أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، في 17 مارس 2023، إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في "جرائم حرب"، بسبب اتهامه بارتكاب إحدى جرائم الحرب، وهي "ترحيل غير شرعي لسكان (أطفال) ونقل الكثير من السكان (الأطفال) من مناطق محتلة في أوكرانيا إلى روسيا الاتحادية". وأصدرت أيضاً مذكرة بحق ماريا أليكسيفنا لفوفا بيلوفا، مفوضة حقوق الأطفال في مكتب الرئيس الروسي، في تهم مشابهة.
ورحبت الدول الغربية بالقرار، في حين اتجهت الصين إلى انتقاد المحكمة الجنائية الدولية على أساس أنها غير موضوعية، واتهمتها بازدواجية المعايير، والتسييس، كما طالبت المحكمة باحترام حصانة رؤساء الدول أمام القضاء.
أبعاد اتهام المحكمة
تمثل الاتهام الذي وجهته المحكمة الجنائية الدولية إلى بوتين، والموقف الروسي منه، في التالي:
1- اتهام بوتين بشكل شخصي: أصدرت الدائرة التمهيدية الثانية بالمحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال الرئيس بوتين وماريا أليكسيفنا لفوفا بيلوفا، مفوضة حقوق الأطفال في مكتب الرئيس الروسي، وذلك على أساس أن كلاً منهما "مسؤول عن جريمة الحرب المتمثلة في الترحيل غير القانوني للأطفال من الأراضي المحتلة في أوكرانيا إلى روسيا". وتشمل الحوادث التي حددتها الدائرة ترحيل مئات الأطفال على الأقل من دور الأيتام ودور رعاية الأطفال.
وقد تم توجيه الاتهام إلى بوتين وبيلوفا بشخصيهما على أساس ضلوعهما في إصدار أوامر بالترحيل القسري للأطفال، أو أنهما علما بها، ولم يتدخلا لوقفها. كما أنه تم توجيه الاتهام لهما بصفتهما الشخصية، ولكونهما من كبار المسؤولين في روسيا.
وتتهم كييف موسكو بترحيل أكثر من 16 ألف طفل أوكراني إلى روسيا منذ بدء الغزو، في 24 فبراير 2022، ووضعهم في مؤسّسات ودور رعاية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا وأوكرانيا ليستا عضوتين في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، غير أن أوكرانيا قبلت، في 2015، منح المحكمة الولاية القضائية للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية.
2- نفي روسي للاتهامات: نفت روسيا الاتهامات الموجهة إليها من المحكمة الجنائية الدولية، إذ أنها نفت أن تكون ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في الميثاق، والمتمثلة في جريمة الحرب المتمثلة في: "الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع"، وذلك على أساس أن موسكو قامت بنقل هؤلاء الأطفال من دار الأيتام ودور رعاية الأطفال في مناطق الصراعات المسلحة إلى مناطق أخرى آمنة داخل روسيا، وذلك وفقاً لما أكدته مفوضة حقوق الطفل الروسية، ماريا بيلوفا، والتي سخرت من قرار المحكمة مؤكدة أنه "من الجميل أن المجتمع الدولي قد قدّر عملنا لمساعدة أطفال بلادنا وأننا لا نتركهم في مناطق العمليات العسكرية ونخرجهم منها".
ومن جهة أخرى، فإن موسكو ترى أن مواطني شرق وجنوب أوكرانيا هم مواطنون روس، ليس فقط لأنهم وافقوا على الانضمام إلى موسكو بموجب استفتاء، يرفض الغرب الاعتراف بشرعيته، ولكن كذلك لأن التكوين العرقي لهذه المناطق يكشف عن أنها كانت إما ذات إثنية روسية، أو أوكرانيين يتحدثون الروسية، ومن ثم، فإن ولاءهم الأساسي لموسكو، وبالتالي فهي لا ترى أنها ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية بحق الأطفال الذين تم نقلهم من مناطق الحرب إلى مناطق أخرى أكثر أماناً، من وجهة نظر موسكو.
الرد الروسي
جاءت أبعاد الموقف الروسي من الاتهامات الموجهة لموسكو على النحو التالي:
1- شن حرب نووية: حذر ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، من أن توقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الخارج "يعادل إعلان حرب نووية على روسيا"، وذلك تعقيباً على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق بوتين.
وأضاف: "لنتخيل، هذا الأمر الذي ندرك تماماً أنه لن يحدث بتاتاً، لكن لنتخيل مع ذلك، أنه قد وقع فعلاً. وصل رئيس دولة نووية فعلياً إلى أراضي ألمانيا، على سبيل المثال، وتم اعتقاله هناك. هذا طبعاً يُعد إعلان حرب على روسيا الاتحادية! وفي هذه الحالة، ستتوجه وتطير جميع وسائلنا المتوفرة مستهدفة مجلس النواب الألماني ومكتب المستشار الألماني، وغيرها"، وهو ما جاء رداً على تصريح وزير العدل الألماني، ماركو بوشمان، الذي قال إن سلطات ألمانيا ستكون ملزمة بالامتثال لقرار المحكمة الجنائية الدولية واعتقال الرئيس الروسي إذا وصل إلى أراضي ألمانيا.
2- فتح تحقيق مع المحققين: أمرت لجنة التحقيق المسؤولة عن الأبحاث الجنائية الرئيسية في روسيا، بفتح تحقيق في "إصدار المحكمة الجنائية الدولية غير القانوني لمذكرات توقيف بحق مواطنين روس"، وذلك لتحديد هوية قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذي يقفون وراء القرار، وذلك استعداداً لاتخاذ قرارات ضدهم، مثل فرض عقوبات عليهم.
ويُلاحظ أن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، هو أول من قام بفرض عقوبات ضد مسؤولين في المحكمة، وذلك في يونيو 2020، إذ قام بتجميد أصول موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، وذلك رداً على قرارها آنذاك بفتح تحقيق حول انتهاكات الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان.
3- تحدي بوتين للمحكمة: قام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد يومين من صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله، ويوم من زيارته المفاجئة إلى شبه جزيرة القرم، بزيارة مدينة ماريوبول بمقاطعة دونيتسك، إحدى المناطق الأوكرانية الأربع التي ضمتها موسكو، وهو ما يمثل رسالة إلى أوكرانيا والغرب، خاصة الولايات المتحدة، وهي أن موسكو عازمة على تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وأنها ماضية قدماً في إحكام السيطرة على الأقاليم الأربعة الأوكرانية، وأنها صارت مدناً آمنة وخاضعة للسيطرة الروسية. ولعل ما يؤكد ذلك حديث بوتين في الشوارع مع الناس باعتبارهم مواطنين روس، وهو ما يعني أن اتهامات المحكمة لا قيمة لها عملياً بالنسبة لموسكو.
دلالات اتهام المحكمة
يُلاحظ أن قرار المحكمة قد كشف عن عدد من الدلالات، يمكن أن يتم تفصيلها على النحو التالي:
1- تسييس قرار المحكمة: يبدو أن المحكمة الجنائية الدولية باتت إحدى الأدوات التي توظفها الدول الغربية في إطار صراعها مع روسيا. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو أن المدعي العام للمحكمة قرر تحويل بوتين إلى المحاكمة لاتهامه بارتكاب جرائم حرب، في حين أنه من الثابت أن الولايات المتحدة ارتكبت انتهاكات في صراعات مسلحة عدة، ولم يتم التحقيق معها، بل وتراجعت المحكمة عن تحقيقها في جرائم ارتكبتها واشنطن دون تقديم أي مبرر منطقي.
فقد قامت المحكمة الجنائية الدولية، في مارس 2020، بالتحقيق في جرائم حرب اُرتكبت في أفغانستان منذ 1 مايو 2003 وكذلك الجرائم الأخرى المرتبطة "بالحرب ضد الإرهاب" التي قادتها الولايات المتحدة في أماكن أخرى منذ 1 يوليو 2002، غير أن المدعي العام الحالي للمحكمة، كريم أحمد خان، قام، في أكتوبر 2021، باستبعاد الأطراف التالية من التحقيق، وهم القوات الحكومية الأفغانية وقوات الجيش الأمريكي والتحالف الدولي وكذلك وكالة الاستخبارات الأمريكية التي كان من المفترض أن يتم التحقيق معها بسبب برنامجها السري في مواقع أطلق عليها اسم "المواقع السوداء"، وهي مواقع استجواب سرية في ليتوانيا ورومانيا وبولندا.
وفي حين سعت المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، لبذل جهود لتضمين الولايات المتحدة في المحاكمة، وصولاً إلى قيامها بالاستئناف في 5 مارس 2020، على حكم سابق صدر في إبريل 2019، رفض فيه قضاة في المحكمة الجنائية الدولية طلب فتح تحقيق معللين ذلك بـ"إنه من غير المحتمل أن يكون قادراً على خدمة العدالة"، فإن خان استبعد الولايات المتحدة من التحقيق، وذلك دون تقديم أي مبررات في هذا الإطار.
ومن جهة أخرى، فإنه في حين أن المحكمة كانت تحقق في انتهاكات قامت بها القوات الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية، فإنها لم تتهم رئيس الولايات المتحدة في هذه التهم، وذلك بعكس الحالة الروسية، والتي اتهمت فيها المحكمة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين مباشرة، وهو ما يثير التساؤل حول نزاهة المحكمة.
2- عدالة جزئية: يُلاحظ أن القوات الأوكرانية، متهمة هي كذلك من جانب المنظمات الدولية الغربية بارتكاب جرائم، وليس الجيش الروسي وحده، فقد أصدرت منظمة العفو الدولية، في 4 أغسطس 2022، تقريراً أكدت فيه أن الجيش الأوكراني يقوم بتعريض المدنيين للخطر في مقاومته للغزو الروسي، عبر نشر بنى تحتية عسكرية في مناطق مأهولة بالسكان. ونظراً للضغوط الغربية التي مورست على المنظمة، فقد قامت بسحب التقرير، كما أجبرت الضغوط الغربية رئيسة فرع منظمة العفو الدولية في أوكرانيا، أوكسانا بوكالتشوك، إلى تقديم استقالتها، وذلك بعد أربعة أيام من نشر التقرير.
وفي المقابل، كان من الثابت أن الجيش الأوكراني قد قام بارتكاب جرائم حرب، وقام بتوثيقها، ونشرها على حساباته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل إعدام أسرى حرب روس، وهو ما حدث في شمال قرية دميتريفكا، غربي كييف، حيث أظهر فيديو نشر على حساب وزارة الدفاع الأوكرانية على تويتر، جنوداً أوكران، وهم يعدمون أسرى روس في مارس 2022، وقد تأكدت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية من مصداقية هذا الفيديو.
ويُلاحظ هنا أن نشر وزارة الدفاع الأوكرانية لهذا الفيديو يكشف عن ترويج الوزارة لهذه الأعمال، وتبنيها لها، وهو ما قد يأتي في إطار سعي كييف لبث الخوف في صفوف الجيش الروسي من القوات الأوكرانية، غير أنه في نفس الوقت يُعد اعترافاً ودعماً من جانب كبار المسؤولين في وزارة الدفاع لهذه الأعمال. كما أنه من الثابت أن الجيش الأوكراني قام بالاستهداف العشوائي لمناطق مدنية، خاضعة للسيطرة الروسية في أوكرانيا.
وبالمثل، أكدت منظمة الأمم المتحدة، في إبريل 2022، أن العثور على مقابر جماعية في مدينة بوتشا الأوكرانية بعد انسحاب القوات الروسية منها، يثير تساؤلات جدية بشأن "جرائم حرب محتملة"، واتهمت أوكرانيا والدول الغربية روسيا بالتورط في الإعدام الجماعي للمدنيين، وهو ما يكشف عن أن الطرفين متهمين بارتكاب جرائم حرب، غير أن المحكمة قامت بفتح تحقيق لإدانة طرف دون آخر.
وسبق أن أكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في سبتمبر 2022، هذه النقطة، إذ أكد أنه "يتم تجاهل الجرائم التي ينفذها الجيش الأوكراني والكتائب المتطرفة بحق المدنيين في دونباس"، وذلك في رده على طلب الولايات المتحدة وأوكرانيا بفتح تحقيق في انتهاكات روسيا ضد أوكرانيا. ويُلاحظ أن تجاهل المحكمة الجنائية الدولية لكل هذه الانتهاكات الأوكرانية، وتركيزها فقط على جرائم روسية إنما يعكس تبعية المحكمة للولايات المتحدة، ونجاح الأخيرة في توجيهها لتنفيذ أجندتها الدعائية ضد موسكو.
3- الإساءة لصورة بوتين: قام الغرب في إطار الحرب الروسية الأوكرانية بشن مختلف أنواع الحروب ضد روسيا، بما في ذلك الحرب الاقتصادية، والحرب النفسية الإعلامية، وغيرها من الحروب. ويأتي من ضمن هذه الحروب، الحروب القضائية، أي محاولة استخدام القوانين والمؤسسات القضائية في محاولة لنزع الشرعية عن الخصوم والإساءة لهم. وفي هذا الإطار، فقد نجحت الولايات المتحدة في تحقيق انتصار واضح على روسيا، وذلك من خلال توظيف المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيقيات تدين روسيا، دون أن تلتفت إلى أوكرانيا.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى أن المحكمة الجنائية لا تستطيع أن تحاكم بوتين غيابياً، كما أن الدول لا تتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في تسليم رؤساء الدول، وذلك على أساس الحصانة الممنوحة لهم، بموجب القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، تمكّن الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، من زيارة عدد من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك جنوب إفريقيا والأردن، وذلك على الرغم من أن المحكمة كانت قد أصدرت مذكرة توقيف بحقه. وعلى الرغم من الإطاحة به في العام 2019، لم يسلّمه السودان.
ويُلاحظ أن الأمر سوف يكون أكثر صعوبة بالنسبة روسيا، خاصة وأنها دولة كبرى، كما أنها أكبر قوة نووية في العالم، وليس من المتوقع أن تقوم أي دولة يزورها بوتين بالتعاون مع المحكمة، وهو ما يعني أن كل إجراءات المحكمة تستهدف الإساءة إلى صورته.
4- مقدمة لاتهامات أخرى: من الملاحظ أن واشنطن والدول الأوروبية قد تعمد خلال الفترة المقبلة إلى دفع المحكمة لتوسيع نطاق التحقيقات لتشمل استهداف روسيا للبنية التحتية ومحطات الطاقة في أوكرانيا، وذلك في محاولة للضغط على موسكو لوقف هذه الهجمات، خاصة بعدما أخفقت واشنطن في القيام بذلك من خلال إمداد أوكرانيا بنظم دفاع جوي غربية.
5- التشويش على الانتصارات الروسية: يُلاحظ أن قرار المحكمة جاء في وقت نجحت فيه روسيا في شن هجوم واسع على طول الجبهة الأوكرانية، خاصة في دونيتسك، مع تأكيد أغلب التقييمات الغربية أن أوكرانيا غالباً ستفقد السيطرة على مدينة باخموت الاستراتيجية، وأن ذلك الأمر قد يمكن القوات الروسية من السيطرة على مدن رئيسية في الإقليم، وهو ما يشكل انتكاسة غير هينة للقوات الأوكرانية، ومن ثم جاءت إدانة بوتين من جانب المحكمة الجنائية الدولية للتغطية على هذه الانتصارات الروسية.
وفي التقدير، يمكن القول إن المحكمة الجنائية الدولية، والدول الغربية الداعمة لقرارها، تدرك جيداً أنها لن تتمكن من تنفيذ حكمها باعتقال الرئيس بوتين، ولكنها تسعى للإساءة إلى صورته دولياً، وذلك للتغطية على الانتكاسات التي يتعرض لها الجيش الأوكراني في ساحة المعركة على الرغم من الدعم الغربي، غير أن استبعاد المحكمة النظر في الانتهاكات الأوكرانية يثير التساؤلات حول مدى حياديتها، خاصة بعدما اتجهت إلى وقف التحقيق في انتهاكات الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية دون تقديم أي مبرر قانوني منطقي.