برزت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال السنوات الماضية كقوة مؤثرة في المشهدين الإقليمي والعالمي، وتنامى دورها بشكل متزايد في النظام الدولي، بحيث أصبحت طرفاً فاعلاً ومؤثراً في الكثير من القضايا الدولية، وشريكاً موثوقاً لدول العالم ومنظماته الدولية في مواجهة التحديات العالمية المتنامية، وتعزيز السلام والاستقرار والتنمية. وبرز هذا الدور بشكل واضح خلال الأزمتين الأخيرتين اللتين شهدهما العالم، وهما جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية- الأوكرانية. ويتناول هذا المقال مؤشرات ومظاهر تنامي الدور الخليجي في النظام الدولي، وصولاً إلى استشراف مستقبل هذا الدور خلال العام المقبل 2023.
تنامي الدور الخليجي:
شهد دور دول مجلس التعاون الخليجي تنامياً ملحوظاً في العديد من الملفات الإقليمية والعالمية خلال السنوات الأخيرة، مدفوعاً بمجموعة من العوامل المهمة؛ يأتي في مقدمتها ما تتمتع به هذه الدول من ثقل اقتصادي ومالي وما يتوفر لديها من موارد نفطية ضخمة. فوفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي وهيئات الإحصاء الخليجية، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج بالأسعار الجارية بنسبة 18.3% خلال عام 2021، ليبلغ نحو 1.68 تريليون دولار، مقابل 1.42 تريليون دولار في عام 2020، لترتفع نسبته في الاقتصاد العالمي إلى 1.75% في العام الماضي، مُحتلاً المرتبة الـ 12 عالمياً، مقارنةً بالمرتبة الـ 13 في 2020.
وجاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة الأولى بناتج محلي إجمالي بلغ 833.5 مليار دولار، تليها دولة الإمارات بناتج محلي 410 مليارات دولار، ثم قطر بـ 179.6 مليار دولار، والكويت بـ 135.4 مليار دولار، وسلطنة عُمان بـ 83.7 مليار دولار، وأخيراً البحرين بناتج محلي قدره 38.9 مليار دولار. وفيما يتعلق بالموارد النفطية، السلعة الاستراتيجية الأهم في العالم، تسيطر دول مجلس التعاون الخليجي على نحو 30% من الاحتياطيات النفطية العالمية المؤكدة، كما تعتبر من أكبر مُصدري النفط في العالم، لتكون بذلك اللاعب الأهم في أسواق الطاقة العالمية.
وقد عززت هذه القدرات الاقتصادية من نشاط ودور دول الخليج العربية ضمن التكتلات الدولية المهمة، حيث انضمت السعودية إلى "مجموعة العشرين"، التي تضم أكبر الاقتصادات العالمية، فيما أصبحت دولة الإمارات مراقباً في هذه المجموعة وشاركت في اجتماعاتها الأخيرة بفاعلية، كما سمحت هذه القدرات الاقتصادية والفوائض المالية التي راكمتها دول مجلس التعاون لحكوماتها بالقيام بأدوار فاعلة في تقديم المساعدات التنموية والإنسانية، وبناء شراكات اقتصادية فاعلة مع مختلف دول العالم بما عزز من دورها العالمي.
كما أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي مسرحاً لاستضافة العديد من الفعاليات الدولية المهمة، حيث أصبحت الإمارات أول دولة في الشرق الأوسط وأفريقيا تستضيف معرض "إكسبو 2020 دبي"، وتمكنت من جمع 191 دولة للمرة الأولى في تاريخ المعرض الممتد على 170 عاماً. كذلك استضافت قطر بطولة كأس العالم 2022، كأول دولة في الشرق الأوسط أيضاً، إلى جانب العشرات من الفعاليات الدولية المهمة الأخرى، والتي تعكس ثقة العالم في دول هذه المنطقة.
ومن بين العوامل أيضاً التي عززت من مكانة ودور دول مجلس التعاون الخليجي، شبكة العلاقات الخارجية الواسعة التي نجحت هذه الدول في بنائها مع القوى الدولية المختلفة، بشكل جعل منها شريكاً موثوقاً للعالم كله، بفضل سياساتها الخارجية المتوازنة والحكيمة، إلى جانب ما تتمتع به من استقرار سياسي وأمني مقارنةً بدول المنطقة المحيطة والعالم ككل، وهو الأمر الذي سمح لها بقيادة النظام الإقليمي العربي الذي مر العقد الماضي بواحدة من أسوأ مراحلة وأزماته، وتمكنت من التعامل بفاعلية مع أزماته المختلفة، مما عزز من الثقة في قدرات وسياسات دول الخليج.
ولم يقتصر الأمر فقط على عناصر القوة المادية، بل نجحت دول الخليج في تعزيز عناصر قوتها الناعمة، حيث جاءت دولة الإمارات في المرتبة العاشرة عالمياً والأولى إقليمياً في قوة التأثير، وفق مؤشر القوة الناعمة العالمي لعام 2022، لتعزز مكانتها كواحدة من أكبر دول المنطقة والعالم، من حيث التأثير الإيجابي والسمعة الطيبة. كما تملك السعودية قوة ناعمة كبيرة داخل العالم الإسلامي نابعة من كونها حاضنة للحرمين الشريفين.
وخلال الأعوام الأخيرة، برز الدور المتنامي لدول مجلس التعاون الخليجي في العديد من المظاهر، التي يصعب حصرها هنا، ولكن يمكن التوقف عند ثلاث أزمات دولية رئيسية، كان لدول الخليج الدور الأبرز فيها، كالتالي:
1- جائحة كوفيد-19، حيث كان لدول المنطقة، خاصةً الإمارات والسعودية، دورها الفاعل في دعم جهود مواجهة الجائحة عالمياً من خلال تقديم كل صور الدعم والمساندة للدول التي عانت وطأة الجائحة، حيث تحركت قوافل الإغاثة الإماراتية والسعودية والخليجية الأخرى لتصل إلى العديد من الدول، وهي مواقف أشادت بها جميع المنظمات الإنسانية والصحية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية.
2- الحرب الأوكرانية، إذ تبنت دول مجلس التعاون الخليجي سياسة خارجية محايدة، وهو ما أهّل دولة الإمارات والسعودية لتكون وسيطاً نزيهاً في محاولة احتواء هذه الأزمة ووقف الحرب، حيث قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، بزيارة إلى روسيا ولقاء الرئيس فلاديمير بوتين للوساطة وإيجاد حل للصراع، وهو ما أكد الدور العالمي للإمارات ودول الخليج عامة، كما نجحت الجهود السعودية في التوصل لاتفاق لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا.
3- تغير المناخ، وهذ الأزمة التي بدأت آثارها تظهر بوضوح في السنوات الأخيرة، حيث وقفت دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، موقف الدول المسؤولة والحريصة على مواجهة التحديات العالمية، فتعددت المبادرات التي أعلنتها الدولتان، ومن بينها وضع استراتيجيات لتحقيق الحياد المناخي. فيما أعلنت دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، في مطلع نوفمبر 2022، عن شراكتهما الاستراتيجية لاستثمار 100 مليار دولار في تنفيذ مشروعات للطاقة النظيفة تبلغ طاقتها الإنتاجية 100 جيجاوات في كل من دولة الإمارات والولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم بحلول عام 2035.
وبالتالي، فإن هذه الأزمات الثلاث أظهرت بوضوح الدور العالمي المتنامي لدول الخليج العربية، وأكدت أهميتها في مواجهة التحديات العالمية المشتركة.
توقعات 2023:
من المُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه التصاعدي للدور الخليجي في النظام الدولي خلال العام 2023، وذلك بالاستناد إلى مجموعة من الحقائق، وأبرزها ما يلي:
1- استمرار، وربما، تفاقم الأزمات الاقتصادية العالمية الناجمة عن الحرب الروسية- الأوكرانية، وتبعات جائحة كوفيد-19 التي لا تزال مستمرة، بما في ذلك مخاطر التضخم، والكساد العالمي. وفي هذه الحالة، فإن دول الخليج العربية، بما تمتلكه من قدرات اقتصادية وفوائض مالية كبيرة، سيكون لها دور أكبر في محاولة مواجهة هذه الأزمات، بالرغم من أنها قد تتأثر بها. كما سيكون لها دور أكبر في تنظيم وضبط أسواق الطاقة العالمية، لا سيما في ظل التداعيات الكبيرة للأزمة الأوكرانية على هذه الأسواق والمساعي الغربية لفرض عقوبات على النفط والغاز الروسيين.
2- سيكون لدول الخليج، وبصورة خاصة دولة الإمارات، دور أكبر في مواجهة ظاهرة التغيرات المناخية وقيادة الجهود العالمية في هذا الصدد، عندما تستضيف الدولة أعمال مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في دورته الثامنة والعشرين "كوب 28". وتستعد دولة الإمارات منذ الآن من أجل أن تكون هذه الدورة هي الأهم والأبرز ضمن الجهود الأممية لمواجهة ظاهرة التغير المناخي العالمي.
3- ربما تنضم دول الخليج، أو بعضها، إلى مزيد من التكتلات الدولية الصاعدة، مع سعي العديد من القوى الدولية إلى استقطابها لهذه التكتلات للاستفادة من القدرات المتوفرة لديها. فإلى جانب "مجموعة العشرين" التي تتمتع السعودية بعضويتها وتشارك الإمارات في اجتماعاتها، هناك تكتل "بريكس بلس" وهو تجمع موسع لمجموعة "بريكس" والتي تلقت بعض دول الخليج دعوات بالفعل للانضمام له، وهناك أيضاً الدور الإماراتي البارز في مجلس الأمن الدولي، وهذا بدوره سيعزز من الدور العالمي للمنطقة.
4- مع استمرار وتعقد الحرب الروسية – الأوكرانية، وعدم قدرة أي من الطرفين على حسم الصراع عسكرياً، ربما يكون هناك مجال أكبر لمواصلة جهود الوساطة الخليجية في هذا الملف، وستكون فرص تحقيق اختراق خليجي في هذا الصدد أكبر، ما يعزز من دور دول المنطقة، خاصةً دولة الإمارات.
5- تلعب دول مجلس التعاون الخليجي دوراً أكبر في تعزيز ونشر القيم التي تحض على التسامح والانفتاح وقبول الآخر ومواجهة خطابات الكراهية، وهو ما سيعزز من دورها في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.
6- ستواصل دول مجلس التعاون الخليجي جهودها في مجال بناء علاقات شراكة استراتيجية بناءة مع مختلف القوى الدولية، في إطار من التوازن الهادف للحفاظ على المصالح الوطنية والخليجية، وهو ما يعني مزيداً من الانخراط الخليجي في القضايا العالمية. وربما يكون الاتجاه أكثر نحو دول القارة الأفريقية، مع مواصلة تعزيز العلاقات مع القوى الآسيوية والغربية.
7- من شأن الخطط التنموية الطموحة التي تتبناها دول الخليج، وتركيزها على الاستثمار في الاقتصاد المعرفي والتكنولوجيا الحديثة، أن تعزز من قوة الاقتصاد الخليجي، ومن ثم قوة الدور الخليجي في النظام الدولي.
بشكل عام، يمكن القول إن الاتجاهات المستقبلية لعام 2023 تشير بوضوح إلى دور أكبر لدول الخليج في النظام الدولي، وهو أمر يمثل نتاجاً لسياساتها الخارجية والتنموية الحكيمة.