إعداد: ناهد شعلان
أصدرت روسيا في نهاية ديسمبر 2014 الوثيقة الخاصة بعقيدتها العسكرية، والتي تعتبر أن حشد القدرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي "الناتو" تعد من أهم الأخطار الخارجية والتهديدات الأساسية لموسكو.
وللوهلة الأولى يبدو أن العقيدة العسكرية الجديدة تتشابه إلى حد بعيد مع تلك التي صدرت في عام 2010، فالوثيقة الحالية تتضمن بعض الفصول المخصصة للتهديدات والمخاطر العسكرية، غير أنه من ناحية أخرى، ثمة اختلافات في التفاصيل يمكن رصدها بين الوثيقتين.
في هذا السياق، تأتي الدراسة الصادرة تحت عنوان: "العقيدة العسكرية الروسية عام 2014 وما بعده: إدراك المخاطر، القدرات، والتطلعات"، والتي نشرتها كلية الدفاع التابعة لحلف الناتو في يوليو 2015، وأعدتها كل من "بولينا سينوفتز" Polina Sinovets أستاذ مساعد بجامعة ميتشنيكوف في أوكرانيا، و"بتينا رينز"Bettina Renz أستاذ مساعد بجامعة نوتنجهام في إنجلترا، حيث تقدم الدراسة رؤية شاملة للعقيدة العسكرية الروسية الحالية، وأوجه التشابه والاختلاف مع سابقتها في عام 2010.
التغيرات الجوهرية في عقيدة روسيا العسكرية
رصدت الدراسة عدداً من التغيرات الجوهرية والرسائل الواردة في وثيقة العقيدة العسكرية الروسية الجديدة الصادرة بنهاية العام الماضي، وذلك كالتالي:ـ
1 ـ تم توسيع الفصل الخاص "بالمخاطر العسكرية" ليتضمن ما يسمى "الفضاء المعلوماتي والدائرة الداخلية"؛ فلأول مرة تنص الوثيقة على المخاطر العسكرية الداخلية فيما يعرف بالتأثير المعلوماتي على الشعب الروسي بهدف دحض التقاليد القومية.
ويعكس ذلك التخوف الروسي من الدور الذي قد تلعبه أجهزة الإستخبارات الخارجية – وبصفة خاصة الغربية - لزعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا. لذلك أكدت العقيدة العسكرية الأخيرة على أهمية تطويق تأثير اللاعبين الخارجيين (الغرب) على الداخل الروسي والمصالح الحيوية لموسكو.
2 ـ عبَّرت موسكو بوضوح عن رغبتها في الدفاع عن مجالها الحيوي، ولكن في المقابل لم تذكر بشكل واضح أي من الدول تقع في هذة الدائرة الحيوية. ومن الخطأ أن يحصر الغرب المصالح الروسية في أوكرانيا، فقد أعرب الكرملين عن قلقه من تأسيس نظم موالية للغرب بالقرب من الحدود الروسية، وأرسلت موسكو رسالة واضحة لخصومها المحتملين والدول المجاورة بأنها لا تنظر فقط إلى التدريبات العسكرية على حدودها باعتبارها مصدر التهديد الوحيد، ولكنها أضافت إلى ذلك أيضاً استخدام المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات ضد سيادة الدولة واستقلالها السياسي، ووحدة أراضي بعض الدول.
3 ـ للمرة الأولى يتم ذكر مفهوم "الضربة العالمية الفورية" prompt global strike (برنامج عسكري أمريكي يهدف إلى توجيه ضربة عسكرية بأسلحة تقليدية دقيقة في أي مكان في العالم خلال ساعة واحدة) في وثيقة روسيا العسكرية عام 2014، حيث تسعى موسكو إلى تطوير أسلحتها الردعية التقليدية عالية الدقة لدفع هذا الخطر، كما عبَّرت موسكو في هذه الوثيقة العسكرية عن طموحها في خطة تطويرية طويلة المدى لمجابهة الجيوش الأكثر تقدماً مثل "الناتو".
التصور الروسي للضعف الاستراتيجي
تم ذكر مصطلح "دول الجوار" على نطاق واسع في العقيدة العسكرية الروسية الجديدة، وارتبط به نوعان من التهديدات، وهما: تغيير أنظمة الحكم، والتدريبات والتحركات العسكرية.
ويبدو واضحاً أن هذه المخاوف تتعلق بشكل مباشر بالأحداث في أوكرانيا، ولكن من الخطأ حصر المصالح الروسية في أوكرانيا أو جورجيا فقط. فالوثيقة الجديدة تطرح مجموعة من المخاطر الجغرافية الأخرى مثل عدم الاستقرار المحتمل في منطقة القوقاز ووسط آسيا، والتحديات الأمنية المستجدة مثل الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة.
وترجع هذه المخاوف إلى خصوصية الثقافة الاستراتيجية الروسية، والتي يغلب عليها الشعور العميق بعدم الأمان، والرغبة في الظهور بصورة الدولة العظمي. وعلى الرغم من اتساع النطاق الجغرافي لروسيا بيد أن عمقها الاستراتيجي في أوروبا محدود، ودائماً ما يتعرض للهجمات من مختلف أعداء روسيا الذين نجح بعضهم – عبر التاريخ - في الوصول إلى العاصمة موسكو.
كما أشارت الوثيقة العسكرية الصادرة في ديسمبر 2014 إلى التهديدات التقليدية المتعلقة برغبة روسيا في لعب دور عالمي واستمرار التنافس بينها وبين أعداءها من الدول والتحالفات العسكرية الغربية. كما تنظر الوثيقة إلى توسع "الناتو" على الحدود الروسية باعتباره خطر مُحدق، ما يبرر تحمل موسكو لقسوة العقوبات الاقتصادية وإصرارها على التدخل في الأزمة الأوكرانية.
أما عن الجديد في العقيدة العسكرية الروسية، فهو إدخال منطقة القطب الشمالي ضمن دائرة المصالح الحيوية لروسيا، حيث إن القوات الأمريكية التي تقبع في النرويج لن تحتاج سوى من 16 إلى 17 دقيقة للوصول إلى عمق موسكو. لذلك، أرسلت روسيا رسالة واضحة مفادها أنها لن تقبل النفوذ المفرط لأي قوة في هذه المنطقة.
استعادة روسيا قدراتها العسكرية كقوة عظمى
تشير الدراسة إلى أن واحدة من أبرز خصوصيات الثقافة الاستراتيجية الروسية هي العلاقة بين مكانة الدولة وقوتها العسكرية، ما يفسر سعي موسكو في عهد الرئيس الحالي "بوتين" لاستعادة مكانتها وقدراتها العسكرية.
وفي هذا الصدد تتطرق الدراسة إلى النقاط التالية:ـ
1 ـ القدرات العسكرية التقليدية:
تؤكد الدراسة أنه حتى قبل عقد مضى كانت القدرات العسكرية التقليدية هي أحد نقاط الضعف لدى روسيا، ولكن مع وصول "بوتين" إلى سدة الحكم وزيادة دخل الدولة نتيجة لارتفاع أسعار النفط والغاز، شهدت موسكو تحسناً في تسليحها التقليدي نتيجة لزيادة الميزانية المخصصة للإنفاق العسكري لتصل إلى 90 مليار دولار في عام 2013.
ومع ذلك، حتى لو زادت روسيا من إنفاقها العسكري، فإنها لن تستطيع أن تضاهي الإنفاق العسكري الأمريكي (196 مليار دولار) أو الصيني (171 مليار دولار).
ويبقى السؤال حول مدى قدرة روسيا على إنتاج التكنولوجيا العسكرية المتطورة وصناعة السفن الحربية في ظل العقوبات الاقتصادية التي حرمت موسكو من الحصول على هذه التكنولوجيا من بعض الدول الغربية التي علقت صفقاتها معها مثل ألمانيا وفرنسا.
من ناحية أخرى، يبدو أن انسحاب روسيا من اتفاقية "الحد من انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا" ليس سوى أمر رمزي، فروسيا توقفت عن العمل بهذه الاتفاقية منذ أمد بعيد، وقد يكون ذلك بمثابة رسالة تشير إلى احتمالية تصعيد صراعها مع "الناتو" الذي يزيد من الضغوط تجاه روسيا منذ الأزمة الأوكرانية. ولكن قيام روسيا بنشر صواريخ "إسكندر" في مدينة "كالينينجراد" هو تعبير عن رغبتها في بدء مفاوضات حول مقترح لاتفاقية جديدة "للحد من انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا"، وذلك في إطار سياسة "العصا والجزرة" الغامضة التي ظهرت في العقيدة العسكرية الروسية في وثيقة عام 2014.
وبالنسبة للتحركات الروسية العسكرية في أوكرانيا، فإنها لا تعد مؤشراً على مدى جاهزية القوات العسكرية الروسية لخوض معارك أكثر تنظيماً وضراوة، فهذه العمليات العسكرية قامت بها وحدات خاصة لا تمثل سوى 1% من الجيش الروسي، لذا ثمة توقعات بأن هذه القوات الروسية لن تستطيع الصمود أكثر من عام آخر في أوكرانيا.
وفي المقابل، فإن لجوء روسيا لتكتيكات"الحرب الهجينة" hybrid warfare يدل على أن التقكير الاستراتيجي الروسي قد تغير عما كان عليه في وقت الحرب الباردة. وعلى الرغم من تطور وحدات الجيش الروسي، فإن ثمة شكوكاً في مدى قدرتها على القتال بكفاءة خارج حدود الاتحاد السوفيتي سابقاً.
2 ـ دور الأسلحة النووية:
حسب ما ذكرته الدراسة، يعد السلاح النووي هو حجر الزاوية في ترسانة روسيا الردعية، وذلك بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن. ويحتل السلاح النووي أهمية كبيرة في العقيدة الدينية الروسية، وكذلك في مواقفها السياسية. فمن الناحية الدينية، تقبل الكنيسة الأرثوذكسية فكرة السلاح النووي الروسي، وفي هذا الصدد أشار الصحفي "هولموجوروف" Holmogorov - صاحب نظرية "الأرثوذكسية النووية" – إلى أن ثمة علاقة بين القوة النووية والأرثوذكسية؛ بمعنى أنه حتى تظل روسيا أرثوذكسية يجب أن تكون قوة نووية، والعكس صحيح.
أما من الناحية السياسية، تتلخص الرؤية الروسية للأسلحة النووية في رأي خبراءها بأن رغبة الولايات المتحدة في وجود عالم خال من الأسلحة النووية مرده سعي واشنطن إلى تكريس هيمنتها في هذا المجال عن طريق إضعاف قدرات الدول الأخرى التي تمتلك السلاح النووي أو تنوي الحصول عليه.
وقد ألمحت العقيدة العسكرية الروسية الحالية إلى إمكانية استخدام موسكو للسلاح النووي في حالتين، هما: الصراعات واسعة المدى، والصراعات الإقليمية. ويتمحور دور القوات الروسية ليس فقط في هزيمة الأعداء المحتملين، ولكن أيضاً في ردعهم عن استمرار إلحاق الضرر بروسيا.
3 ـ الدفاع الصاروخي.. حجرة عثرة أم فرصة للتعاون؟
أكدت الدراسة أن روسيا اعتبرت انسحاب الولايات المتحدة من "المعاهدة المضادة للصواريخ الباليستية" عام 2001 بمثابة ضربة قاصمة للاستقرار الاستراتيجي، مضيفةً أن ما تفعله واشنطن من نشر صواريخ باليستية على الحدود مع روسيا هو بمثابة محاولة لتقييد قدرات الأخيرة على الردع الاستراتيجي.
وفي المقابل، كانت ثمة دعوات ومحاولات من جانب إدارة "أوباما" لاسترجاع الحوار مع الجانب الروسي في هذا الشأن، ما أعطى أملاً في وجود فرصة للتعاون بين الطرفين الأمريكي والروسي حول مشروع الدفاع الصاروخي المشترك. وهذا ما دعا إليه حلق "الناتو" في قمة لشبونة عام 2010، ولكن لم يُحقق النتائج المُرجوة، حيث ما زالت روسيا ترفض أي نشر للصواريخ في أوروبا بالقرب من حدودها. ولكن ما دعت إليه موسكو هو إقامة نظام دفاع صاروخي مشترك يعطي لها دوراً في تأمين الجناح الشرقي للناتو (بولندا ودول البلطيق)، وهو بالطبع ما لن يقبله "الناتو" أو الولايات المتحدة.
الخلاصة، تحمل العقيدة العسكرية الروسية الحالية رسائل لفتئين من الجمهور، أحدهما في الداخل الروسي، والآخر خارجي. فداخلياً، تتمحور أولى رسائل الوثيقة العسكرية حول فكرة أن كل ما تمر به روسيا من أزمات وما تلعبه من أدوار في دول الجوار سببه السياسات الغربية التي تطمح دائماً إلى التوسع وتقويض النفوذ الروسي. أما الرسالة الثانية، ففحواها أن موسكو ستدافع عن مصالحها بكبرياء، ما يستدعي منها تطوير أسلحتها التقليدية والنووية.
وبالنسبة للجمهور الخارجي، فقد عبَّرت الوثيقة عن مخاوف روسيا بخصوص ما يدور في دول الجوار بشكل واضح، مُهددةً بأن أي تدخل من القوى الخارجية – وتحديداً "الناتو" - في المناطق الحيوية لروسيا قد يشكل لها حجة شرعية لاستخدام القوة العسكرية.
* عرض مُوجز لدراسة: "العقيدة العسكرية الروسية عام 2014 وما بعده: إدراك المخاطر، القدرات، والتطلعات"، والصادرة في يوليو 2015 عن كلية الدفاع التابعة للناتو.
المصدر:
Polina Sinovets and Bettina Renz, Russia’s Military Doctrine and Beyond: Threat Perceptions, Capabilities and Ambitions, (Rome, NATO Defense College, July 2015).