يترقب السودان الإفصاح عن وثيقة "إعلان دستوري" وشيك ينطوي على اتفاق بين المكون المدني، يمثله "ائتلاف قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي"، والمكون العسكري، والذي يهدف لإنهاء حالة الجمود السياسي في الخرطوم.
توافقات جديدة:
ثمة مؤشرات على تزايد فرص نجاح التسوية، التي يجري التفاوض حولها بين قوى الحرية والتغيير ومجلس السيادة الانتقالي، الذي يمثل المكون العسكري، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- اتفاق إطاري: أعلن القيادي في ائتلاف قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي، ياسر عرمان، في 16 نوفمبر 2022، أن هناك تفاهمات بين المكون العسكري والائتلاف بشأن توقيع "اتفاق إطاري" خاص بمسودة الوثيقة الدستورية، لافتاً إلى أن هذا الاتفاق سيتم التوقيع عليه خلال أيام بعد التشاور مع أطراف العملية السياسية كافة، قبل أن يعقبها التوقيع على اتفاق نهائي، خلال مدة لا تتجاوز الشهر، يتضمن النقاط والقضايا التفصيلية كافة.
ولم يتم الكشف عن تفاصيل الاتفاق، بيد أن التسريبات أشارت إلى أنه يتضمن التأكيد على إقامة دولة مدنية فيدرالية، وتشكيل مجلس وزراء مدني بشكل كامل، مع التأكيد على تبعية الأجهزة الأمنية لهذه السلطة التنفيذية، مقابل تقليص صلاحيات المكون العسكري في العملية السياسية وتركيز مهامه بالأساس على تسيير أعمال الحكومة، فضلاً عن دمج المجموعات المسلحة في جيش مهني موحد.
2- وثيقة الإعلان الدستوري: تمخض الاتفاق الجديد المرتقب بين المكونين المدني والعسكري عن ورشة العمل التي أشرفت عليها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانية، في سبتمبر 2022، والتي شهدت مشاركة ممثلين عن القوى السياسية والمدنية، وأفرزت "مسودة إعلان دستوري"، والتي لاقت ترحيباً من قبل مجلس السيادة، رغم إبداء بعض الملاحظات عليها، لكنها مثلت الركيزة الأساسية التي استند إليها الاتفاق بين الجانبين لاحقاً.
وأشارت تقارير إلى أن وثيقة نقابة المحامين عمدت إلى تقليص دور المكون العسكري في العملية السياسية بدرجة كبيرة، واستبعادهم عن أي تمثيل في السلطة التنفيذية، باستثناء مجلس الدفاع والأمن، مقابل توسيع صلاحيات رئيس الوزراء المدني.
3- فترة انتقالية جديدة: أعلنت الآلية الثلاثية، والتي تتضمن بعثة الأمم المتحدة "يونيتامس" والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد، أن الاتفاق السياسي المرتقب سيمهد الطريق أمام الإعلان عن مرحلة انتقالية جديدة، وتنص وثيقة "الإعلان الدستوري" على مراجعة اتفاق جوبا للسلام، والذي تم توقيعه في أكتوبر 2020، مع العمل على ضمان تحقيق العدالة الانتقالية، وتفكيك نظام البشير من مؤسسات الدولة كافة، فضلاً عن استرداد الأموال المنهوبة. وكشفت "الآلية الثلاثية" عن ترحيب المجلس السيادي السوداني بالمسودة، وإن أبدي بعض الملاحظات حولها، وهو ما أدى إلى إدخال بعض التعديلات على الوثيقة بشكل توافقي مع المكون المدني.
مؤشرات محفزة:
هناك جملة من المؤشرات التي ربما تدعم فرص نجاح هذه التوافقات الجديدة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- دعم الجبهة الثورية: مثّل إعلان الجبهة الثورية نيتها التوقيع على مسودة الإعلان الدستوري المرتقبة محدداً رئيسياً في ترجيح نجاح هذه التوافقات الجديدة بين المكونين المدني والعسكري، خاصةً أن الجبهة أبدت في السابق معارضتها للوثيقة، بسبب تخوفاتها من تقلص حصتها الحالية في السلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من الملاحظات التي أبدتها الجبهة على مسودة الإعلان، بيد أنها ألمحت إلى ضرورة تشكيل تحالف واسع يضمن نجاح العملية السياسية، مع الأخذ في الاعتبار الملاحظات التي أبدتها الجبهة، وإدخال التعديلات الممكنة على الإعلان الدستوري.
2- رسائل إيجابية للبرهان: عكس خطاب رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 22 نوفمبر 2022، رسائل إيجابية بشأن تسوية الأزمة السودانية، حيث أكد التزام المكون العسكري بالخروج من المشهد السياسي، والعمل على حماية المرحلة الانتقالية ودعم أي حكومة مدنية غير حزبية يتم التوافق عليها. وسبق وأن أعلن نائب مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في السابق، دعمه لمبادرة نقابة المحاميين.
3- استقلالية المكون العسكري: انطوت وثيقة نقابة المحاميين على بعض البنود الأساسية التي عززت دعم المكون العسكري لها، خاصةً فيما يتعلق بتوفير حصانة قضائية لأعضاء المؤسسات الدستورية، وربط محاكمتهم بموافقة المجلس التشريعي أو المحكمة الدستورية، ناهيك عن تخويل المكون العسكري مهام تنفيذ سياسات الإصلاح العسكري والأمني، بما في ذلك خطة تشكيل جيش وطني موحد.
4- دعم خارجي واسع: نالت مسودة الإعلان الدستوري دعماً خارجياً واسعاً من قبل الفواعل الدولية والإقليمية المعنية بالملف السوداني، بما في ذلك "الآلية الثلاثية" والاتحاد الأوروبي، والرباعية الدولية، التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية ودولة الإمارات العربية.
ويرتبط هذا الدعم الخارجي الموسع لوثيقة الإعلان الدستوري باتساع نطاق الأطراف الداخلية والخارجية المشاركة في عملية إعداد مسودة الوثيقة من قبل نقابة المحاميين، وهو ما جعلها تحظى بأكبر دعم داخلي وخارجي مقارنة بالمبادرات السابقة.
تحديات قائمة:
على الرغم من تعدد المحفزات الداخلية والخارجية الداعمة لإنجاح التسوية المرتقبة في الملف السوداني، فإن هناك عدة تحديات ربما تعرقل مساعي إنجاز الاتفاق السياسي المزمع، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- معارضة أطراف داخلية: هناك بعض الأطراف في الداخل السوداني التي لا تزال تعارض وثيقة الإعلان الدستوري، لعل أبرزها الحزب الشيوعي، والذي يصف هذه العملية بأنها تستهدف فقط إضفاء الشرعية على الحكم العسكري، وتأمين القائمين عليه من المحاكمات، فضلاً عن تجمع المهنيين السودانيين، وكذلك الحركات المسلحة، سواء تلك التي لم توقع على اتفاق جوبا للسلام 2020، مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان، برئاسة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان، جناح عبد الواحد نور، أو بعض الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، والتي اعتبرت الوثيقة تسعى لمراجعة اتفاق 2020، بما يهدد المكتسبات التي حصلت عليها.
2- معارضة التيار الإسلامي: يشكل التيار الإسلامي و"نداء أهل السودان"، بما في ذلك أنصار نظام البشير، أحد أبرز الأطراف المعارضة لهذه الوثيقة، باعتبار أن وثيقة "الإعلان الدستوري" المرتقبة ستقوض فرص عودة هذا التيار للعملية السياسية، ولعل هذا ما يفسر تصعيد التيار الإسلامي ودعوته للاحتجاج.
ويعكس ذلك الأمر انقلاب المكون العسكري على التيار الإسلامي وأنصار البشير، والذين كانوا يدعمون، في السابق، دور المؤسسة العسكرية في المرحلة الانتقالية. وانعكس هذا التحوّل في التصريحات الأخيرة للبرهان، والذي حذر خلالها الحركات الإسلامية والمؤتمر الوطني من التدخل في شؤون الجيش، فضلاً عن إعادة الرئيس السابق، عمر البشير، وقيادة حزب المؤتمر من المستشفيات إلى السجون.
3- تمسك لجان المقاومة بالاحتجاجات: لاتزال لجان المقاومة، التي تشكل تنظيمات شبابية غير حزبية، ترفض أي اتفاق لا يضمن إبعاد المكون العسكري بشكل كامل عن السلطة ومحاسبتهم عن أي انتهاكات سابقة، حيث تواصل عمليات الحشد والتظاهر ضد مجلس السيادة الانتقالي في الخرطوم.
4- مطالبة الجيش بتوافق المدنيين: أكد البيان الصادر عن المكون العسكري، في 25 نوفمبر الجاري، أن تحقيق التوافق بين المكونات السياسية في الداخل السوداني يمثل شرطاً رئيسياً أمام توقيع الاتفاق مع ائتلاف الحرية والتغيير، لافتاً إلى أن هذا الأمر لا يزال بعيد المنال في ظل استمرار رفض لجان المقاومة.
5- انقسامات التيار الداعم للاتفاق: يواجه التيار الداعم للاتفاق السياسي انقسامات داخلية أيضاً، والتي لا تزال تهدد فرص نجاح التسوية، إذ إن موقف حزب البعث العربي الاشتراكي، أحد مكونات الحرية والتغيير، لا يزال يتسم بالتردد في ظل وجود أطراف داخلية بالحزب أبدت تحفظها على بعض بنود الاتفاق. ولعل هذا ما انعكس في تصريحات المتحدث باسم الحزب، عادل خلف الله، والذي وصف المشهد الراهن بأنه يعكس فقط إطاراً عاماً لم يرق بعد إلى مرحلة الاتفاق، وأن الموقف النهائي للحزب سيتحدد بعد الإعلان عن المحصلة النهائية للوثيقة.
6- استمرار بعض القضايا الخلافية: لا تزال هناك بعض القضايا الخلافية التي لم يتم البت فيها بين المكون العسكري وائتلاف الحرية والتغيير – المجلس المركزي، ويفترض أن يتم التشاور بشأنها بعد توقيع الاتفاق الإطاري، تمهيداً للتوصل إلى الاتفاق النهائي، وتتعلق أبرز هذه القضايا بملف العدالة الانتقالية، وقضية تشكيل جيش وطني مهني وموحد، بالإضافة إلى ملف تفكيك النظام السابق، ناهيك عن الإشكالية المتعلقة بمستقبل اتفاق جوبا وعملية السلام.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من تعدد الأسماء المطروحة من قبل بعض المصادر كمرشحين محتملين لرئاسة الحكومة المدنية المرتقبة، فإن غالبية التقديرات تشير إلى أن هذه التحركات تسعى فقط للترويج لهذه الأسماء، وأنه حتى الآن لا تزال شخصية رئيس الوزراء الجديد محل خلاف بين أطراف العملية السياسية، فضلاً عن كون نجاح العملية السياسية الجارية لا يزال محل شك أيضاً في ظل تعدد العراقيل التي تهدد بإفشال الاتفاق المزمع، رغم إشارة بعض التقديرات إلى أن اتساع نطاق الدعم الداخلي والخارجي لهذه الوثيقة يدعم فرص نجاحها.