ارتفع التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، خلال شهر فبراير 2023، إلى مستوى جديد على صعيد تبادل الاتهامات بالتجسس. وكانت المناطيد الصينية محور الخلاف، في مشهد بدا وكأنه ارتداد عن التطورات الحديثة في مجال تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية، وهو أمر حمل دلالة واضحة حول عدم اليقين الذي تحمله تقديرات كل طرف تجاه الآخر.
فالبداية كانت مع إسقاط الجيش الأمريكي لمنطاد صيني، في 4 فبراير الماضي، قرب سواحل ولاية ساوث كارولينا، بعدما حلّق عدة أيام فوق الأراضي الأمريكية. وتبع ذلك الحادث رصد ثلاثة أجسام أخرى فوق الأجواء الأمريكية والكندية، تم إسقاطها تباعاً في أيام 10 و11 و12 فبراير 2023. وأشارت التقييمات الأمريكية الرسمية، بناءً على تحليل أجزاء من حطام المنطاد الصيني، إلى أن المنطاد مُصمَّم للتجسس، وكان من المفترض في الأصل أن يقوم بمراقبة القواعد العسكرية الأمريكية في غوام وهاواي، لكن الرياح أبعدته عن مساره إلى ألاسكا وكندا ثم إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة. أمّا الأجسام الثلاثة الأخرى، فقد أوضح جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، أنه لا يوجد ما يشير إلى أنها جزء من برنامج تجسس صيني.
وتسبّب هذا الحادث في تصعيد التوتر بين واشنطن وبكين، لدرجة إلغاء وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، رحلته التي كانت مُقررة إلى بكين. في المقابل، نفت الصين الاتهامات الأمريكية بالتجسس، وقلّلت من أهمية حادث المنطاد، حيث أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، إلى أن "الدخول غير القانوني للمناطيد الأمريكية إلى المجال الجوي لدول أخرى هو ممارسة شائعة، ومنذ بداية العام الماضي 2022، دخلت المناطيد الأمريكية بشكل غير قانوني المجال الجوي الصيني أكثر من 10 مرات دون إذن من الإدارات الصينية ذات الصلة".
ويطرح هذا السجال، خاصة في ضوء التقديرات الأمريكية الأخيرة، تساؤلات حول جدية التهديدات التي تطرحها المناطيد الصينية، ومدى واقعية الرؤية الأمريكية لهذه التهديدات، وتداعياتها على مستقبل العلاقات بين القوتين.
النشاط الصيني في الفضاء:
أعاد حادث المنطاد الصيني تسليط الضوء مُجدداً على النشاط العسكري لبكين في "الفضاء القريب"، وما يستتبعه ذلك من استخدام المناطيد العسكرية. ويقع "الفضاء القريب" بالقرب من ممرات الطيران وأسفل الأقمار الاصطناعية، وبالقرب من الفضاء الخارجي؛ فهو منطقة بينية يمكن لرحلات الفضاء أن تمر من خلالها، وهو ساحة حركة للصواريخ البالستية والأسلحة فرط الصوتية.
وجاء في مقال نُشر في صحيفة "PLA" اليومية، وهي الجريدة الرسمية لجيش التحرير الشعبي الصيني، في عام 2018، أن "الفضاء القريب أصبح ساحة معركة جديدة في الحرب الحديثة، وجزءاً مهماً من نظام الأمن القومي". وتابع المقال أن "مركبات الطيران في الفضاء القريب ستؤدي دوراً حيوياً في العمليات القتالية المشتركة المستقبلية التي تدمج الفضاء الخارجي والغلاف الجوي للأرض".
ويُذكر أنه في عام 2014، حث الرئيس الصيني، شي جين بينغ، القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي على تسريع التكامل الجوي والفضائي وشحذ قدراتها الهجومية والدفاعية. وحدد الخبراء العسكريون "الفضاء القريب" كحلقة وصل حاسمة في هذا التكامل. ونشر الباحثون الصينيون، العسكريون والمدنيون، أخيراً، أكثر من 1000 بحث وتقرير عن "الفضاء القريب"، مع التركيز على تطوير مركبات الرحلات الفضائية القريبة. كذلك أنشأت الصين مركزاً بحثياً لتصميم وتطوير مناطيد عالية الارتفاع، في إطار الأكاديمية الصينية للعلوم، وهي مؤسسة فكرية حكومية رفيعة المستوى.
ويعود اهتمام بكين بتطوير المناطيد عالية الارتفاع إلى أواخر السبعينيات، إلا أن تطور الأقمار الاصطناعية جعل المناطيد تكنولوجيا عتيقة بالنسبة لمعظم التطبيقات العسكرية والاستخباراتية؛ فالأقمار الاصطناعية تعمل على ارتفاع كبير للغاية، بحيث تكون – على الأرجح - مُحصَّنة ضد معظم الإجراءات المضادة، كما أنها تستطيع جمع كم هائل من المعلومات الاستخباراتية، من خلال اختراق أنظمة الاتصالات وغيرها من التقنيات. وعلى مدار العقد الماضي، كان هناك تركيز صيني متجدد على استخدام التكنولوجيا القديمة (المناطيد)، ولكن هذه المرة من خلال تزويدها بأجهزة حديثة.
فقد كتب شي هونغ، المحرر التنفيذي لمجلة "Shipborne Weapons" الصينية العسكرية، أنه "على عكس الأقمار الاصطناعية الدوّارة أو الطائرات المتنقلة، فإن الطائرات الستراتوسفيرية والمناطيد عالية الارتفاع يمكن أن تحوم فوق موقع ثابت لفترة طويلة من الزمن، ولا يمكن اكتشافها بسهولة بواسطة الرادار". وفي فيديو صدر عام 2021، عن وكالة الأنباء الصينية الرسمية "شينخوا"، يشرح خبير عسكري كيف يمكن للمركبات الأخف وزناً في الفضاء القريب، مراقبة والتقاط صور ومقاطع فيديو عالية الدقة بتكلفة أقل بكثير مقارنة بالأقمار الاصطناعية.
كما تقدم المناطيد العسكرية بعض المزايا، حيث يمكنها البقاء فوق الهدف لساعات، في حين أن القمر الاصطناعي الذي يدور حول الأرض قد يكون لديه دقائق فقط لالتقاط صورة لهدفه. ويُعتقد أن المناطيد الصينية يمكن توجيهها عن بُعد، بسرعة تتراوح بين 30 و60 ميلاً في الساعة، كما أن مساراتها أقل قابلية للتنبؤ وبالتالي يصعب تعقبها، فضلاً عن أن إنتاج المناطيد وإطلاقها أرخص بكثير من إنتاج الأقمار الاصطناعية الفضائية.
وتقول الولايات المتحدة إن برنامج مناطيد التجسس للجيش الصيني أرسل مناطيد إلى أكثر من 40 دولة في خمس قارات مختلفة. وبدأ المسؤولون الأمريكيون التعرف إلى هذا البرنامج بعد عام 2020، خلال مراجعة أوسع لظواهر جوية مجهولة الهوية، ومن المُرجح أن فترة الرئيس السابق دونالد ترامب شهدت دخول ثلاثة مناطيد صينية إلى المجال الجوي الأمريكي (هاواي وفلوريدا وتكساس)، لكن تم تحديدها أخيراً فقط على أنها مناطيد تجسس. كما تؤكد التقارير الأمريكية أن المناطيد الصينية تتمركز في جزيرة هاينان، التي تقع قبالة الساحل الجنوبي للصين، وكانت موقعاً للقيادة والسيطرة لجيش التحرير الصيني، وقاعدة رئيسية للطائرة المقاتلة الصينية "J-8" الاعتراضية التي اصطدمت بطائرة تجسس أمريكية من طراز "EP-3" في عام 2001.
تباين التقديرات الأمريكية:
في أعقاب إسقاط المنطاد الصيني في فبراير الماضي، شرع غواصو البحرية الأمريكية في جمع بعض أجزاء المنطاد، واتجهت التقديرات الأمريكية إلى أن المنطاد كانت مهمته بالأساس مراقبة القواعد العسكرية الأمريكية في غوام وهاواي، لكن الرياح أبعدته عن مساره إلى ألاسكا وكندا، ثم إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة.
ويدعم هذه التقديرات، ما قامت به الاستخبارات الأمريكية من دراسات ترى أن الولايات المتحدة تعرّضت خلال السنوات الماضية لحوالي 366 حادثة جوية غامضة، تم تحديد 163 منها على أنها مناطيد تجسس، اثنان منها على الأقل استهدفا قواعد عسكرية أمريكية. وبعد وقوع حادث المنطاد الصيني، تم ربط الصين بمعظم المحاولات السابقة.
وأحد التحديات التي تعرّض لها المحللون الأمريكيون أثناء تحليل أجزاء المنطاد الصيني، أنهم اكتشفوا أن المنطاد كان يحتوي على آلية "تدمير ذاتي"، ولكن لم يقم المشغلون الصينيون بتفعيلها، حتى بعد اكتشاف الأمريكيين للمنطاد. وهنا دارت التفسيرات الأمريكية حول ثلاثة احتمالات هي:
- أن المشغلين الصينيين لم يرغبوا في تنشيط وظيفة التدمير الذاتي، أملاً في إعادة السيطرة على المنطاد وإعادته إلى قاعدته.
- من الممكن أن المشغلين الصينيين حاولوا تشغيل آلية التدمير الذاتي، لكنهم فشلوا.
- ربما أراد الصينيون تجنب تفعيل الآلية عندما كان المنطاد فوق الأرض، خوفاً من أن تؤدي إلى إصابات أو أضرار قد تتسبب في تصعيد الأزمة بسرعة، خاصة أن وزن المنطاد يقارب حوالي ثلاث حافلات.
وفي الأخير، رأى الخبراء الأمريكيون أن المشغلين الصينيين كان أداؤهم سيئاً للغاية في تسيير المنطاد، واتخذوا سلسلة من القرارات الخاطئة. وعلى الرغم من قدرة المنطاد على جمع الاتصالات الإلكترونية، وإرسال إشارات مُشفّرة إلى الأقمار الاصطناعية الصينية؛ فإنه لم يمتلك أي ميزة إضافية عن قدرات الأقمار الاصطناعية الصينية، وغيرها من الأصول الاستخباراتية التي تملكها بكين بالفعل، وهو ما يثير التساؤل مُجدداً حول جدوى استخدام الصين للمناطيد العسكرية.
وإحدى النظريات التي ظهرت في هذا الاتجاه ترى أن الصين ربما رغبت - من خلال هذه التقنية - في اختبار الرادار الأمريكي أو أنظمة الإنذار المبكر، وقياس قدراتها. والبعض الآخر رأى أن مناطيد التجسس أكثر فعالية من حيث التكلفة، بالمقارنة بتكلفة الأقمار الاصطناعية الصغيرة، لكن التفسير الأكثر ترجيحاً في الوسائط الأمريكية يشير إلى أن نشر مناطيد التجسس لا يتعلق بالفعالية أو الكفاءة، وإنما كان لغرض دعائي بحت، وهو إظهار الحزم والقوة في التعامل مع الولايات المتحدة، ولو بشكل استباقي.
في المقابل، أبدت فئة من العلماء المتخصصين في علوم "الفضاء القريب" والقائمين على صناعة المناطيد، تعجبها من إدارة البيت الأبيض لتلك الأزمة، ورأت أنها انطوت على سوء تقدير، وربما الكثير من التضخيم، وأن البلاد ستحتاج إلى الكثير من الصواريخ إذا أرادت طائراتها المقاتلة إسقاط كل منطاد طائش يدخل المجال الجوي الأمريكي.
وفي هذا الإطار، أوضح بول فيتكوويتز، رئيس شركة Kaymont Consolidated Industries، المتخصصة في صناعة المناطيد، أنه "توجد آلاف المناطيد في سماء الولايات المتحدة، والتي تُطلق من قِبل الوكالات الحكومية والقوات العسكرية والباحثين المستقلين والهواة"، فهيئة الأرصاد الجوية الوطنية تُطلِق كل عام حوالي 60 ألف منطاد على ارتفاع يصل إلى 20 ميلاً، أي أعلى بكثير من ارتفاع المنطاد الصيني وباقي الأجسام الثلاثة التي تم إسقاطها. كما أن وكالة ناسا، التي تدير برنامجاً في ولاية تكساس، أطلقت على مر السنوات الماضية أكثر من 1700 منطاد كبير في مهمات علمية يمكن أن تستمر لأشهر، وذلك على ارتفاع يصل إلى 22 ميلاً، وبحمولة تزن ما يصل إلى أربعة أطنان، أي ما يقرب من ثلاث سيارات صغيرة.
كذلك تُرسِل العديد من الدول، من بين 193 عضواً في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، مناطيد إلى "الفضاء القريب"، بانتظام وبأعداد كبيرة، بعضها مُصمَّم لمهام طويلة الأجل وتجمع البيانات من جميع أنحاء العالم. وبالتالي فأعداد المناطيد والبرامج المسؤولة عن إطلاقها حول العالم، لا نهاية لها.
فجوة متزايدة:
إن التقديرات الاستراتيجية الأمريكية المضطربة، والتلكؤ الصيني في تلبية المطالب الأمريكية بشأن المنطاد، والتصعيد الدبلوماسي المتبادل بين الجانبين؛ كل ذلك يعكس الفجوة الكبيرة الناشئة في جدار العلاقات الأمريكية الصينية، وصعوبة تمييز واشنطن وبكين لنيات بعضهما بعضاً، وهي أمور قد تؤدي إلى المزيد من عدم الثقة في علاقة مشحونة بالفعل.
فقد جاءت أزمة المنطاد الصيني خلال مرحلة تشهد أدنى مستوى للعلاقات الأمريكية الصينية منذ عقود، وما ساعد على تصعيد القضية، بالرغم من اضطراب التقديرات حول جدية المنطاد كتهديد، هو الرأي العام الأمريكي المشحون أصلاً منذ سنوات ضد بكين، وهو منْ ضغط على الرئيس بايدن لإسقاط المنطاد، وعبّر عن غضبه مع كل تأخير في تلك الخطوة. وقد أدى إسقاط المنطاد الصيني إلى إغلاق قنوات الاتصال الحاسمة بين الطرفين، حيث رفض وزير الدفاع الصيني، وي فنغي، تلقي مكالمة هاتفية من نظيره الأمريكي، لويد أوستن.
ولإدراك حجم الفجوة الحالية بين البلدين، يمكن العودة إلى الوراء وتحديداً في عام 2001، حين اصطدمت طائرة تجسس أمريكية بطائرة مقاتلة صينية، مما أسفر عن مقتل الطيار الصيني وإجبار الطائرة الأمريكية على الهبوط في جزيرة هاينان، حيث احتجزت السلطات الصينية الطاقم. وبعد 11 يوماً من التوتر بين البلدين آنذاك، أصدرت واشنطن خطاباً اعتبره الصينيون نوعاً من الاعتذار، ومن ثم أطلقت بكين سراح الأمريكيين.
ومن الصعب تخيل أن يُعيد التاريخ نفسه، إذا ما تكرر حادث 2001 خلال المرحلة الحالية من علاقة الولايات المتحدة والصين، وهو ما يشي بأن العالم على وشك أن يشهد عقداً جديداً، تمارس فيه واشنطن وبكين سياسات "حافة الهاوية"، خاصة إذا عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض في الانتخابات القادمة عام 2024، واستمرت الصين في صعودها العسكري المتسارع.