدولة ومكانتها، بيد أنه يرتبط بمدى حدوث تقدم على الصعيد المدني. ومن ناحية أخرى، على الرغم من وجود أقلية من المتشددين الذين يؤيدون تطوير برنامج نووي عسكري، فليس ثمة دليل على وجود إجماع عليه، الأمر الذي جعل المظلة النووية تعتبر الخيار الوحيد المتاح لمتابعة الاستراتيجية النووية لإيران.
3 ـ دبلوماسية "القط والفأر":
تعني النشاط الدبلوماسي المُوجه لشرح وتبرير البرنامج النووي، فقد تمكنت طهران من توظيف أدواتها الدبلوماسية لتشتيت الضغوط الواقعة عليها، ولكسب الوقت للمُضي قُدماً في برنامجها. فمنذ عام 2002 وحتى عام 2012، استخدمت طهران تكتيكات متعددة، مثل: الموافقة على إجراء محادثات ثم الانسحاب منها، والتراجع عن الاتفاقات السابقة، وتقديم مقترحات مختلفة، وخلال هذه الفترة حقق البرنامج النووي تقدماً كبيراً. كما سعت إيران أيضاً لتخفيف الضغط عليها بطريقتين، هما:
أ- حاولت كسب تأييد أعضاء حركة عدم الانحياز عبر إعادة صياغة النقاش وتحويل التركيز لمناقشة الحقوق والالتزامات بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، حيث عملت إيران على محاولة ترسيخ مبدأ الحق في تخصيب اليورانيوم.
ب- اتجهت إيران شرقاً لتوثيق العلاقات مع الصين وروسيا، لمواجهة الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية الغربية.
"روحاني" يكسب الرهان
أشارت الدراسة إلى أنه مع انتخاب السياسي المعتدل "حسن روحاني" رئيساً للبلاد في منتصف عام 2013، حاول تطبيق نهجه العملي لحل مشكلة البرنامج النووي. ففي نوفمبر 2013، وفي ظل خطة العمل المشتركة المتفق عليها بين طهران ومجموعة (5+1)، أوفت إيران بالشروط الرئيسية في إطار الخطة، والمتمثلة في تخفيض مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة (20%)، وتجميد نشاطها في مفاعل "أراك"، مما مهد الطريق للوصول إلى الاتفاق الإطاري في أبريل 2015، وبعد توقيع الاتفاق أكد "روحاني" التزام طهران به طالما التزم الجانب الآخر بوعوده، أما إذا حدث إخلال فإن إيران لها مطلق الحرية في اختيار مسار مختلف.
وترى الدراسة أن الاتفاق يعني نجاح المساعي الإيرانية في التمتع بمظلة نووية، حيث يعترف ضمناً ويعطي الشرعية للغطاء النووي الإيراني، مع إبقاء موقفها وطموحاتها عند الحد الأدنى.
تداعيات الاتفاق النووي على المنطقة
في حين أنه من السابق لأوانه التنبؤ بتوالي تطبيق نهج "الغطاء النووي" بين الدول العربية، غير أنه من المرجح اعتماده من قِبل البعض، وتوضح الدراسة أن انتشار نمط "المظلة النووية" على المدى الطويل سيسمح لهذه الدول بتطوير قدراتها، ومحاولة تحقيق التوازن الإقليمي، مضيفةً أنه على مدار العقد الماضي أظهرت العديد من الدول العربية احتمالات التفكير في التمتع بغطاء نووي، مثل مصر والإمارات والسعودية. وفي مارس 2007، كلف مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب "الهيئة العربية للطاقة الذرية" بإعداد الخطط اللازمة لاستراتيجية عربية للحصول على ما يلزم من الدراية العلمية والتقنيات اللازمة لتطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية بحلول عام 2020.
وعلى الرغم من عدم ظهور استراتيجيات نووية مُتسقة منذ ذلك الحين، فإن بعض الدول العربية اتخذت خطوات فردية في مجال الطاقة النووية.
المستقبل النووي للمملكة العربية السعودية
تضمنت الاستراتيجية السعودية التي تم مراجعتها عام 2003 لمواجهة التطورات النووية الإيرانية خيارات امتلاك أسلحة نووية للردع، والدخول في تحالف جديد مع دولة نووية قائمة، والسعي إلى التوصل لاتفاق لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.
وتتمثل تبريرات الرياض في أن طهران تمكنت من تعظيم استفادتها من معاهدة حظر الانتشار النووي، وتسعى السعودية إلى استغلال الشرعية التي اكتسبها البرنامج النووي الإيراني من هذه العملية، كما توجد مؤشرات دبلوماسية على انتهاج الرياض مبدأ "الغطاء النووي"، فدعوة الرياض لإنشاء برنامج مشترك للتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية في إطار مجلس التعاون الخليجي في أوائل ديسمبر 2006، يمكن أن يُنظر إليه باعتباره وسيلة لإضفاء الشرعية لتطوير برنامج نووي سعودي، كما يرى معدا الدراسة.
وتضيف الدراسة أنه على الرغم من تعقُّد الموقف السعودي بسبب وفاة الملك "عبدالله"، وانتقال السلطة، فإن الدلائل تشير إلى أن الملك "سلمان" حريص على الحفاظ على اتساق السياسات السعودية، وتطبيق استراتيجية "الغطاء النووي" السعودي التي يبدو أنها تعد خياراً مقبولاً له.
تداعيات الاتفاق النووي على نظام منع الانتشار النووي
قد تتسبب استراتيجية إيران النووية في سعي دول أخرى كي تحذو حذوها لاكتساب أدوات للردع، وهنا - كما تشير الدراسة - فإن ظهور دولة أو اثنتين تتمتعان بغطاء نووي يمكن أن يبدأ في تقويض مصداقية وشرعية معاهدة حظر الانتشار النووي.
إن حالة عدم اليقين الاستراتيجي التي قد تنشأ نتيجة "الغطاء النووي" قد تتسبب في ميلاد سباق نووي، حيث تتسارع الدول لتعظيم استراتيجية "الغطاء النووي" الخاصة بها، وفي زيادة الدوافع لامتلاك قنبلة نووية. وتوضح الدراسة أنه إذا تمكَّن المجتمع الدولي من احتواء خطر "الغطاء النووي" من قِبل إيران وغيرها من الدول، فإنه في هذه الحالة قد يشكل خطراً محدوداً على معاهدة حظر الانتشار النووي، ولكن عملية الاحتواء ليست مهمة سهلة، حيث تتطلب أساليب مبتكرة لتخفيف المخاطر.
مواجهة الغطاء النووي الإيراني
قدمت الدراسة عدداً من التدابير التي يمكن للمجتمع الدولي أن يتخذها لاحتواء إيران، والسيطرة على عملية التعتيم النووي عند حدها الأدنى، والتقليل من تأثير الاعتراف والشرعية التي تم إضفاؤها من خلال الاتفاق الإطاري على الغطاء النووي الإيراني. وتتمثل هذه التدابير فيما يلي:
أ- الالتزام بالاتفاق النووي الذي تم توقيعه في يوليو 2015، والتحقق من ذلك من خلال تدشين الوكالة الدولية للطاقة الذرية آلية رقابة قادرة على كشف أي محاولة تحايل على نظام التفتيش النووي، ومنع امتلاك قنبلة نووية عن طريق استخدام مرافق غير معلنة.
ب- الاهتمام بالتدابير الإضافية لبناء الثقة النووية لتعويض الآثار السلبية للغطاء النووي الإيراني. ومثال على ذلك، الاتفاق الذي تم بين الأرجنتين والبرازيل، والذي تم وفقاً له إنشاء الوكالة البرازيلية الأرجنتينية للمساءلة عن المواد النووية ومراقبتها (ABACC) في عام 1991، لضمان التحقق من الاستخدام السلمي للمواد التي يمكن استخدامها لتصنيع الأسلحة النووية بين الدولتين المتنافستين.
ج- توفير التأمين اللازم لدول مجلس التعاون الخليجي من خلال تقديم ضمانات أمنية إيجابية عبر التركيز على إقناعهم أن الغطاء النووي الإيراني يمكن احتوائه. وفي حال وجود أي تهديد نووي إيراني، فإن القوى الدولية سوف توفر لها حصناً ضد أي تهديد.
ختاماً، تؤكد الدراسة أن طبيعة التهديد النووي الإيراني قد تغيرت، الأمر الذي يتطلب تغير استجابة المجتمع الدولي، حيث إن السؤال لم يعد حول كيفية توقيف البرنامج النووي الإيراني، ولكن كيف يمكن احتوائه بمعنى تخفيض مستوى التعتيم والتقليل من مخاطر "الغطاء النووي"، سواء من حيث الانتشار الإقليمي أو التأثير على معاهدة حظر الانتشار النووي.
* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "التعايش مع الغطاء النووي.. الآثار المترتبة على استراتيجية إيران النووية"، والصادرة عن المعهد الملكي للشئون الدولية "تشاتام هاوس"، يوليو 2015.
المصدر:
Wyn Bowen and Matthew Moran, Living with nuclear hedging: The implications of Iran’s nuclear strategy, International Affairs, Volume 91, Number 4 (London, the Royal Institute of International Affairs " Chatham House", July 2015) pp 687 -707.